الحلقة (2) قذاف الدم يتذكر: الحسن الثاني وضع مبارك والقذافي في غرفة وأغلق عليهما الباب لتسوية خلافاتهما

أحمد قذاف الدم يروي لـ {الشرق الأوسط} مسيرة نصف قرن مع معمر القذافي

العقيد القذافي وقذاف الدم،  قذاف الدم والملك الحسن الثاني، مبارك وقذاف الدم
العقيد القذافي وقذاف الدم، قذاف الدم والملك الحسن الثاني، مبارك وقذاف الدم
TT

الحلقة (2) قذاف الدم يتذكر: الحسن الثاني وضع مبارك والقذافي في غرفة وأغلق عليهما الباب لتسوية خلافاتهما

العقيد القذافي وقذاف الدم،  قذاف الدم والملك الحسن الثاني، مبارك وقذاف الدم
العقيد القذافي وقذاف الدم، قذاف الدم والملك الحسن الثاني، مبارك وقذاف الدم

لم تكن معرفة أحمد قذاف الدم بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك معرفة عابرة، بل يمكن أن تقول إنها كانت مزيجا من العلاقات العسكرية والسياسية والأسرية أيضا، امتدت من جبهات القتال والتدريب سواء في مصر أو في ليبيا، رغم فارق السن بين الرجلين والذي يبلغ نحو ربع قرن، أو من خلال اللقاءات في ثكنات الجيش في الصحارى إلى جانب مقابلات قصور الحكم أو الفنادق في أوروبا وغيرها، بالإضافة إلى خيمة القذافي نفسه بطبيعة الحال. ومع ذلك لا يخفي قذاف الدم، وهو يتحدث لـ«الشرق الأوسط» أن العلاقة بين مبارك والعقيد معمر، كانت في كثير من الأحيان تبدو كأنها تسير إلى الهاوية، إلا أن الظروف تتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لكي تستمر العجلة في الدوران.. فقد كانت ليبيا تحتاج إلى مصر في أزماتها الكثيرة مع العالم الخارجي، وكانت مصر تحتاج إلى ليبيا بسبب نحو مليوني عامل مصري يعملون في ذلك البلد النفطي المهم. ويلخص قذاف الدم مجمل ذكرياته عن مبارك، قائلا عنه إن شخصيته تختلف عن شخصية السادات.. ويقول: زرت مبارك كثيرا، وفي أكثر من مكان.. مبارك كان يعمل بمثابرة.. أحيانا كنت أطلب موعدا فيعطيني موعدا في الساعة السابعة صباحا بسبب كثرة الاجتماعات التي عليه أن يرأسها أو يشارك فيها، سواء محلية أو تخص قضايا إقليمية أو دولية. كان يعمل من الصباح الباكر حتى التاسعة مساء.. هو إجمالا رجل بسيط في بيته ومأكله وحياته الخاصة.. وليس بتلك الصورة التي صورتها عنه وسائل الإعلام بعد تخليه عن الحكم. كان رجل جيش منضبطا في مواعيده والتزاماته.

