نجيب عياد أعاد مجد مهرجان قرطاج وبيتر فوندا خرج عن التقليد في أميركا

المنتجان رحلا بفارق ساعات

نجيب عياد  -  صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)
نجيب عياد - صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)
TT

نجيب عياد أعاد مجد مهرجان قرطاج وبيتر فوندا خرج عن التقليد في أميركا

نجيب عياد  -  صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)
نجيب عياد - صورة أرشيفية للممثل الأميركي الراحل بيتر فوندا (إ.ب.أ)

لم تمض سوى بضع ساعات على وفاة المنتج مدير مهرجان قرطاج السينمائي نجيب عياد حتى رحل الممثل - والمنتج والمخرج أحياناً - بيتر فوندا. السينما هي جامعهما من على بعد شديد. كل منهما ساهم في وضع رؤية أخرى مختلفة في المجال الذي عمل فيه. نجيب عياد طرح نفسه منتجاً لأفلام منفذة بعناية، و- لاحقاً - مدير أيام قرطاج السينمائي بالعناية ذاتها. في كلا الحقلين، مارس رغبته في توفير منصات فنية تونسية يخدم بها طموحه وبلاده معاً.
بيتر فوندا، بدوره، بلور في الستينات ومطلع السبعينات شخصية البديل السينمائي للثقافة السائدة؛ سعى لتمثيل أدوار تعكس لا مرحلة شبابه فقط، بل تلك المرحلة بالتزامن مع بحث أميركا في تلك الفترة عن بديل لأميركا المؤسسات المحافظة.
- مهّد لسنة الحسم
جاء نبأ وفاة نجيب عياد مفاجئاً. كان يمضي ساعات عمله حثيثاً في سبيل تقديم دورة جديدة من المهرجان التونسي العريق، بعدما كان قد أدار دورتين سابقتين، وودع أصدقاءه وجمهور المهرجان في دورته السابقة في العام الماضي، مؤكداً أنه يريد العودة إلى حياته الفنية السابقة، مكتفياً بالإنتاج وحده. هذا لم يتيسر له لأن وزارة الثقافة أقنعته بأن النجاح الذي حققه في الدورتين السابقتين (2017 و2019) ليس من السهل تركهما من قبل تعزيزهما بدورة ثالثة، يستطيع بعدها ترك إدارة المهرجان وقد أرسى قواعده الجديدة. وافق نجيب على ذلك، وحضر مهرجان «كان» الفرنسي الماضي، حيث بدا بكامل نشاطه، متحدثاً للصحافة العالمية عن الخطوات التي قطعها المهرجان حتى الآن، والاستعدادات الجارية للدورة الثالثة.
ولد نجيب في الثالث عشر من ديسمبر (كانون الأول) 1953. وبعد سنوات الدراسة، توجه صوب العمل الفني، ناقداً في البداية (لخمس سنوات بين 1975 و1980)، ثم منتجاً لحساب وزارة الثقافة، قبل قيامه بالإنتاج لشركة أسسها باسم «ضفاف».
قام نجيب بإنتاج أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية عدّة. في السينما يحضرنا «مملكة النمل» الذي أخرجه شوقي الماجري، وتم تصويره في الأردن، من بطولة عابد فهد وصبا مبارك. فيه سردٌ خيالي لعالم تحت الأرض، يعيشه الفلسطينيون بعدما استطاعوا بناء أنفاق توصلهم بعضهم ببعض، تجاوزاً للجدار القائم وللمستوطنات التي تفصل بين البلدات والمدن.
من أفلامه أيضاً «الحي يروّح» لمحمد أمين بوخريص (2013)، وهو فيلم غير روائي يتعامل وثورات الربيع العربي التي بدأت شرارتها في تونس، ثم امتدت لما امتدت إليه من دول عربية أخرى. وقبل هذا الفيلم بعشر سنوات، أنتج «أوديسة» للمخرج التونسي المعروف إبراهيم باباي. ذلك الفيلم، على الأرجح، كان آخر ما حققه باباي الذي صاحب مهرجان قرطاج منذ إنشائه في الستينات.
