«يا قمر مشغرة» أمسية ثقافية وعلمية تحييها الجامعة الأميركية

المنظمون طلبوا من المشاركين فيها أن يحملوا معهم التليسكوب

أمسية «يا قمر مشغرة» تحييها الجامعة الأميركية في بيروت
أمسية «يا قمر مشغرة» تحييها الجامعة الأميركية في بيروت
TT

«يا قمر مشغرة» أمسية ثقافية وعلمية تحييها الجامعة الأميركية

أمسية «يا قمر مشغرة» تحييها الجامعة الأميركية في بيروت
أمسية «يا قمر مشغرة» تحييها الجامعة الأميركية في بيروت

القمر بكل معانيه العلمية والرومانسية ومدى تأثر الإنسان به منذ حقبات تاريخية طويلة، ستشهدها أمسية «يا قمر مشغرة» التي تنظمها الجامعة الأميركية في بيروت.
ويأتي هذا الحدث التي ستستضيفه بلدة مشغرة البقاعية في 16 أغسطس (آب) الجاري بمناسبة ذكرى مرور 50 سنة على أول خطوة للإنسان على سطح القمر. وهو واحد من النشاطات التي تخللتها السنة الحالية في الجامعة الأميركية تحت عنوان «بمون القمر». واللافت أنّ هذا الاحتفال ستجري وقائعه على سطح منزل الموسيقي الراحل زكي ناصيف الذي تحول إلى متحف منذ أعوام قليلة. ويشير دكتور نبيل ناصيف مدير برنامج زكي ناصيف في الجامعة المذكورة إلى أنّ هذه الأمسية تأتي من ضمن المرحلة الفنية الذهبية التي يسلط هذا البرنامج الضوء عليها، في مهرجان يحمل اسمه. ويضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لقد رغبنا في مقاربة (قمر مشغرة) من خلال محاضرات علمية وأغانٍ وموسيقى تتمحور حوله». ويتابع: «لقد كتب عنه الكثير وتغنّى به الرحابنة وفيروز كما لعب دورا رئيسيا في مشوار زكي ناصيف الفني».
ويتألف برنامج هذه الأمسية التي تبدأ في الساعة الثالثة ظهرا من فقرة «حكايات القمر» التي يتلوها على الحضور الدكتور جهاد توما، الاختصاصي الفيزيائي في الجامعة الأميركية. وليتبعها محاضرة للدكتور نبيل ناصيف (ابن شقيق الراحل زكي ناصيف) يتحدث فيها عن مدى تأثر عمّه بقمر مشغرة منذ صغره. «لقد لعب قمر مشغرة دوراً كبيراً في حياة زكي ناصيف الفنية فكان محور كتابات ألحانه. فكان يجلس على سطح منزله في مشغرة في عتم الليل الذي يضيئه القمر بنوره الساطع ويتفرّج على أهالي البلدة يرقصون الدبكة ويغنون تحت سمائه. ومن هنا بدأ نشاطه الفني يتبلور في أغانيه ومن بينها (يا جار الرضا) التي كانت عمليا موجهة إلى قمر بلدته الأم».
ويأتي اسم هذه الأمسية من أغنية معروفة لفيروز «يا قمر مشغرة وبدر وادي التيم» التي غنتها ضمن مسرحية للرحابنة (فخر الدين).
وفي السابعة والنصف مساء سيكون الحضور على موعد مع باقة من الأغاني اللبنانية والعربية التي تتحدّث عن القمر بصوت الفريق الغنائي (راند). أمّا في تمام الثامنة والنّصف فتخصص الأمسية عشاء قرويا يتخلّله لحظات تأمل لمشهدية القمر المكتمل في سماء بلدة مشغرة. «سيشعر الحضور أنّ المسافة قريبة جداً بينهم وبين القمر المتلألئ في السماء. ولطالما تغنى أهل بلدة مشغرة بهذه المشهدية التي تحدثوا عنها في جلساتهم وفي قصصهم اليومية». يوضح دكتور نبيل ناصيف في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط». وطلب منظمو الأمسية من الراغبين بالمشاركة في هذه الأمسية أن يحملوا معهم المجهر والتليسكوب للاستمتاع بهذه المشهدية عن قرب.
ويشير دكتور نادر بزري، وهو اختصاصي في علم التاريخ والفلسفة في الجامعة الأميركية، إلى أنّ النشاطات التي نظمتها الجامعة الأميركية تحت عنوان «بمون القمر»، منذ بداية هذه السنة تناولت كوكب القمر من منطلقي العلم والأدب معا. ويقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «قام طلابنا ببحث عن العمارة في القمر وقدّموا نموذجاً مصغراً عن المستعمرة القمرية (moon colony) بمساعدة اختصاصية جاءت من أوروبا للوقوف على هذا البحث الذي تقوم به على صعيد واسع الـ«ناسا» العالمية وإعطاء محاضرة عنه. فيما قدمت شخصياً محاضرة أخرى عن «ابن الهيثم» العالم العربي الذي توفي في عام 430 هجري بعد أن قدم إسهامات كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك». والمعروف أنّ ابن الهيثم تناول القمر من الناحية العلمية بعد أن راح يبحث عن حقيقة حجمه ومنبع سطوع نوره القوي. فلطالما تأثر القدماء بهذا الكوكب فكان رفيقهم ومرجعهم في حياتهم اليومية كما يشير دكتور بزري في حديثه. ويختم: «لقد قمنا بأبحاث أخرى تتعلق بالأجواء التي كانت تسود الجامعة الأميركية بالتوازي مع نزول أول إنسان على سطح القمر، ولنكتشف بأن هذا الحدث لم يلق استقطاباً لافتاً يومها من قبل الطلاب الذين كانوا منشغلين بشكل أكبر في معركة الكرامة والحركة القومية الفلسطينية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)