متحف بريطاني يعلن الحداد ويغلف حيواناته بغلالات سوداء

للتوعية بكارثة تهديد التنوع البيئي

إيسلا غلادستون مع النمر البنغالي المحنط (متحف بريستول)
إيسلا غلادستون مع النمر البنغالي المحنط (متحف بريستول)
TT

متحف بريطاني يعلن الحداد ويغلف حيواناته بغلالات سوداء

إيسلا غلادستون مع النمر البنغالي المحنط (متحف بريستول)
إيسلا غلادستون مع النمر البنغالي المحنط (متحف بريستول)

عندما زار تلاميذ من مدرسة ابتدائية بمدينة باث البريطانية، «متحف التاريخ الطبيعي» في مدينة بريستول المجاورة، تعرفوا على عدد من المعروضات، منها نمر بنغالي وعدد آخر من الحيوانات المحنطة. لدى عودتهم لباث أرسل التلاميذ لأمناء المتحف يطلبون منهم معرفة قصة النمر الحقيقية، وكيف انتهى به الأمر في المتحف. وحسب ما تذكر صحيفة «الغارديان»، وجد أمناء المتحف أنفسهم أمام أهم قضية بيئية تواجه الحياة الفطرية في العالم. وبإلهام من ذلك الخطاب، قرر المسؤولون إسدال غلالات سوداء على الحيوانات المحنطة لإعلان حالة حداد على كارثة تهدد التنوع البيئي. وبالفعل تم وضع الغلالات السوداء على المعروضات من الحيوانات المنقرضة، وتلك التي تشرف على الانقراض.
في مقدمة عن المعرض الذي أطلق عليه عنوان «أصوات الانقراض»، يذكر المتحف على موقعه الإلكتروني «لإلقاء الضوء على خطورة كارثة الانقراض، التي تهدد الحياة البرية، فقد قمنا بتغطية الغوريلا (ألفرد) و31 حيواناً آخر من المعروضات في قاعة (الحياة البرية في العالم)، منها حيوان وحيد القرن وشمبانزي وزرافة لنستطيع تخيل عالمنا من دون هذه الكائنات الرائعة». ويستمر العرض المغلل بالسواد حتى ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ويجمع أصواتاً وأفكاراً من أطفال المدينة ومن العملاء أمناء المتحف.
ويعود عنوان العرض «أصوات الانقراض» إلى مقولة لعالم البيئة بول هاوكن، «الطبيعة كلها أصوات، فهي تمشي وتزحف وتسبح وتنقض، وتصدر الطنين. ولكن الانقراض صامت لا صوت له سوانا».
وحسب ما تذكر إيسلا غلادستون، كبيرة الأمناء، فإن المتحف أراد أن يعكس المخاطر التي تحيط بالحياة الفطرية والنباتات، والتي عكسها تقرير حديث للأمم المتحدة. وأشارت غلادستون إلى أن النمر البنغالي الذي شد اهتمام التلاميذ كان واحداً من 39 نمراً اصطادهم الملك جورج الخامس وعدد من مرافقيه أثناء رحلة لنيبال في عام 1911. وشملت حصيلة رحلة الصيد هذه 18 وحيد قرن و4 دببة هندية. وعلقت غلادستون: «للنمر قصة صادمة، وهو ما دفع التلاميذ للقيام بالبحث عن معلومات أكثر عنه بعد عودتهم من الرحلة للمتحف، وصدموا من المعلومات التي وجدوها عنه، في وقت قنصه كانت الأدغال تضم مائة ألف نمر من الفصيلة نفسها، واليوم لم يتبق منهما سوى 4000». وأضافت: «تتسبب مأساة انقراض فصائل الحيوانات في حالة من القلق بين الناس، ونحن هنا علينا أن نلعب دوراً مهماً في سرد قصص تلك الحيوانات، وتاريخها، وأيضاً أن نفرد مساحات للحوار مع الزوار من أجل توعية الجمهور، ونريد أيضاً أن نساعدهم على تخيل العالم من دون وجود تلك الكائنات الرائعة».
وتشمل قائمة الحيوانات المهددة بالانقراض، حسب ما تذكر غلادستون، الزرافات والشمبانزي وغيرها من الحيوانات المألوفة لدى الإنسان، وتضيف: «قد تثير هذه الأسماء الدهشة، ولكن عملية الانقراض دائماً صامتة، وتحدث خلسة».
تحت الغلالات السوداء في قاعات «متحف التاريخ الطبيعي» ببريستول، هناك غوريلا أطلق عليها اسم «ألفرد»، وحسب ما يذكر العرض فقصة «ألفرد» تعود إلى ولادته، حيث عثرت عليه امرأة أفريقية، وهو حديث الولادة بعد قتل والديه، وقامت برعايته، ولاحقاً باعه بعض التجار لحديقة الحيوان في بريستول، وحسب المتحف، فإن فصيلة «ألفرد» حالياً في خانة الخطر.
ومن الحيوانات الأخرى القابعة تحت الغلالات السوداء، هناك حيوان وحيد القرن من سومطرة نجا في حياته من محاولة اصطياده في عام 1884، ونجا وهو محنط من حريق متحف بريستول أثناء قصف جوي خلال الحرب العالمية الثانية. هناك أيضاً نمر تسماني كان من نزلاء حديقة الحيوان بلندن، وهو آخر السلالة التسمانية التي انقرضت في الثلاثينيات من القرن الماضي. ومن المعروضات السلحفاة العملاقة من جزيرة غالاباغوس والغزال الجبلي وطائر القطرس البحري وحيوان الأكاب وحيوان البنغول وهو من الحيوانات الآكلة للنمل.
من جانبه، علق البروفسور بن غارود لـ«الغارديان»، بأن العرض في «متحف التاريخ الطبيعي» يعكس دور التغير المناخي والتلوث وفقدان البيئة الأصلية في بقاء كائنات حية تعيش على الأرض مع الإنسان. «العرض يهدف لتقديم المعلومات، وأيضاً للصدمة، وأيضاً لتوفير الواعز للجمهور الذي قد يترك العرض مستعداً لاتخاذ موقف إيجابي».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)