ويليام بليك... عبقري أم مجنون؟

عندما مات في لندن عام 1827 ما كان أحد يعرف قيمته ولا وزنه

من رسوماته
من رسوماته
TT

ويليام بليك... عبقري أم مجنون؟

من رسوماته
من رسوماته

باختصار شديد: لقد وُلِد ويليام بليك في لندن عام 1757 وفيها مات عن عمر يناهز السبعين عام 1827. وكان أول شاعر رومانطيقي في إنجلترا قبل ووردزورث وكوليردج. ويبدو أنه وُلِد في عائلة فقيرة وظل فقيراً طيلة حياته كلها من دون أن يشتكي من ذلك، ومن دون أن يلهث وراء الثروة والجاه والغنى، كما يفعل معظم الكتاب والمثقفين. ولم يسافر خارج بلاده قطّ، ولم تكن له عشيقات، وإنما ظل مخلصاً لامرأة واحدة هي زوجته. وكانت أُمّية لا تعرف القراءة والكتابة فعلمها ذلك بعد زواجهما. ورغم أنها كانت عاجزة عن فهمه أو مشاركته لرؤاه العبقرية أو الجنونية، فإنها أصبحت مساعدته المخلصة.
ولكن إذا كان بليك قد تعود على هذه البساطة والفقر في حياته، فإنه كان يشكو من الوحدة والعزلة والتهميش. فقد كان يكتب ويرسم دون أن يهتم به أحد. وهذا أمر صعب جداً بالنسبة للمبدعين والخلاقين، فهم يحبون أن يعترف الآخرون بهم وبإنجازاتهم. وكان الناس عموماً يعتبرونه رجلاً مختلاً من الناحية العقلية لا أكثر ولا أقل. وبالتالي فمن الذي سيهتم بخربشات شخص مجنون؟ ألم يكن يقول إنه في حوار دائم مع الرسل، والملائكة، والمسيح؟! أما كانوا يرونه أحياناً يمشي في الشارع وهو يتحدث بصوت عالٍ مع نفسه فقط؟ كان يتحدث مع أشخاص غير مرئيين وكأنهم أشخاص حقيقيون يسيرون إلى جانبه. كان يرى ما لا يرى.
والشيء الذي زاد من تفاقم الوضع هو أنه كان يحتقر العادات والتقاليد السائدة. ولم يكن يقيم وزناً للمؤسسات الاجتماعية والدينية. وكيف يمكن لإنجلترا المحافظة أن تقبل شخصاً يقول هذه العبارة: «من حجارة القوانين بنوا السجون، ومن تعاليم الدين المفهومة خطأ بنوا المواخير». وينبغي العلم أنه عندما مات ويليام بليك في لندن عام 1827 كان مجهولاً تقريباً من قِبَل معاصريه. ما كان أحد يعرف قيمته ولا وزنه في تاريخ الفكر والآداب الإنجليزية. وهكذا راح يلتحق بعالم رؤاه وخيالاته وكأنه قديس. ولكنه كان واثقاً من نفسه وليس خائفاً على «مستقبله» إذا جاز التعبير. كان يعرف أن الأجيال القادمة سوف تعترف به وتدرك أخيراً مدى قيمته وعبقريته.
فقد كان يعرف ماذا فعل وماذا قدم من إنجازات للإنجليز وللبشرية في آن معاً. وكان يعرف أن دوره سيجيء عاجلاً أو آجلاً وسيكتشف الناس حقيقته وأهميته بعد مماته بعد أن تجاهلوه أو أنكروه في حياته. فقد خلّف وراءه كتباً رائعة، كتباً مليئة برسومه وتصاويره الجميلة. ومن دون أن تعرف إنجلترا والبشرية كلها، فإنهما فقَدَتا بموته أحد كبار المفكرين والشعراء. وهذا ما ستكتشفه الأجيال التالية. والواقع أننا لا نستطيع أن نفهم أصل الفكر الحديث من المركيز دو ساد إلى كافكا إذا لم نأخذ أعماله بعين الاعتبار. لقد كان ويليام بليك رائياً لا مجنوناً. ولكن ما الفرق؟ لقد كان سابقاً على عصره بكثير ولذلك لم يفهموه بل وراحوا يسخرون منه ويشكون في إمكانياته العقلية والنقلية.
أما من الناحية الشكلية، فقد كان هذا الكاتب والفنان العبقري رجلاً قصير القامة برأس ضخمة وعينين مزهوتين أو فخورتين. وكان طيلة حياته يفضل مصاحبة الأطفال على معاشرة الكبار، وكان من الطليعيين السابقين لأوانهم. وقد سبق نيتشه إلى تصحيح القيم الأخلاقية بعد أن نقد بشكل راديكالي العادات والأعراف التقليدية السائدة في عصره. وقد جعل من حياته كلها فصلاً من فصول الجحيم، قبل رامبو بزمن طويل. وقبل أن يظهر السورياليون على سطح الأرض بعدَّة قرون راح يهرب من عالم الواقع إلى عالم ما فوق الواقع: عالم الرؤى والأحلام الوردية، عالم الصفاء والنقاء.
لقد عرف ويليام بليك قبل بيرغسون وبروست وجويس أن الانبعاث العفوي للذاكرة العميقة أو لأعماق الذاكرة اللاشعورية يتيح لنا أن ننتصر على الزمن، ونتصل بالأبدية المتواصلة للكينونة. يُضاف إلى ذلك أنه كان شاعراً ملتزماً، أي منخرطاً في هموم عصره وقضاياه. فقد انفجر بالحقيقة حتى ولو كانت خطرة جداً، حتى ولو كلفه ذلك غالياً. لقد قال لهم: الأطفال يموتون من الجوع في لندن، والكهنة يرتلون الأناشيد الدينية في الكنائس وكأن شيئاً لم يكن! هل يُعقل ذلك؟ هل يجوز؟ أهذا هو الدين؟ أهذا ما أمرَنا به يسوع المسيح؟ ألم يقل لنا أن نشفق على الفقراء والضعفاء والمحتاجين؟ ألم يقل هذه العبارة البليغة: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني ملكوت السماوات؟