يرفع مبارك القبعة العسكرية ويمسح العرق عن جبينه، ويمر على جنوده وطياريه تحت الشمس الحارقة.. كان ذلك في قاعدة طبرق داخل الأراضي الليبية في شهور الصيف في أوائل السبعينات.. ومن جانبه كان الرئيس السادات يبحث عن أي مدد يمكن أن يزيد من جرأته على خوض الحرب واجتياز المانع المائي وخط بارليف. كان يريد إخافة الإسرائيليين والأميركيين، لكن لم يكن لديه السلاح الغربي اللازم لاستكمال هذه العملية بالطمأنينة المطلوبة. وكان الضابط أحمد قذاف الدم وعدد من زملائه الليبيين، يترددون على الوحدات العسكرية الليبية والمصرية، سواء على جانبي الحدود، أو بعيدا حيث يحرس قذاف الدم مع واحدة من كتائب الدبابات المدخل الشرقي للقاهرة، بقيادة الفريق كمال حسن علي، الذي كان وقتها قد تدرج في عدة مواقع منها منصب مدير سلاح المدرعات وقائدا للفرقة 21 العسكرية المسؤولة عن إمداد الجيش المصري بالدبابات، وغيرها، حتى أصبح، فيما بعد، وزير خارجية مصر.
وشهدت تلك السنوات أكبر عملية تنسيق وتعاون بين الجيشين الليبي والمصري.. وفي تلك الأيام قابل قذاف الدم مبارك في قاعدة طبرق، وهي القاعدة المعروفة أيضا باسم «قاعدة ناصر».. كان مبارك يتفقد بين حين وآخر هذه القاعدة مع قادة عسكريين آخرين من أجل تنفيذ العديد من المهام التدريبية استعدادا للحرب في سيناء، بعد احتلالها من جانب إسرائيل عام 1967. وترقى مبارك بعد ذلك، أي في عام 1972 ليكون قائدا للقوات الجوية.
ويقول قذاف الدم: «قبل ذلك الوقت بنحو ثلاث سنوات كنت قد انتهيت من الدراسة في الكلية الحربية بمصر، والتحقت بالقوات المسلحة الليبية، وبالتحديد في إحدى كتائب الدبابات في لواء ناصر، في ضواحي طرابلس. ثم بعدها جرى تكليفي مع ضباط آخرين بالعديد من المهام السرية من أجل مساعدة مصر في الإعداد للحرب.. انتقلنا، كعسكريين ليبيين، إلى مصر، بالبحر عبر سفينة تابعة للقوات البحرية الليبية، توجهنا بها إلى الإسكندرية ليلا.. وكنا قد غادرنا بالسفينة ميناء طرابلس ثم بعد الاستراحة في ميناء بنغازي، واصلنا الإبحار شرقا.. كنا نتحرك كمتسللين حتى لا ترصدنا أجهزة المخابرات وتخطر إسرائيل حيث كان يمكن استهدافنا وضربنا في عرض البحر. كانت كل حركتنا بالسفينة ليلا.. وكان لا بد أن نصل إلى ميناء الإسكندرية في الليل أيضا، ومن هناك انتقلنا إلى القاهرة برا»..
ويضيف: «كنا قد بدأنا العمل مع القوات المسلحة المصرية منذ ما قبل حرب 1973.. كنا ضباطا وفي الوقت نفسه كانت لدينا مهام أخرى نقوم بها. وكان عبد الناصر قد مات مبكرا.. وبدأ الرئيس السادات في قيادة الدولة المصرية وفي الإعداد للحرب. وكانت هناك مهام وقت الاتحاد الثلاثي بين مصر وليبيا وسوريا.. وكان القذافي يقوم بزيارات في بعض الدول العربية للحشد للمساعدة في الإعداد للحرب التي كان مقررا لها عام 1971، كان متحمسا.. وكنا في سباق مع الزمن، من أجل جلب بعض الأسلحة الغربية التي لم تستطع مصر في ذلك الوقت أن تحضرها من الكتلة الغربية، وكانت ليبيا ما زال لديها علاقات مع الدول الغربية خاصة في أوروبا».
ويضيف أن التكليف بالمهام السرية كان يقوم بها في ذلك الوقت أحيانا قيادات مصرية أيضا، مشيرا إلى أن «ليبيا هي أول دولة عربية تفتح سوق السلاح الفرنسي أمام العرب، من خلال شراء أسلحة من فرنسا لمصر بطريق مستتر، أيام الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو (حكم من سنة 1969 حتى وفاته في 1974) واشترت ليبيا 100 طائرة ميراج، وأسلحة أخرى، ومنظومة دفاع جوي متحرك، وكانت كل طلبات مصر من الأسلحة الغربية يجري تلبيتها انطلاقا من ليبيا. وكانت ليبيا تتولاها من الغرب ومن روسيا أيضا مثل الزوارق المطاطية، وجسور العبور، والخراطيم التي تنسف خط بارليف، إضافة لاستيراد جرافات أميركية جرى استخدامها في إقامة سواتر ترابية للدبابات المصرية.
ومن ضمن المهام «التي قمنا بها»، كما يقول قذاف الدم.. «أننا جئنا في ذلك الوقت بالكلية الحربية المصرية إلى منطقة سوسة في ليبيا، في منطقة الجبل الأخضر في شمال وسط ليبيا، نقلناها بطلبتها وأساتذتها ومعداتها إلى هناك حتى تكون في مأمن أثناء الحرب. بينما تحولت قاعدة طبرق العسكرية لمركز أساسي لتدريب الطيارين المصريين».
ويضيف: «حين عقدنا صفقة طائرات الميراج الفرنسية، خصيصا لصالح مصر، كان لا بد أن يتدرب الطيارون المصريون عليها في فرنسا.. فأخذنا طيارين مصريين واستخرجنا لهم جوازات سفر ليبية، وأرسلناهم لفرنسا، وتدربوا هناك.. وكان ذلك في عام 1973، أي قبيل موعد الحرب بعدة أشهر. كانت هذه آخر صفقة مع الفرنسيين قبل الحرب. وأيضا كانت هناك وحدات عسكرية ليبية قرب مرسى مطروح غرب مصر من اللواء التاسع الليبي، وكذلك كتيبة من كتائب الصاعقة الليبية. وكان الوقود يأتي من ليبيا لمصر مجانا لتموين القوات المسلحة، بالإضافة إلى التبغ وكل المواد التي يحتاجها الجيش.. كنت أثق في النصر وأحلم بما هو أكبر مما تحقق بكثير. كنا نعتقد أننا سنسترجع سيناء بضربة واحدة».
وكان المعسكر الذي عمل فيه قذاف الدم في مصر أثناء حرب 1973 يقع على طريق الإسماعيلية، في شرق العاصمة المصرية، قائلا: «نحن لم نشارك في العبور، ولكن زملاءنا شاركوا، لأن مهمتنا كانت الدفاع عن القاهرة من الناحية الشرقية».
ووقعت بعد ذلك الخلافات الشهيرة في وجهات النظر حول توقف الحرب والمفاوضات مع إسرائيل، وعليه وقعت القطيعة بين ليبيا ومصر لسنوات، لكن زيارات قذاف الدم لمصر لم تتوقف، بما في ذلك ما تبقى من سنوات حكم السادات. ويقول إنه في فترة مبارك، الذي تولى الحكم منذ عام 1981 «استفدنا من أخطاء كثيرة حدثت في عهد السادات». لكن العلاقات لم تعد بين البلدين إلا في أواخر الثمانينات.. «وعليه قررنا أن نفصل بين الاختلاف السياسي ومصالح الناس، وأصبح لدينا أكثر من مليوني مصري يعملون في ليبيا. ووقعنا الاتفاقيات العشر، ومنها حرية الحركة والإقامة والتنقل دون قيد أو شرط.. وأصبح التنقل بين البلدين في بعض الفترات ببطاقة الهوية الشخصية (المحلية). والحقيقة مبارك أعاد العلاقة بين مصر والعرب». وجاء أول لقاء مباشر بين القذافي ومبارك، على هامش مؤتمر للقمة العربية في المغرب سنة 1989. ويقول قذاف الدم عن الترتيبات الخاصة بهذا اللقاء: «طبعا كان بيني وبين الرئيس مبارك لقاءات كثيرة في مصر أو خارج مصر وعبر الهاتف أيضا.. كنا نتواصل معه، وكنا نمتص كل المشاكل التي تحدث والفتن والدسائس. وفي الحقيقة عندما كنا ذاهبين، كوفد ليبي رسمي برئاسة القذافي، للقمة في المغرب، قام الملك الحسن الثاني، رحمه الله، بترتيب اللقاء مع الرئيس المصري، بعد أن كنت قد تناقشت مع الملك حول تجنب أي مشاكل قد تقع بين الأخ معمر والرئيس مبارك داخل اجتماع القمة.. واقترحت على جلالة الملك أن يلتقي مبارك والقذافي قبل الاجتماع، وذلك في غرفة مغلقة مع بعضهما البعض.. وبالفعل، وصل الأخ معمر، وبعده دخل الرئيس مبارك.. تصافحا، وهنا قام جلالة الملك بالدخول بهما داخل الغرفة، ثم تركهما وخرج، وأغلق الباب عليهما.. ووقفنا ننتظر ونترقب وننصت».
