محميات مصرية تبدأ في استقبال الطيور العائدة من أوروبا

«الزرانيق» و«رأس محمد» و«خليج السويس» من أبرز محطات الهجرة الموسمية

المحميات الطبيعية المصرية تعد من أهم محطات عبور الطيور المهاجرة في العالم (الشرق الأوسط)
المحميات الطبيعية المصرية تعد من أهم محطات عبور الطيور المهاجرة في العالم (الشرق الأوسط)
TT

محميات مصرية تبدأ في استقبال الطيور العائدة من أوروبا

المحميات الطبيعية المصرية تعد من أهم محطات عبور الطيور المهاجرة في العالم (الشرق الأوسط)
المحميات الطبيعية المصرية تعد من أهم محطات عبور الطيور المهاجرة في العالم (الشرق الأوسط)

بدأت بعض المحميات الطبيعية المصرية في استقبال أنواع مختلفة من الطيور المهاجرة، بعد عودتها من قارة أوروبا، خلال استكمال رحلتها إلى موطنها الأصلي بدول شرق ووسط أفريقيا. وتعد محميات شمال وجنوب شبه جزيرة سيناء من أبرز محطات تلك الطيور التي تمر عبرها مرتين في العام: المرة الأولى في فصل الربيع (موسم عبور الطيور في اتجاه أوروبا)، والثانية في الخريف (موسم العودة إلى أفريقيا).
ويشير خبراء البيئة في مصر إلى أن موسم هجرة الطيور في مصر يشهد زخماً بيئياً وشعبياً وتجارياً، نظراً لاهتمام فئات عدة به، إذ تعد مصر من أهم محطات عبور الطيور المهاجرة في العالم.
ويقول أحمد فتحي، ناشط بيئي رئيس جمعية «شباب بتحب مصر»، لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت المحميات الطبيعية في مصر في استقبال الطيور المهاجرة من دول أوروبا، بعدما توافدت بشائر هذه الطيور خلال اليومين الماضيين على بعض المناطق الساحلية الشمالية، وبعض مناطق شمال سيناء».
وأضاف: «موسم عودة الطيور إلى أفريقيا يبدأ من الآن حتى شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، مع انخفاض درجات الحرارة في أوروبا، بينما يبدأ موسم عبورها من أفريقيا إلى أوروبا في موسم الربيع، عبر مصر، بداية من شهر مارس (آذار) حتى شهر مايو (أيار)».
وأوضح فتحي أن «محميات جنوب سيناء وخليج السويس تعد من أبرز المحميات الطبيعية في استقبال الطيور المهاجرة إلى أفريقيا بالموسم الجاري، كما تعد الفيوم محطة رئيسية كذلك لطائر الفلامنجو الذي بات يستقر فيها طوال فصل الشتاء».
وأشار فتحي إلى «تعرض الطيور المهاجرة في شمال الدلتا المصرية إلى عمليات صيد كبيرة، من قبل صيادين محترفين متخصصين في صيد أعداد كبيرة من طائر السمان الذي يحط بتلك المناطق فور عبوره مياه البحر المتوسط».
وفي السياق نفسه، تعد محمية الزرانيق بشمال سيناء من أهم وأولى محطات هجرة الطيور في رحلتها من أوروبا إلى أفريقيا. وأعلنت الزرانيق كمحمية طبيعية ضمن اتفاقية رامسار الدولية لحماية الأراضي الرطبة المهمة للطيور المائية. كما أدرجتها منظمة «حياة الطيور العالمية» كأحد المناطق المهمة للطيور في العالم، حيث تتم حماية أنواع كثيرة من الطيور المهددة بخطر الانقراض، وأيضاً كمنطقة من المناطق ذات الحماية الخاصة، تحت طائلة اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط والمناطق ذات الحماية الخاصة.
وقال المهندس جمال حلمي، مدير عام حماية البيئة في محافظة شمال سيناء، لـ«وكالة أنباء الشرق الأوسط» الرسمية، مساء أول من أمس، إن «الزرانيق محطة مهمة لراحة الطيور، والحصول على الغذاء، بعد عناء رحلة الهجرة من أوروبا وآسيا».
وأوضح أنه يمر بالزرانيق نحو 300 نوع من الطيور المهاجرة (منها البجع، والبشاروش، والبلشون، واللقلق، والصقر، والسمان، والقنبرة المتوجة، والمكاء، والنكات، وأبو الرؤوس السكندري، والحجوالة، والنوارس، والكروان، والبط، والطيطوي الخواض، وطيور أبو مغيزل). كما تم رصد كثير من الطيور المهددة دولياً بالانقراض (مثل مرعة الغلة، وأبو اليسر أسود الجناح، والشرشير المخطط، والزرقاوي الأحمر، والمرزة البغثاء، وصقر الجراد، والعقاب الملكي)، وغيرها ضمن أسراب الطيور المهاجرة، مشيراً إلى أن بعض هذه الطيور يقيم في المنطقة بصفة دائمة ويتكاثر فيها. وترجع أهمية الزرانيق لكونها أرض رطبة تستقبل الطيور المهاجرة، وتوفر الغذاء (الحشرات أو القوارض)، وتحافظ على التوازن البيئي بها.
وأوضح حلمي أن مصر «أعلنت منطقة الزرانيق وسبخة البردويل محمية طبيعية لحماية هذه الطيور المهاجرة، لحين مواصلة رحلة هجرتها إلى مناطق مشتاها في شرق ووسط أفريقيا».
ويعد طائر السمان من أهم الطيور المهاجرة التي ينتظرها مواطنو شمال سيناء، بموسمي الربيع والخريف، إذ تقيم بعض الأسر والعائلات مخيمات على الشواطئ لصيد هذا الطائر الذي يعد من الأنشطة الاقتصادية المهمة لبعض السكان.
ومن جانبه، قال المهندس عبد الله الحجاوي، رئيس الجمعية الأهلية لحماية البيئة بشمال سيناء، لـ«وكالة أنباء الشرق الأوسط»: «مشاهدة عدة أسراب من بعض الطيور المهاجرة بالمحافظة يعنى أن الطيور التي بدأت الهجرة مبكراً غير قادرة على تحمل درجات الحرارة العالية في أوروبا». وطالب الحجاوي بضرورة «إجراء دراسة عاجلة لأثر هجرة الطيور المبكرة، والعناصر والكائنات التي تتغذى عليها». وعد الحجاوي محمية الزرانيق كنزاً في سيناء.
وسميت محمية الزرانيق بهذا الاسم نسبة إلى المسطحات المائية المتداخلة المتعرجة التي تتخلل السبخات في المنطقة. وتسمح السلطات المصرية بصيد السمان والشرشير الصيفي، بناء على الضوابط المقررة من وزارة البيئة المصرية لعام 2019.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)