المطاعم الافتراضية والمطابخ الشبح تحقق الانتشار عالمياً

تطبيقات توصيل الطعام تعيد تشكيل صناعة هذا القطاع في العالم

كل ما يحتاج إليه صاحب المنشأة هو المطبخ ومن بعد ذلك تسويق المنتجات من خلال أحد تطبيقات توصيل الوجبات (نيويورك تايمز)
كل ما يحتاج إليه صاحب المنشأة هو المطبخ ومن بعد ذلك تسويق المنتجات من خلال أحد تطبيقات توصيل الوجبات (نيويورك تايمز)
TT

المطاعم الافتراضية والمطابخ الشبح تحقق الانتشار عالمياً

كل ما يحتاج إليه صاحب المنشأة هو المطبخ ومن بعد ذلك تسويق المنتجات من خلال أحد تطبيقات توصيل الوجبات (نيويورك تايمز)
كل ما يحتاج إليه صاحب المنشأة هو المطبخ ومن بعد ذلك تسويق المنتجات من خلال أحد تطبيقات توصيل الوجبات (نيويورك تايمز)

في تمام الساعة 9:30 مساءً معظم ليالي الأسبوع، يقوم ريكي لوبيز، رئيس الطهاة ومالك مطعم «توب راوند روست بيف»، في سان فرانسيسكو، بإعداد العشرات من ساندويتشات اللحم البقري الساخنة والبطاطس المحمرة لتقديم وجبات الطعام للمتلهفين على المذاق اللذيذ على العشاء.
يقوم لوبيز أيضاً بإعداد شرائح الدجاج في مطعمه الآخر الذي يحمل اسم «ريد ريبون فرايد تشيكن» حيث يقلب فطائر اللحم البقري على الشواية لإعداد البرغر وأجنحة الدجاج. وفي محل الحلويات الذي يديره أيضاً، يمزج الطاهي المخضرم الكسترد المجمد مع «الآيس كريم».
من بين أربعة مشروعات يديرها لوبيز، هناك ثلاثة «مطاعم افتراضية» من دون واجهات أو طاولات أو كراسي حقيقية، حيث توجد فقط على تطبيق الجوال «أوبر إيتس» الذي يقدم خدمة توصيل الوجبات حسب الطلب التي تقدمها شركة «أوبر» العالمية.
وفي هذا الصدد، قال لوبيز (26 عاماً) رئيس العاملين بمطاعم «توب راوند»: «كان توصيل الطلبات يمثل ربع حجم أعمالي»، حيث كان الفريق يتولى إعداد لحم البقر المشوي وساندويتشات الدجاج ووضعها في أكياس ورقية بيضاء قبل تسليمها لسائقي «أوبر إيتس»، لكن تلك النسبة ارتفعت الآن لتبلغ نحو 75% من حجم العمل».
بدأت تطبيقات توصيل الطعام مثل تطبيق «أوبر إيتس» و«دور داش» و«غراب هاب» في إعادة تشكيل صناعة المطاعم الأميركية التي يبلغ رأسمالها 863 مليار دولار. ونظراً إلى أن المزيد من الأشخاص باتوا يطلبون تناول الطعام في المنزل وبما أن تسليم الطلبات بات أسرع وأكثر ملاءمة، فقد ساهمت التطبيقات في تغيير طريقة إدارة المطاعم.
لم يعد من الضروري استئجار مساحة لتناول الطعام، فكل ما يحتاجون إليه هو المطبخ أو حتى مشاركة آخرين في جزء منه، وبعد ذلك تسويق منتجاتهم من خلال أحد تطبيقات توصيل الوجبات دون أي متاعب أو تكاليف لاستئجار النوادل أو دفع ثمن الأثاث وأغطية المائدة. والطريف أن الأشخاص الذين يطلبون طعامهم من خلال تلك التطبيقات قد لا يكونون على دراية بأن المطعم غير موجود فعلياً على الأرض.
بات هذا التحول سبباً لانتشار نمطين من أنماط الطهي الرقمية: أحدها هو المطاعم الافتراضية المرتبطة بمطاعم حقيقية مثل تطبيقات مطاعم «توب راوندز لوبيز» ولكنها تقدم مأكولات متنوعة خصيصاً لتطبيقات التوصيل، والنمط الآخر هو «مطابخ الأشباح»، وهي التي ليس لها وجود للبيع بالتجزئة وتعمل لإعداد الوجبات لطلبات التوصيل المنزلي فقط.
وفي هذا الإطار، قال أليكس كانتر، مدير شركة «كانتر ديلي» الناشئة بلوس أنجليس والتي تعمل على مساعدة المطاعم في تنظيم خدمة توصيل الطلبات، إن «الإنترنت ليس شراً بالضرورة. إنه يمثل أكثر الفرص إثارة في صناعة المطاعم اليوم. إذا لم تستخدم تطبيقات التوصيل، فأنت غير موجود».
إن العديد من عمليات التوصيل تعد وليدة اليوم لكن تأثيرها قد يكون بعيد المدى، مما ينبئ بتحول الناس نحو طلب الوجبات بدلاً من زيارات المطاعم أو حتى إعداد الطعام بالمنزل.
تقود «أوبر» وشركات أخرى التغيير. فمنذ عام 2017 ساعدت شركة التوصيل العالمية على بدء 4000 مطعم افتراضي مثل مطاعم «لوبيز» التي تعمل حصرياً عبر تطبيق «أوبر إيتس».