وفي الغرفة بدأ صوت كل من مبارك والقذافي يصل عبر الباب، وينقل كل طرف منهما للآخر كلمات فيها نوع من العتاب واللوم والمواجهة.. ويقول قذاف الدم: «طبعا أنا كنت قد أبلغت الأخ معمر بشخصية الرئيس مبارك وطريقته في التعامل وبساطته ووضوحه، ونحن كنا نعتبر أن الرئيس مبارك ورث وضعا يمكن تصنيفه كوضع يقع ما بين حالة عبد الناصر وحالة السادات، بالإضافة إلى ما ورثه من تداعيات الحروب والقطيعة مع العرب والوضع الاقتصادي في مصر.. وأشرت للأخ معمر أن مصر تحتاج إلى الوقوف معها ودعمها، وأن مصر القوية هي التي يجب أن تنهض ويجب دعم الرئيس مبارك والوقوف معه في هذه المرحلة. كما أن الأخ معمر جاء بهذه الروح.. ولذلك، بعد قليل، ونحن وقوف أمام باب تلك الغرفة التي فيها مبارك والقذافي، بدأنا نستمع إلى ضحكات تنبعث من داخلها. وهنا عاد الملك الحسن الثاني واصطحبهما إلى القاعة التي فيها الرؤساء، وانطلقت الاجتماعات.
وبعدها - كما يقول قذاف الدم - «وفي نفس الليلة، استدعاني الرئيس مبارك.. ذهبت إليه لآخذ انطباعه عن هذا اللقاء، وكان انطباعا إيجابيا، وقال لي: لقد اتفقت مع الأخ معمر على كل الأشياء، وفي اليوم التالي دعانا الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، على الغداء؛ الرئيس مبارك والأخ معمر.. وجلسا مطولا في نقاش لبعض التفاهمات، ثم عدنا من المغرب. وفي اليوم الذي يليه رتبنا قمتين بين مصر وليبيا على جانبي الحدود عقدت الأولى في مدينة مرسى مطروح والثانية في مدينة طبرق. وبعد ذلك بأيام قليلة جئت للقاهرة وحملت رسالة من الأخ معمر وأعلنا عودة العلاقات رسميا وفتح السفارات، واستمرت العلاقات منذ ذلك الوقت بزخم كبير. لكن الأساس في نجاحها هو أننا اتفقنا على الفصل بين العلاقات الثنائية وبين خلافاتنا فيما يتعلق بالعدو الصهيوني أو بعض الأمور التي تخص مصر في علاقاتها مع الدول وفيما يخصنا نحن أيضا.. وشهدت العلاقة في عهد حسني مبارك ازدهارا كبيرا وتعاونا في كافة المجالات».
لكن الخلافات اشتعلت فجأة، بين مصر وليبيا، مجددا، لكن هذه المرة ليس بسبب السلام مع إسرائيل، وإنما بسبب نيران الغزو العراقي للكويت سنة 1990 والتي كادت أن تحرق ملفات العلاقة الوليدة بين البلدين وذلك أثناء القمة العربية التي عقدت في القاهرة على عجل بشأن الموقف من الغزو. ويقول قذاف الدم: «في الحقيقة لم يكن أي من القاهرة وطرابلس على علم بعملية الغزو إلا بعد الاتصال الذي أجريته مع القذافي ومبارك، وذلك عقب علمي بالموضوع بمحض الصدفة، حين أخبرني أحد أصدقائي ممن يديرون سلسلة فنادق عالمية، بدخول الجيش العراقي الكويت».
يوضح قذاف الدم: «كنت في بيتي بالقاهرة عندما تلقيت ذلك الاتصال. وقال لي صديقي إن الجيش العراقي يقف أمام الفندق في الكويت الآن. وأجريت اتصالات حتى تأكدت. بل تحدثت مع مدير الفندق في الكويت، وقال لي إنه يمكنه أن ينادي على أحد الضباط العراقيين الذين أصبحوا يتمركزون أمام الفندق لأتحدث معه. وهنا اتصلت بأصدقائي في القاهرة، فلم يكن لديهم علم، ثم اتصلت بالأخ معمر، ولم يكن لديه علم أيضا، لكنني أكدت له صحة المعلومات بشأن وقوع الغزو.. ومنذ تلك الليلة بدأت التداعيات، وقال لي الأخ معمر إنه سيبدأ في الدعوة لقمة عربية طارئة وطلب مني أن أتصل بالرئيس مبارك، لكن الوقت كان متأخرا، وكان الرئيس نائما، فتركت خبرا للرئاسة حيث اتصلوا بي في نحو الساعة السادسة صباحا وطلبوا مني الحضور لمقابلة مبارك، ورويت له ما حدث، فاتصل بالأخ معمر، وكان الوقت ما زال مبكرا في ليبيا، بسبب فرق التوقيت، وقال لي مازحا: (كنتم تريدون إيقاظي في منتصف الليل.. حسنا سوف أوقظ معمر من نومه الآن). لكن حين طلبه وجده مستيقظا، وقال له إنه لم ينم منذ أمس، وأن العديد من الزعماء وافقوا على حضور القمة، وأنه سيتوجه للقاهرة حالا ليكون أول الحاضرين..
وكان صدام حسين بعث بكلمته للقمة مكتوبة وجرى توزيعها عن طريق الوفد العراقي على الأعضاء، وكانت عبارة عن ألغام وهجوم على القادة العرب، وتسببت في انقسامات حادة في مواقف الدول العربية، بشكل كان يهدد بالفشل في اتخاذ قرار يترقبه الملايين في منطقة الشرق الأوسط على الأقل. ولجأ مبارك، الذي كان يدير الجلسة، إلى غلق باب النقاش لأنه كان يستغرق وقتا طويلا من جانب كل متحدث دون جديد. وقرر طرح قرارات القمة للتصويت عليها، وهو أمر رفضه القذافي». ويقول قذاف الدم الذي حضر هذه الوقائع: «أخطر نقطة مرت علينا، في العلاقات المصرية الليبية أيام مبارك، كانت في القمة العربية الخاصة بغزو العراق للكويت».
ويضيف: بدأت مجريات القمة، ووقعت مشادة كبيرة.. فالرئيس صدام (الذي لم يحضر وحضر وفد عراقي نيابة عنه) بعث خطابا يحمل كلمته، وجرى توزيعه على الرؤساء داخل القاعة، مما تسبب في رفع درجة الحرارة، لأنه كان يتضمن هجوما على بعض الرؤساء وعلى الرئيس مبارك نفسه. وبعد ذلك الرئيس مبارك استُفز، وأسرع بغلق النقاش، واحتج معمر على ذلك في القاعة، وبدأت مشكلة كبيرة ورفع مبارك الجلسة، إلا أن معمر بقي داخل القاعة غاضبا وكان معه الرئيس عرفات ومجموعة من الرؤساء.. الحقيقة أنا خرجت مسرعا، ولحقت بالرئيس مبارك، وكان قد اقترب من ركوب سيارته أمام قاعة المؤتمرات، فتحدثت معه وكان منفعلا أيضا، وقلت له إن الأخ معمر زعلان وجالس في القاعة، ولا ينبغي ذلك، ولا يصح تركه هكذا، لأنه في النهاية هو ضيفك. ولم يكن مبارك وحده الذي يشعر بالضيق والانفعال من مجريات القمة ومن تداعيات الغزو العراقي، بل كان غالبية الحضور يرون أن الحدث جلل، ويمكن أن يجر على المنطقة ويلات لا يعلم مداها إلا الله، ويبدو أن مبارك تحدث عن هذه المخاوف مع عدد من الزعماء في ردهات القمة قبيل انعقادها. كما أن البرقيات التي كانت ترد للزعماء لحظة بلحظة عن التطورات، لا تبشر بخير. وكان الحمل ثقيلا على الجميع. وتوقف مبارك على صوت قذاف الدم، ولم يركب السيارة، وظل يستمع إليه واقفا، وبعد أن هدأ قليلا اتخذ قراره بالعودة في محاولة لتطييب خاطر القذافي. ويقول قذاف الدم: «في الحقيقة استجاب الرئيس مبارك، وعدنا سويا إلى القاعة.. وبينما نحن في الطريق، قابلنا الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، وكان نحيفا ذا شعر يميل للبياض ونظرة عسكرية ثاقبة، فلاحظ وجود جدل بيني وبين الرئيس مبارك وأنا أمسك بذراعه، فسأل: ما لكم؟ ما الذي يجري؟ فقلت له إن الأخ معمر زعلان وما زال هناك لا يريد أن يغادر القاعة، فقال لي: لا.. لا.. لا يجب أن نترك أخانا. فدخلنا نحن الثلاثة.. وكان الموقف محتدا وصعبا، وكان معمر ما زال غاضبا.. وبدا أن غضبه ازداد عن ذي قبل، لكن بدخول مبارك وبن جديد إلى القاعة والتوجه إليه، بدأت أساريره تنفرج، ثم قاموا بتجاذب أطراف الحديث معه عن مجريات القمة وما كان يجب وما لا يجب، وهدأ ذلك من غضب القذافي. وأنا كنت أخشى، لو عدنا إلى ليبيا بعد القمة مباشرة، ودون لقاء مبارك والقذافي، أن تنتهي العلاقات بين البلدين من جديد وهي ما زالت في المهد.
لكن ثورة القذافي كانت تستعر في داخله، على عكس ما كان يبدو للجميع من رضا، وكان قد حزم أمره على الرحيل من مقر القمة إلى المطار فطرابلس رأسا، وليس إلى الفندق كما كان مقررا. وأمر بإعداد طائرته لكي تطير به إلى طرابلس. وقال: «جهزوا الطائرة!». ويضيف قذاف الدم أنهم خرجوا من القاعة، وركبوا السيارة الطويلة مع مبارك، حتى ينسى القذافي موضوع المطار، «وكنت بصحبتهما، أنا وأسامة الباز أيضا (سكرتير الرئيس مبارك للمعلومات)». لكن أحمد قذاف الدم احتال في الأمر للإبقاء على القذافي مزيدا من الوقت في مصر ومع مبارك، لأنه كان يعلم أنه لو سافر إلى ليبيا وهو على هذه الحالة من الغضب، فإن العلاقة مع مصر ستكون قد انتهت.
ويشرح ملابسات هذه الحيلة التي أفضت إلى عقد قمة مصغرة في الإسكندرية بشأن استكمال تدارس الوضع في العراق، مشيرا إلى أن هذه القمة لم يكن مخططا لها أصلا. ويضيف موضحا أنه حين وجد أن القذافي ما زال غاضبا من مبارك، قال له، وهو معهم في السيارة التي كانت تعبر الشوارع في اتجاه الفندق وليس المطار، إن هناك قمة مصغرة يوم غد، ويجب أن نشارك فيها، فسألني القذافي وقد تفاجأ: «قمة! لماذا؟ ألم نكمل القمة هنا وانتهينا».. فقلت له: نريد أن نجلس من أجل استخلاص النتائج وما قد يحدث بعد هذه القرارات التي اتخذناها في قمة القاهرة، وقلت له أيضا إن الرئيس حافظ الأسد والرئيس الشاذلي بن جديد سيحضران أيضا.
وهنا التفت مبارك وقال للقذافي: «صحيح.. إلى أين أنت ذاهب، ونحن لدينا قمة مصغرة يوم غد». ووصلت السيارة للفندق، ونزل معمر ودخل إلى الجناح الخاص به، بعد أن شيعه الرئيس مبارك في البهو.. وحين بدأ مبارك يخطو عائدا في اتجاه الباب الخارجي، تبعته لأودعه، فوقف أمام الفندق، أي قبل أن يركب السيارة، وقال لي: «ما هي حكاية القمة المصغرة التي تتحدث عنها؟ ألم ننته من القمة اليوم؟». فقلت له: «لا.. اتفقت أنا والدكتور أسامة الباز أن نعمل غدا قمة مصغرة». ويضيف قذاف الدم أن الباز كان في هذا الوقت يقف إلى جواره، فسأله الرئيس مبارك: «إيه الموضوع يا أسامة.. قمة إيه؟». فقال له: «نعم، سيادتك.. نلتقي بكرة مجموعة من الرؤساء الذين يحبون الحضور، في اجتماع غير رسمي، نناقش الأمور». فأجاب مبارك قائلا: «خلاص.. لكن في الإسكندرية وليس هنا». فقلت له: «هذا أفضل». وبعد أن ركب مبارك السيارة ومضى، أمسك أسامة بيدي، وسأل مستهجنا كل الملابسات الخاصة بموضوع القمة الذي لم يكن له أصل، وقال لي: «ماذا تفعل».. وأضاف باللهجة المصرية منزعجا: «إيه اللي بتهببه ده؟» فقلت للباز: «لا مشكلة.. القذافي ومبارك أصبحا موافقين على القمة المصغرة في الإسكندرية.. أنت هات رئيس وأنا آتي برئيس، ودعنا ننجز هذه القمة».
وجرى الاتصال من جانب أحمد قذاف الدم وأسامة الباز بكل من الرئيس حافظ الأسد ووافق، وكذا وافق الرئيس الجزائري والرئيس الفلسطيني عرفات.. ويقول قذاف الدم: «أصبح هناك خمسة رؤساء.. وذهبنا بالطائرات من القاهرة، ونزلنا في قصر المنتزه بالإسكندرية. وعقدنا القمة هناك، وتناولوا الغداء، ثم غادروا، بينما بقينا نحن في الإسكندرية، أي الجانب الليبي والجانب المصري، وعالجنا الحالة الثنائية التي بين مصر وليبيا قبل أن تتفاقم في تلك الظروف الدقيقة.
وفي الإسكندرية أيضا جرى توضيح الصورة بشكل أكثر تفصيلا للقذافي لأنه كانت لديه شكوك في أن الولايات المتحدة الأميركية تدخلت في القرار الذي وافقت عليه تلك القمة العربية الخاصة بقضية غزو العراق للكويت. وجرى شرح الموقف للقذافي بأن سبب التوتر أساسا كان توزيع رسالة داخل القاعة فيها تهديد من الرئيس صدام، موجهة ضد بعض الرؤساء بالاسم وفيها نوع من الاستفزاز. ويقول قذاف الدم: «كنا ضد غزو صدام حسين للكويت، وكنا أيضا ضد الوجود الغربي الأميركي في المنطقة، لأنهم إذا دخلوا لن يخرجوا. وهذا الذي أوصلنا إلى كل تلك الخلافات».
وبعد مضي نحو أربعين عاما من أول لقاء له مع مبارك في شرق ليبيا، يقول قذاف الدم إن الرجل ظل، حتى تخليه عن الحكم في 2011، «هو نفس الشخص الذي قابلته في قاعدة طبرق.. لم يتغير ولم يغتر، وكان حريصا، كما هو، ويتابع كل الأشياء بدقة وبنفسه.. وأذكر واقعة لا أنساها، لأنها تحضر إلى ذهني كلما قرأت ما يكتب عن تبذير مبارك وإسرافه وتبديده للمال العام.. وهذه الواقعة كانت حين قابلته في التسعينات على هامش مؤتمر غير رسمي عقد في أوروبا، وكان المؤتمر لمدة يوم واحد، وكان هو يريد أن يغادر في نفس اليوم.. فطلبت منه أن يرتاح، وقلت له: «يا ريس.. لماذا تسافر في نفس اليوم.. ابق يوما أو يومين. هذه بلد جميلة وارتح قليلا، ونذهب غدا للغداء في مطعم أو في مكان مريح.. كما تحب».
ويتابع قذاف الدم: «هنا، أي بعد أن أنهيت كلامي، صمت مبارك قليلا، ثم قال لي: فكرة جيدة.. وبعدها سكت مرة أخرى لفترة أطول كأنه يفكر تفكيرا عميقا، ثم قال: لا.. لا أستطيع.. لدينا شغل كثير والتزامات. فقلت له إن الالتزامات لن تنتهي.. فأجاب قائلا: انظر يا أحمد.. هل تعرف كم تبلغ تكلفة الإقامة لليلة واحدة في هذا الفندق؟ في إشارة إلى ارتفاع سعر المبيت ليلة في ذلك الفندق. وقرر أن يرجع إلى مصر في نفس اليوم». ويضيف قذاف الدم: «لا أنسى هذه الكلمات التي قالها لي، وأنا أستمع إلى الذين يتهمونه بأنه أخذ مليارات.. أنا أثق في أنه كان حريصا على المال العام.. الرجل الآن يخضع للمحاكمة، وقد لا يفيدني في شيء، ولكن لا أستطيع، بعد أن عرفت هذه الأشياء عنه، إلا أن أقولها للتاريخ».