وقبل تسلم نجيب عياد إدارة مهرجان قرطاج، كان قد أنشأ مهرجانه المستقل باسم «مهرجان الأطفال والشباب»، وأنجز منه عدة دورات ناجحة. ونظير كل ذلك، لم يكن غريباً أن تتوجه إليه وزارة الثقافة التونسية بطلب إدارته لمهرجان قرطاج الذي هو العنوان الأكبر للنشاطات التونسية في السينما. ما كان سيبدو غريباً هو عدم إسناد هذه المهمة إليه، نظراً لخبرته. وما هو غريب بالفعل عدم إسناد المهمّة إليه من قبل، عندما تواكبت الإدارات السابقة عليه، التي كانت قد أصبحت وظيفيه خالية من الجهد الذاتي والرؤية المستقبلية، ومليئة بثقوب الشللية والمحسوبيات.
خلال حديث قصير بيننا، إثر مؤتمر نجيب عياد الصحافي في مدينة «كان»، قال: «عدت عن قرار الاستقالة من مهرجان أيام قرطاج السينمائي لأني أدركت أنني لم أنجز بعد كل ما أردت إنجازه، وأدركت أنني إذا ما تركته من دون تكملة، فإن من سيخلفني قد يجد من الصعوبة بمكان مواصلة ما بدأته».
ووعد أن تأتي دورة أكتوبر (تشرين الأول) المقبلة وقد تخلصت من كل عثرات الدورتين السابقتين: «المهمة كانت صعبة في البداية، وكان عليّ تذليل هذه المصاعب، لأن مهرجان قرطاج مثّل دائماً الفرصة الكبيرة لكي يتبوأ المهرجان مكانته المنفردة على ساحة السينما العربية والأفريقية. الدورة الجديدة ستؤكد على هذا الشأن، وستكون أفضل تنظيماً، بعدما عملت منذ عامين على تأسيس فريق عمل دائم يتابع العمل في مختلف نشاطاته وأقسامه».
يأتي غياب نجيب عياد بعد أسابيع قليلة من رحيل السينمائي الآخر يوسف شريف رزق الله الذي ترك بصمته الكبيرة على مهرجان القاهرة، وكان عماده الفعلي.
- الخارج عن المألوف
بيتر فوندا، على جناح الطرف الآخر من العالم، هو ابن الممثل الراحل هنري فوندا (1905 - 1982)، وشقيق الممثلة جين فوندا (ولدت سنة 1937، وتبلغ حالياً 81 سنة). الشقيق الأصغر بيتر اتجه للسينما باكراً مثل جين، وكلاهما اختلف عن والده. لقد غرفا حب المهنة منه، لكنهما اختلفا عنه بانتمائهما لمرحلة سياسية واجتماعية جديدة. وفي حين اتجهت جين فوندا لنشاط سياسي مناوئ للحرب الفيتنامية، حصر بيتر فوندا نشاطه في أفلام تعبر عن أميركا الشابة في تلك الفترة.
كلاهما يلتقي في أنهما من جيل مختلف لم يتفق مع الكلاسيكيين في شيء يذكر، خصوصاً أن والدهما، كما نشرت جين فوندا في مذكراتها، كان من النوع الذي لا يمكنه إظهار حبه لأولاده. هذا من قبل أن يختفي برود العلاقة بين جين وأبيها، عندما قاما بتمثيل فيلم مشترك (الأول والأخير بينهما)، وعنوانه «على بحيرة ذهبية» (1981).
كان بيتر ما زال شاباً يافعاً عندما صفّق له الجمهور والنقاد، حين شاهدوه على خشبة مسارح برودواي سنة 1961 يؤدي الدور الرئيسي في مسرحية بعنوان «دم وعرق وستانلي بول»، وضعها الأخوين جيمس وويليام غولدمان عن تجربتهما في الجيش.وشجع هذا النجاح الممثل الشاب على الظهور في مسلسلات تلفزيونية في أدوار مختلفة، منها المسلسل البوليسي «Naked City» ومسلسل الوسترن «Wagon Train»، وأحياناً في مسلسل أكشن مشابه بعنوان «المدافعون» (The Defenders).
وبعد عامين على ظهوره على خشبة المسرح، اختير لبطولة فيلم «تامي والطبيب»، أمام ساندرا دي: كوميديا عابرة انتقل بعدها إلى فيلم «المنتصرون» لكارل فورمان (1963 أيضاً)، الذي تجلّى عن نيله جائزة غولدن غلوب كـ«أفضل ممثل جديد». لكن معظم سنوات تلك الفترة المنتصفة من الستينات أمضاها بيتر في المسلسلات التلفزيونية المختلفة (من بينها أيضاً حلقات من «ساعة ألفرد هيتشكوك»، وكل حلقات المسلسل الدرامي «شانينغ»). فوندا شارك كذلك في عام 1964 الممثل وورن بايتي بطولة فيلم «ليليث».