وقالت جانيل ساليناف، التي تترأس شركة «أوبر إيتس» في أميركا الشمالية، إن الشركة تقوم بتحليل بيانات المبيعات غير المستوفاة لتحديد الطلبات على مأكولات معينة، ثم يجري التعامل مع المطاعم التي تستخدم التطبيق ومن ثم تشجيعها على إنشاء مطاعم افتراضية جديدة لتلبية تلك الطلبات.
قفزت شركات أخرى إلى الساحة أيضاً حيث قام ترافيس كالانيك، الرئيس التنفيذي السابق لـ«أوبر»، بإنشاء شركة «كلاود كيتشن» وهي شركة ناشئة تضم «مطابخ الأشباح» في الواقع الافتراضي.
ومع ذلك، فبينما تنشئ تطبيقات التوصيل أنواعاً جديدة من المطاعم، فإنها تُلحق الضرر ببعض المؤسسات التقليدية التي تواجه بالفعل نفقات تشغيل مرتفعة ومنافسة قوية. فالمطاعم التي تستخدم تطبيقات التوصيل مثل «أوبر إيتس» و«غراب هاب» تدفع عمولات بنسبة تتراوح ما بين 15 و30% عن كل طلب. وفي حين أن المؤسسات الرقمية توفر النفقات العامة، فإن المطاعم المستقلة الصغيرة ذات الهوامش الربحية الضيقة لا يمكنها تحمل هذه الرسوم.
ذكر مارك غوناج، رئيس لجنة الأعمال الصغيرة التابعة لمجلس مدينة نيويورك، في جلسة استماع في يونيو (حزيران) استغرقت أربع ساعات حول صناعة توصيل الوجبات التي اعتُبرت طرفاً ثالثاً، أن «هناك قلقاً من أنه قد تكون خدمة التوصيل نظاماً يحاصَر فيه أصحاب المطاعم في نموذج أعمال غير مستقر وغير مناسب».
يرجع تاريخ مؤسسات التوصيل في الولايات المتحدة إلى عام 2013 عندما بدأت شركة «غرين ساميت غروب» في العمل من خلال «مطبخ أشباح» في نيويورك. وبدعم من شركة «غراب هاب» أنتجت «غرين ساميت» طعاماً جرى تسويقه عبر الإنترنت تحت أسماء تجارية مثل «ليفادج» في مجال السلطات و«بوتشر بلوك» في مجال الساندويتشات.
لكن جيسون شابيرو، المستشار السابق بشركة «غري ساميت» المذكورة، فقد أفاد بأن شركة «القمة الخضراء» كانت تخسر مئات الآلاف من الدولارات شهرياً، مضيفاً أنه قبل عامين أغلقت الشركة أبوابها عندما فشلت في جذب مستثمرين جدد.
في أوروبا، بدأ تطبيق توصيل الوجبات «دليفرو» في اختبار مطابخ الأشباح، حيث أقامت هياكل مطبخ معدنية تسمى «روبوكسيس» في بعض المواقع البعيدة تماماً عن مجال المطابخ والمطاعم، منها مثلاً مرآب سيارات مهجور بشرق لندن. وفي العام الماضي، افتتحت «دليفرو» «مطبخاً شبحاً» في مستودع بباريس، حيث قدمت شركة «أوبر إيتس» أيضاً خدمة «مطابخ التوصيل».
في الصين، ظهرت المطابخ الشبح أيضاً حيث تستخدم تطبيقات توصيل الأغذية عبر الإنترنت على نطاق واسع في المدن ذات الكثافة السكانية العالية. فقد حققت طلبات توصيل الأغذية في الصين 70 مليار دولار في العام الماضي، وفقاً لشركة «إي ريسيرش» المعنية بتحليل البيانات. فقد جمعت إحدى شركات «مطابخ الأشباح» الصينية التي تحمل اسم «باندا سيليكتيد» مؤخراً 50 مليون دولار من مستثمرين من بينهم «تايغر غلوبال مانجمنت».
انتشرت هذه التجارب على مدار العامين الماضيين حيث افتتحت شركة «فاميلي ستايل» الناشئة للطعام في لوس أنجليس مطابخ أشباح في ثلاث ولايات. ابتكرت الشركة أكثر من نصف دزينة من ماركات البيتزا التي تحمل أسماء مثل «لورينزو أوف نيويورك»، «وفورمانز شيكاغو بيتزا»، «وغابرييلا نيويورك بيتزا»، والتي يمكن العثور عليها عبر «أوبر إيتس» وغيرها من التطبيقات.
بالنسبة إلى باول غيفنر، فإن الشعبية المتزايدة لتطبيقات توصيل الأغذية قد أصابته بالضرر. فقد كان غيفنر يدير سلسة مطاعم تحمل اسم «اسكيب فروم نيويورك» طيلة ثلاثة عقود، اعتماداً على طلبات التسليم المباشرة كمصدر رئيسي للإيرادات.
لكن بعد عرض خدمات التوصيل من خلال التطبيقات عام 2016، تراجعت أعماله بدرجة كبيرة، فقد خسر اثنين من مطاعم البيتزا الخمسة التابعة له والتي كانت تحقق أرباحاً سنوية تتراوح ما بين 50 ألفاً و100 ألف دولار تكبدت خسائر بلغت 40 ألف دولار سنوياً بعد تحول العملاء إلى الطلب من خلال تطبيقات الإنترنت، مما أجبر غيفنر على دفع عمولات لتلك التطبيقات للبيع من خلالها.
وفي تعليقه على ذلك، قال غيفنر: «لقد رأينا علاقة مباشرة بين خدمات التوصيل وتراجع إيراداتنا. كان الأمر أشبه بالموت بألف جرح».
- خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)