الحلقة (1): قذاف الدم يروي لـ«الشرق الأوسط» بداية التوتر بين السادات والقذافي.. واجتماع ميت أبو الكوم


«اتفاق غزة»: الوسطاء يبحثون عن حل لتعثر «المرحلة الثانية»

فلسطينيون يسيرون على طول زقاق موحل في مخيم مؤقت يؤوي نازحين فلسطينيين بعد هطول أمطار غزيرة بحي الزيتون بمدينة غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يسيرون على طول زقاق موحل في مخيم مؤقت يؤوي نازحين فلسطينيين بعد هطول أمطار غزيرة بحي الزيتون بمدينة غزة (أ.ف.ب)
TT

«اتفاق غزة»: الوسطاء يبحثون عن حل لتعثر «المرحلة الثانية»

فلسطينيون يسيرون على طول زقاق موحل في مخيم مؤقت يؤوي نازحين فلسطينيين بعد هطول أمطار غزيرة بحي الزيتون بمدينة غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يسيرون على طول زقاق موحل في مخيم مؤقت يؤوي نازحين فلسطينيين بعد هطول أمطار غزيرة بحي الزيتون بمدينة غزة (أ.ف.ب)

تتواصل جهود الوسطاء للدفع نحو المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة المبرم قبل نحو شهرين، وسط حديث إسرائيل عن أن هناك تعثراً وشروطاً إسرائيلية للانتقال لتلك المرحلة.

تلك الجهود التي تشمل تحركات واتصالات أميركية ومصرية بخلاف اجتماع عسكري بالدوحة، تعزز فرص التوصل إلى حل لإنهاء تعثر المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، بحسب ما يرى خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، معتقدين أن هناك ترقباً للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب، برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لحسم الانتقال من عدمه.

وعاد الحراك الأميركي بشأن غزة مكثفاً، وأطلع ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، مبعوثا ترمب، وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الاثنين، على المستجدات بشأن اتفاق غزة خلال مؤتمر عبر الفيديو، وفق ما نقلته وكالة «رويترز».

فلسطيني يجمع قوالب الخرسانة الخفيفة لبناء مأوى لعائلته قبل حلول فصل الشتاء في مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

وذكرت هيئة البث الإسرائيلية أن توم برّاك مبعوث ترمب يصل إلى إسرائيل، الاثنين، لبحث بدء المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، مؤكدة أن «الزيارة بالغة الحساسية، وتقيّم مدى استعداد إسرائيل للتقدم نحو المرحلة الثانية، وتعكس نفاد صبر الرئيس ترمب إزاء تعثر الانتقال إلى المرحلة التالية من خطته لقطاع غزة، وستناقش قوات الاستقرار بغزة».

