مهرجان مصري يُبرز قيمة الخط العربي في الفنون اليدوية

مشروع «القلم» يهدف لنشر جماليات الزخارف الإسلامية

يقدم المهرجان لأول مرة رؤية جديدة متخصصة للحرف التقليدية الإسلامية
يقدم المهرجان لأول مرة رؤية جديدة متخصصة للحرف التقليدية الإسلامية
TT

مهرجان مصري يُبرز قيمة الخط العربي في الفنون اليدوية

يقدم المهرجان لأول مرة رؤية جديدة متخصصة للحرف التقليدية الإسلامية
يقدم المهرجان لأول مرة رؤية جديدة متخصصة للحرف التقليدية الإسلامية

داخل مبنى أثري قديم، يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الثامن عشر، يُطل على مسجدي «السلطان حسن» و«الرفاعي»، في قلب القاهرة التاريخية، يقع المشروع الثقافي «القلم»، الذي لفت الأنظار إليه أخيراً في الساحة الفنية بمصر عبر نشاطاته وفعالياته الهادفة إلى نشر وتعليم فنون الخط العربي والزخرفة الإسلامية. وأطلقت إدارة المشروع الذي تتعاون فيه مصر مع هولندا، أمس (الثلاثاء)، النسخة الأولى من «مهرجان أصيل للحرف التراثية» بالتعاون مع المركز الثقافي الألماني بالقاهرة، ويقدم المهرجان لأول مرة رؤية متخصصة جديدة للحرف التقليدية المصرية، حيث يقتصر على تناول الفنون اليدوية القائمة على استخدام الخط العربي.
يعمل البرنامج الثقافي المتفرد «أصيل للحرف التراثية» على إعادة ربط النص العربي بجذوره التاريخية، وإيصاله بشكل متكامل إلى المستقبل الرقمي، وهو تعاون وطيد ما بين مشروع «القلم AlQalam» من القاهرة، و«ديكو تايب DECOTYPE» في أمستردام التي وضعت أول خط نسخي رقعي يدوي يستعمل في أنظمة النشر، وهي خطوط معروفة ومشهورة لدى مستخدمي الإصدار العربي من «Microsoft Office».
المهندس محمد وهدان، المدير التنفيذي لمشروع «القلم»، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «يسعى المشروع إلى تعزيز الحراك الخطي من خلال التدريب والتعليم وخلق أجيال جديدة من الخطاطين، وتشكيل منظومة داعمة لهم، إضافة إلى تنظيم المعارض والندوات التثقيفية، وتسويق الأعمال الفنية ورقمنتها».
وعن أسباب هذا الاحتفاء البارز بالخط العربي، يوضح وهدان: «اتجهنا إلى الاهتمام بالربط بين الخط العربي وجميع الفنون الأخرى باعتباره ملهماً ومحفزاً للفنان، فقد اتفق جميع الفنانين بمختلف أنواع فنونهم التعبيرية والتشكيلية وثقافاتهم، على أن الخط العربي من أكثر الفنون جمالاً وتناسقاً وجاذبيةً، حيث يتمتع بالمرونة وقابلية للمد والرجع والاستدارة والتداخل والتركيب، ما يجعله جاذباً لعين الفنان».
ويتميز الخط العربي بقدرته على مسايرة التطورات والخامات، فنرى أن من خصائصه مخالفة الطبيعة، والتجريد، والاستطراد، ما يمنح الفنان أيضاً الحرية الكاملة للتشكيل، الأمر الذي جعله قاسماً مشتركاً لكل الفنون العربية والإسلامية، حسب وهدان.
وفي مصر يوجد الكثير من الحرف المرتبطة بالخط العربي، على غرار النقش على الخشب والنحاس، كما تميزت أبنية العمارة الإسلامية بشكل عام في مصر بتوظيف عنصر النقوش الكتابية في الجوانب الداخلية والخارجية بالمباني.
كل هذه المعطيات دفعت مشروع «القلم» إلى إطلاق مشروع «أصيل» الذي جاءت ضمن مخرجاته سلسلة من الأفلام القصيرة المعدة باحترافية لرصد الحرف التراثية التقليدية والصناعات الإبداعية القائمة على الخط العربي والزخرفة الإسلامية في مصر.
ولم يكن الهدف من وراء ذلك الاكتفاء بالتوثيق الأكاديمي لهذه الحرف، إنما أيضاً أن تسهم هذه السلسة من الفيديوهات القصيرة في تعريف الجمهور داخل مصر وخارجها بهذه الصناعات والحرف.
ويتضمن مهرجان «أصيل للحرف التراثية» حلقات نقاشية مهمة، إضافة إلى العرض الأول في مصر لسلسة أفلام «جميل جمال»، وهي تضم عروضاً توثق 12 حرفة، من بينها: الكتابة على الجلد، والنقش على النحاس، والخيامية، واللوحات الخطية، والأويما (الحفر على الخشب)، والحفر على الرخام، والأبرو (الرسم على الماء)، والحصير السَّمار، وصناعة الأحبار الخطية، والصَّدَف، وتجليد الكتب التراثية، وحفر الأسماء عليها بالزنكوغراف يدوياً، والسيرما»، وفق ما قاله مصطفى كامل، الباحث في الحرف التراثية، ومؤسس مبادرة «يلّا على الورشة».
وأضاف كامل لـ«الشرق الأوسط»: «سيتم فتح المناقشة حول ما تم عرضه بحضور الحرفيين نجوم العرض، قبل أن يتم تكريم الفنانين المشاركين بالسلسلة».
في السياق نفسه، يقول أسامة غزالي، المدير التنفيذي لشركة «يدوية» وأحد شركاء مشروع «القلم»: «للمهرجان دور مؤثر في نشر الوعي، ولفت الأنظار إلى هذا الدمج الموجود على مر العصور بين الخط العربي والفنون التقليدية والتي تمتد إلى التفاصيل اليومية لحياة المصريين».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)