في تلك الفترة، تعالى صدى الأحداث والمتغيرات الطارئة على المجتمع الأميركي الذي انقسم لواحد تقليدي محافظ، في مقابل آخر شبابي معارض. شارك فوندا سنة 1966 في مظاهرة في لوس أنجليس أراد منظموها التعبير عن رغبتهم في التغيير، والاعتراف بمطالب الجيل الجديد. لكن المظاهرة انقلبت، في الواقع، إلى أعمال شغب، ووجد بيتر فوندا الذي شارك في شكلها السلمي الأول نفسه مقيد اليدين، بعدما ألقى البوليس القبض عليه، وتم اتهامه بإثارة الشغب.
الحادثة ساهمت في تحويل اهتمام فوندا، على نحو أو آخر، صوب ما كان الشباب الأميركي آنذاك يريد التعبير عنه من مناهضة النظام السياسي السائد. هذا ما دلف به إلى أفلام دراجات شبابية، بعضها كان من إنتاج روجر كورمان الذي كان قد ألّف من حوله عدداً من الكتاب والممثلين الشبان، بينهم جاك نيكولسون وبروس ديرن ودايان لاد (ابنة الممثل الراحل ألان لاد).
كانت الدراجة النارية بمثابة رمز لسعي الشباب الخارج عن القانون إلى الانتماء بعضهم لبعض، وليس إلى الوطن كما عهدوه. إلى هذا الخضم انضم بيتر فوندا، ومثل بطولة «الملائكة المتوحشون» (The Wild Angels)، ثم فيلم آخر عن ثقافة العصر، عنوانه «الرحلة» (The Trip)، الذي كتبه جاك نيكولسون، وشارك في تمثيله شاب آخر اسمه دنيس هوبر.
الثلاثة (فوندا ونيكولسون وهوبر) أمّوا في عام 1969 فيلماً آخر عن شباب الدراجات النارية، هو «إيزي رايدر» الذي لم يتبوأ فقط المركز الرابع في أعلى إيرادات ذلك العام، بل تبوأ كذلك الصدارة بين كل الأفلام الشبابية التي تحدثت عن فتيان أميركيين ينشدون الحرية، بعيداً عن التزامات المجتمع التقليدية.
ولم يكن النجاح محلياً فقط، بل عالمياً، إذ تحلى الفيلم بجديد طارئ، وتمتع بتوزيع شركة كولمبيا ذات النفوذ. ووفر الفيلم لجاك نيكولسون ترشحه لأوسكار أفضل ممثل عنه، ولدنيس هوبر مهنة، ولو قصيرة، في مجال الإخراج.
بعد ذلك بعامين، بلور بيتر فوندا فيلم وسترن أكثر هدوءاً والتزاماً، بعنوان «The Hired Hand»، الذي قام ببطولته وإخراجه. في هذه الفترة، وبينما كان بيتر قد بدأ يشق طريقه، مبتعداً أكثر فأكثر عن صورة الهيبي الجانح صوب التغيير، كانت شقيقته تتخذ مواقف يسارية أشد، وتقف ضد حرب فيتنام في الواقع، كما في الأفلام.
استمر هنري بعد ذلك في العمل السينمائي بلا توقف (رصيده من الأفلام التي مثلها يبلغ 75 فيلماً)، وهو الوحيد الذي لم يفز بأوسكار في عائلته، لكن هذا لم يشغله عن المتابعة، متحوّلاً بالتدريج إلى الممثل المختلف عن أي مرجعيات سياسية، وقابلاً بأدوار في أفلام مختلفة. وباستثناء «3:10 ليوما» لجيمس مانغولد (2007)، قلما وجدناه في فيلم رئيسي خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة التي حفلت بأدوار مساندة، آخرها فيلم لم يعرض بعد، بعنوان «المعيار الكامل الأخير» (The Last Full easure)، يشارك فيه إلى جانب سامويل ل. جونسون وإد هاريس وكريستوفر بلامر وويليام هيرت.
وإلى جانب «اليد المأجورة» سنة 1971، أخرج فيلمين آخرين، هما: «Idaho Transfer» سنة 1973 و«واندا نيفادا» (1979)، لكن أي من أفلامه مخرجاً لم ينجز أكثر من حضور في ذاكرة الراغبين في الاستعادة.


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».