وأوضحت أن «برّاك يرى أن تركيا يجب أن تكون جزءاً من قوة الاستقرار، بفضل قدراتها العسكرية ونفوذها في غزة، ولكن إسرائيل تعدّ ذلك خطاً أحمر، إذ ترى أن أي طرف يحتفظ بعلاقات مع (حماس) لا يمكن أن يُصنف قوةَ استقرار، وإشراكه (في القوة الدولية) قد يقوض الاتفاق».

ورأت الهيئة زيارة برّاك، رغم أنه مهتم أكثر بشؤون سوريا ولبنان، «خطوة تحضيرية مباشرة للقاء المرتقب بين نتنياهو وترمب بفلوريدا في 29 ديسمبر (كانون الأول) الحالي»، في ظل انشغال ويتكوف وكوشنر بملف أوكرانيا.

وتأتي تلك الزيارة عشية استضافة الدوحة اجتماعاً للقيادة المركزية الأميركية، بمشاركة 25 دولة، الثلاثاء، لبحث هيكل القيادة وقضايا أخرى متعلقة بقوة الاستقرار في غزة، بحسب ما ذكره مسؤولان أميركيان لـ«رويترز» قبل أيام.

وسبق أن تحدثت القناة «14» الإسرائيلية أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بأن الولايات المتحدة حددت منتصف يناير (كانون الثاني) المقبل، موعداً لبدء انتشار «قوة الاستقرار الدولية» في غزة، ونهاية أبريل (نيسان) المقبل موعداً نهائياً لإتمام عملية نزع السلاح من القطاع، مشيرة إلى أن ذلك طموح منفصل عن الواقع، في إشارة إلى إمكانية تأجيله مجدداً.

ويرى مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير حسين هريدي، أن المساعي الأميركية تعكس وجود ضغوط لتسهيل التفاوض بشأن المرحلة الثانية، التي تبدو معقدة للغاية مع مساعي نزع سلاح القطاع وتشكيل قوات الاستقرار ولجنة إدارة القطاع، مشيراً إلى أن «تلك الملفات لم تحسم بعد، وليست هناك ملامح بشأن إنجازها قريباً والأمور ضبابية».

ويعتقد المحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور أيمن الرقب، بأنه «أياً كانت المساعي فيجب أولاً وقف التماهي بين إسرائيل والولايات المتحدة، وأن تضغط واشنطن بقوة على نتنياهو، غير ذلك ستذهب التحركات الأميركية بلا نتائج مؤثرة، خصوصاً أن هناك حديثاً عن توجه للقفز للبند 17 من اتفاق غزة الذي يسمح ببدء تحركات فردية إسرائيلية في أماكن سيطرتها وإعمارها، وهذا أمر خطير».

ووسط تلك المساعي الأميركية، والمخاوف، أكد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي خلال اتصال هاتفي، الاثنين، مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أهمية ضمان استدامة وقف إطلاق النار، وتنفيذ استحقاقات المرحلة الثانية من خطة ترمب، وأهمية نشر قوة الاستقرار الدولية المؤقتة لمراقبة وقف إطلاق النار، وفق بيان لـ«الخارجية» المصرية.

ونقلت هيئة البث الإسرائيلية، الاثنين، عن مصدر أمني، أن تنفيذ المرحلة الثانية «غير وشيك»، مع استمرار مساعي إسرائيل لاستعادة جثة الرهينة ران غويلي، التي تعد آخر جثة تطالب باستعادتها من قطاع غزة، فيما أفاد موقع «والا» العبري بأن تل أبيب تربط التقدم في الاتفاق باستعادة الجثة.

ويرى السفير هريدي أن إسرائيل تتعمد إفساد التوجه للمرحلة الثانية بتلك الذرائع، مشيراً إلى أن «القاهرة تعمل على إنهاء تلك الذرائع وتوسيع دائرة التحركات، لدفع واشنطن نحو إجبار نتنياهو على تنفيذ الاتفاق، وهذا سيتضح أكثر خلال لقاء القمة مع ترمب أواخر الشهر».

وشدد الرقب على أن «محددات المرحلة الثانية 3 أمور رئيسية؛ هي وصول قوات الاستقرار، وتشكيل لجنة إدارة القطاع، ووجود جهاز شرطي فلسطيني لتسلم غزة، وجميع ذلك لم يحدث، وبالتالي سيتأخر الانتقال لتلك المرحلة، ما لم يحسم ترمب الأمر مع نتنياهو خلال القمة المرتقبة».


الحد الأدنى للأجور يفجر تراشقاّ كلامياً بين ملياردير وبرلماني في مصر

مطالبات في مصر بإعادة النظر في الحد الأدنى للأجور (أرشيفية - رويترز)
مطالبات في مصر بإعادة النظر في الحد الأدنى للأجور (أرشيفية - رويترز)
TT

الحد الأدنى للأجور يفجر تراشقاّ كلامياً بين ملياردير وبرلماني في مصر

مطالبات في مصر بإعادة النظر في الحد الأدنى للأجور (أرشيفية - رويترز)
مطالبات في مصر بإعادة النظر في الحد الأدنى للأجور (أرشيفية - رويترز)

تفجّرت مشادة كلامية بين رجل الأعمال المصري البارز نجيب ساويرس، وعضو مجلس النواب مصطفى بكري، حول قيمة الحد الأدنى للأجور في البلاد.

وبدأت المهاوشة على خلفية دعوة ساويرس لرفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 ألف جنيه شهرياً (الدولار يساوي نحو 47.48 جنيه)، إلا أن الرد من بكري جاء لاذعاً، متهماً رجل الأعمال بـ«البطولة الوهمية»، مطالباً إياه بأن يبدأ بنفسه بتطبيق الحد الأدنى في شركاته قبل أن يطالب الدولة.

رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس (صفحته الرسمية)

كان نجيب ساويرس قال قبل أيام، خلال كلمته في مؤتمر توظيفي، إن مؤسسة «ساويرس للتنمية الاجتماعية» تواصل جهودها في دعم وتأهيل الشباب لسوق العمل، بما يسهم في رفع دخولهم من مستويات متدنية قد لا تتجاوز ألفي جنيه إلى نحو 14 و15 ألف جنيه، وهو ما اعتبره «الحد الأدنى الضروري للمعيشة وضمان حياة كريمة للمواطن في ظل التضخم الحالي».

وقرر «المجلس القومي للأجور» في فبراير (شباط) الماضي زيادة الحد الأدنى من 6 آلاف جنيه لتصل إلى 7 آلاف جنيه بدأ تطبيقها في مارس (آذار) الماضي.

وتأتي دعوة رجل الأعمال المصري وسط مطالبات مجتمعية وبرلمانية متزايدة برفع مستويات الدخل في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية والخدمات وتكاليف المعيشة، ومع تذبذب مؤشرات التضخم.

وأصدر البنك المركزي المصري، الأربعاء الماضي، بالتنسيق مع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بيان التضخم عن نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي أظهر استمرار التراجع الطفيف في وتيرة ارتفاع الأسعار؛ حيث بلغ معدل التضخم السنوي في الحضر 12.3 في المائة مقارنة مع 12.5 في المائة في أكتوبر (تشرين الأول) السابق عليه.

ورغم أن مطلب ساويرس لاقى دعماً شعبياً واسعاً، وهو ما اتفق عليه أيضاً البرلماني والإعلامي مصطفى بكري، فإنه أضاف في تغريدة له على حسابه بمنصة «إكس»، موجهاً حديثه لرجل الأعمال: «ما رأيك أن تبدأ أنت بالمبادرة وترفع رواتب الموظفين عندك»، واتهم ساويرس بأن رواتب الأغلبية لديه «لا تتعدى 5760 جنيهاً شهرياً، وهناك من هو أقل من ذلك».

وأثارت هذه المهاوشة الافتراضية تفاعلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انقسمت الآراء بين من يرى أن ساويرس يسلط الضوء على قضية فعلية تتعلق بضعف الأجور، ومن يعتبر أن بكري محق في مطالبته لرجل الأعمال بأن يكون قدوة في مؤسساته الخاصة قبل أن يطالب الدولة بالتغيير.

وأيد كثير من نشطاء التواصل الاجتماعي أن يكون الحد الأدنى للأجر 15 ألف جنيه، وتمنوا أن يصل صوت ساويرس إلى المسؤولين في مصر.

كما تفاعل عدد من الإعلاميين مع ما نادى به رجل الأعمال، وقال الإعلامي عمرو أديب، خلال برنامجه «الحكاية»، مساء الأحد، «إن مصر تحتاج إلى وزارة للرحمة، وأن المجتمع المصري لن ينجو بالاقتصاد ولكن سينجو بالرحمة».

وأشار إلى أنه طالب بهذا الرقم قبل سنوات ما عرضه للانتقاد وقتها، موضحاً «أن الحد الأدنى الحالي للأجور البالغ 7 آلاف لا يطبق في أغلب الشركات».

بدوره، قال الإعلامي محمد علي خير، في برنامجه «المصري أفندي»، إن ملف الأجور في مصر أصبح أحد أخطر ملفات العدالة الاجتماعية، مشدداً على أن الدخول الحالية لم تعد قادرة على تلبية الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، خصوصاً للشباب المقبل على الزواج.

وأضاف: «الحديث عن أجور 4000 و5000 و6000 و7000 جنيه لم يعد مقبولاً في ظل الغلاء الحالي وتراجع القدرة الشرائية»، مؤكداً أن الأجور في مصر تحتاج إلى تغيير جذري وليس حلولاً شكليةً.

كما تبادل العديد من النشطاء الرؤى حول الحد الأدنى المناسب للراتب، لضمان حياة كريمة للملايين من العاملين.

وتطور الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص المصري منذ إقراره لأول مرة في يناير (كانون الثاني) 2022، حيث بدأ بـ2400 جنيه، ثم ارتفع إلى 2700 جنيه في يناير 2023، و3000 جنيه في يوليو (تموز) 2023، ثم 3500 جنيه في يناير 2024، و6000 جنيه في مايو (حزيران) 2024، ليصل إلى 7000 جنيه اعتباراً من مارس 2025.

في المقابل، انتقد بعض المدونين كلمات بكري المنتقدة لمطلب رجل الأعمال البارز، مطالبين إياه بمساندة ساويرس في كلامه بدلاً من السخرية منه. كما طالبه آخرون، كونه إعلامياً بارزاً وصوتاً للمواطن في البرلمان، بفتح النقاش عن الحد الأدنى للرواتب والمعاشات.

بينما سخر طرف ثالث من المهاوشة الافتراضية، لافتين إلى أن طرفيها رجلان يملكان الملايين، ويتنازعان حول أجور ومستحقات البسطاء، في حين أن المحصلة النهائية ستكون غياب أي نتيجة إيجابية من الطرفين.


أزمة تمويل تهدد معيشة اليمنيين خلال العام المقبل

فجوة كبيرة في التمويل الدولي الموجه إلى المساعدات وأعمال الإغاثة في اليمن (إ.ب.أ)
فجوة كبيرة في التمويل الدولي الموجه إلى المساعدات وأعمال الإغاثة في اليمن (إ.ب.أ)
TT

أزمة تمويل تهدد معيشة اليمنيين خلال العام المقبل

فجوة كبيرة في التمويل الدولي الموجه إلى المساعدات وأعمال الإغاثة في اليمن (إ.ب.أ)
فجوة كبيرة في التمويل الدولي الموجه إلى المساعدات وأعمال الإغاثة في اليمن (إ.ب.أ)

على الرغم من أن التدخلات التنموية في اليمن تمكّنت من إحداث فارق ملموس في تحسين سبل العيش، تزداد تحذيرات وكالات الأمم المتحدة من اتساع فجوة تمويل الأعمال الإنسانية في اليمن، مع سعيها إلى الاستجابة الطارئة لحماية الأطفال والفئات الأكثر هشاشة من الوصول إلى مستويات شديدة من نقص الاحتياجات.

نفاد الإمدادات

وأعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) عن حاجتها إلى 126.25 مليون دولار، لتنفيذ خطتها الإنسانية في البلاد للعام المقبل، وضمان استمرار خدمات الصحة والتغذية والمياه والتعليم والحماية لملايين الأطفال الذين يعتمد غالبيتهم على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، محذرة من أن استمرار التدهور قد يحرم أعداداً متزايدة من الرعاية الأساسية.

وتراجعت حاجة «اليونيسف» إلى تمويل نشاطها في اليمن للعام المقبل بنسبة 40 في المائة عن العام الحالي، الذي طلبت فيه تمويلاً بمبلغ 212 مليون دولار.

ونبهت المنظمة الأممية إلى أن إغلاق أكثر من 3000 مركز تغذية، ونفاد الإمدادات الحيوية بحلول أوائل العام المقبل، يجعلان حياة مئات الآلاف من الأطفال عرضة للخطر.

ملايين الأطفال اليمنيين يواجهون خطر سوء التغذية ونقص الخدمات الصحية (الأمم المتحدة)

بدورها، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) نداء تمويلياً بقيمة 86.57 مليون دولار، لدعم سُبل العيش الزراعية وتعزيز القدرة على الصمود لنحو 9.15 مليون شخص في اليمن خلال العام نفسه.

تدخلات زراعية

تقدّر «فاو» أن اليمن يُعد ثالث أكبر أزمة غذاء في العالم، حيث يواجه أكثر من نصف السكان مستويات حرجة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينهم نحو 41 ألف شخص معرضون لخطر المجاعة، بعد عقد من بدء النزاع المسلح، والتطورات الأخيرة التي عطّلت سلاسل التوريد، إلى جانب الانهيار الاقتصادي والتغيرات المناخية القاسية.

ويتوقع المنسق العام للجنة اليمنية العليا للإغاثة، جمال بلفقيه، أن نقل مكتب منسق الشؤون الإنسانية إلى العاصمة المؤقتة عدن سيساعد بشكل كبير على تنفيذ خطط الاستجابة الإنسانية وتغيير مسار العمل الإنساني وبيان أثرها، داعياً إلى الشراكة بين المنظمات الدولية والقطاع الخاص في اليمن، لتوفير السلع الأساسية والشراء من السوق المحلية.

فجوة تمويل الإغاثة في اليمن تهدد بتراجع كبير في القدرة الشرائية للسكان وفق خبراء (أ.ف.ب)

وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط» يبدي المسؤول الإغاثي الحكومي قلقه من أن اختطاف الجماعة الحوثية العاملين في الوكالات الأممية، وممارسة الابتزاز باستخدام الورقة الإنسانية سيعوقان أداء المنظمات ويؤثران سلباً على الدعم الخارجي، مبدياً تفاؤله بأن تؤدي الإجراءات الاقتصادية الحكومية إلى تحسين أسعار المواد الأساسية، مما يساعد في تحسين القوة الشرائية.

وتوضح الوكالة الأممية أن 17.68 من التمويل سيُوجّه إلى صالح تدخلات زراعية طارئة لتحقيق تعافي سُبل المعيشة، ويشمل ذلك توزيع البذور، وتطعيم الماشية، وإعادة تأهيل البنى التحتية الزراعية والمائية، في مساعٍ للحد من اعتماد السكان الكامل على المساعدات الغذائية، فيما سيُستخدم المبلغ المتبقي لتعزيز القدرة على الصمود للفئات المستهدفة.

وبسبب مواجهة برنامج الغذاء العالمي عجزاً كبيراً في تمويله، تم تقليص المستفيدين من خدماته إلى النصف، وهو ما سيؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية وسحب ما بين 200 و300 مليون دولار سنوياً من الأسواق المحلية، حسبما أورده المستشار الاقتصادي في مكتب الرئاسة اليمنية، فارس النجار.

تعزيز صمود الريف

وبينما يحتاج البرنامج الأممي إلى أكثر من 300 مليون دولار للستة الأشهر المقبلة، لم يحصل سوى على 106 ملايين دولار فقط.

طفل يتلقى العلاج من سوء التغذية في أحد مستشفيات صنعاء (الأمم المتحدة)

ويقدّر النجار أن سوء التغذية سيؤدي إلى خسارة مستقبلية في إنتاجية الفرد ما بين 10 و15 في المائة، مما يعني اقتصاداً أصغر وناتجاً أقل لعقد كامل إذا لم تجرِ حماية الفئات الأضعف، لافتاً إلى أن عدم تمويل خطة الاستجابة الإنسانية سيضع اليمنيين أقرب من أي وقت مضى أمام سيناريوهات المجاعة.

في غضون ذلك، كشف الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) عن أن التدخلات التنموية متوسطة المدى يمكن أن تُحدث فرقاً ملموساً حتى في ظل استمرار النزاع، وأن هذه التدخلات عززت من تحسين سبل العيش والأمن الغذائي لعشرات الآلاف من السكان في المناطق الريفية في اليمن، رغم استمرار النزاع وانهيار البنية التحتية والخدمات الأساسية.

جاء ذلك بعد أن أظهر مشروع تنمية سبل العيش الريفية، المنفذ بين عامَي 2021 و2024، أن تحسين الوصول إلى المياه وتحديث أنظمة الري أسهما في خفض استهلاك المياه بنسبة وصلت إلى 80 في المائة، إلى جانب زيادة الإنتاج الزراعي، وتحسين دخل آلاف الأسر في خمس محافظات يمنية.

تنمية سبل العيش الريفية تُسهم في تحسين الإنتاج الزراعي وتحسين دخل آلاف الأسر (إيفاد)

وذكر «إيفاد»، في تقرير حديث، أن إجمالي تمويل المشروع وصل إلى 5.3 مليون دولار، وشمل 5 محافظات و31 مديرية، واستفاد منه أكثر من 84 ألف شخص في نحو 12 ألف أسرة ريفية. وركزت التدخلات على تحسين الوصول إلى المياه، وإعادة تأهيل أنظمة الري، وحماية الأراضي الزراعية من الفيضانات، بالإضافة إلى دعم المزارعين بمدخلات زراعية وتدريب تقني.

ونوه «إيفاد» إلى أن اعتماد نهج التعاقد المجتمعي، بالشراكة مع صندوق التنمية الاجتماعية ومنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، مكّن المجتمعات المحلية من قيادة عملية التخطيط والتنفيذ، مما عزّز الحوكمة المحلية والتماسك الاجتماعي في بيئات تعاني هشاشة مؤسسية شديدة.

وبيّن التقرير أن تحديث البنية التحتية المائية أسهم في خفض استهلاك مياه الري بنسبة تتراوح بين 70 و80 في المائة، وتحسين إنتاجية المزارعين، إلى جانب حماية 131 هكتاراً من الأراضي الزراعية. كما استفاد أكثر من 3300 مزارع من المدارس الحقلية والأعمال الزراعية، فيما تلقت 4000 امرأة ورجل تدريبات في مجالات التغذية والزراعة المنزلية.