هنا تكمن عظمة ويليام بليك. نعم، لقد تمرد هذا الكاتب «المجنون» على القيم الزائفة أو المنافقة لمجتمعه وعصره. لقد تمرّد على كلا الصعيدين الفلسفي والديني. وأكبر دليل على ذلك اعترافه هو شخصياً بالمسألة. ألم يقل إن طريق الانتفاضة الزائدة عن الحد يؤدي بنا إلى بلوغ القصر المنيف للحكمة؟ المقصود ذروة الحكمة.
يقول الشاعر هذه الكلمات التي تدل على شخصيته أكثر من أي شيء آخر: «لا أريد أن أستخدم أسلوب المنطق والحجج والمقارنات. فعملي يتمثل بالإبداع والخلق ليس إلا. إنني أرفض المحاجات العقلانية الناشفة. إنني أطرح من الشعر كل ما ليس إلهاماً عفوياً صادراً من الأعماق. قال ذلك لكيلا يستهزئوا به أكثر مما فعلوا حتى الآن عن طريق اتهامه بالهلوسات والجنون».
كل ويليام بليك موجود في هذه الكلمات، وكل فلسفته في الحياة أيضاً. لقد كان يعرف أنه رؤيوي ملهم ينتمي إلى طبقة العباقرة لا إلى عموم الناس العاديين. وكان يقول باستمرار إن كتاباته تُملى عليه من قبل الملائكة والقديسين والمسيح. وقد وصل به الأمر إلى حد أنه كتب في إنجيله الخالد ما يلي: «عندما مات يسوع كنتُ إلى جانبه»!!
ولذلك شكّوا بقواه العقلية وقالوا إنه مجنون. والواقع أنه لم يكن مجنوناً إلا في نظر الأغبياء. فالرجل كان يرى الله في كل مكان وليس فقط في الكنيسة محبوساً بين أربعة جدران. ونضيف من عندنا: ألم يرد في القرآن الكريم: «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله». كان بليك فيلسوفاً حراً وشاعراً ملهماً وكفى. والواقع أنه عاش في عصر مكبوت جداً بسبب سيطرة الأصولية المسيحية ورجال الدين على العقول. ولذلك فإنه انتفض ضدهم وأعلن ثورته العارمة عليهم. ويبدو أن كثيراً من معاصريه كانوا يشاطرونه نفس مشاعر التمرد ضد الأخلاق القمعية السائدة، خصوصاً المحرمات أو التابوهات الجنسية.
فإنجلترا آنذاك كانت محافظة جداً من هذه الناحية على غرار المجتمعات التقليدية المحكومة من قبل الخوارنة والقساوسة والمطارنة. كانت شبه طالبانية! مَن يصدق ذلك الآن؟ أين كنا وأين أصبحنا؟ وعندما كان كتّاب ذلك العصر يهاجمون «الأخلاق» فإنهم كانوا يقصدون الأخلاق القمعية الخاصة بالجنس على وجه التحديد، وليس الأخلاق في المطلق... لم تكن أوروبا قد تحررت بعدئذ من أغلال الماضي وقيوده. ولذلك فإن ويليام بليك اتخذ مواقف مضادة للأصولية عندما قال إن المتعة هي مصدر الحياة وليس التنسك والابتعاد عن الرغبات. ينبغي العلم بأن سيرة حياة ويليام بليك عادية جداً ولا تحتوي على أي أحداث استثنائية. فوالداه كانا من أصل متواضع، وقد أنجبت أمه خمسة أطفال كان بليك هو الثاني من بينهم. وأبوه كان تاجر خردوات في أحد شوارع لندن الشعبية الفقيرة.
وكانت العائلة متدينة جداً كمعظم أناس ذلك الزمان. فالكتاب المقدس كان يحتل مكانة كبيرة في البيت، والجميع يتلونه بين وقت وآخر. ومنذ الطفولة ابتدأ ويليام بليك بقراءته مراراً وتكراراً. ومنذ البداية كان شاعرنا المقبل طفلاً غريب الأطوار. فعندما كان في الثامنة من عمره قال لإخوته إنه رأى شجرة جميلة مثقلة بالملائكة تماماً كالعصافير! وعندئذ ضربه والده كفاً على وجهه لكي يسكت ولا يعود إلى رواية هذه الحماقات. ولكن الضرب لم يجعله يتراجع عن مواقفه. فقد زعم أنه رأى ذلك على الشجرة، وهو لا يقول إلا ما رآه.
وفي إحدى المرات قال إنه رأى النبي زكريا جالساً تحت شجرة. وعندئذ ضربه والده مرة أخرى. ولكنه لم يتراجع عما قاله، ثم كفَّ والده عن ضربه بعد أن ملَّ من العملية. وأخذ الجميع يسخرون منه ومن رؤاه الخيالية أو الجنونية هذه. ولكن السخرية لم تردعه عن رواية أحلامه، مثلما لم يردعه الضرب. فهو شخص غير عادي، شخص يرى ما لا يراه الآخرون. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. وعندما كانت عائلته هي التي تسخر منه كان يسكت على مضض. ولكن عندما كان الآخرون في الشارع هم الذين يسخرون منه كان يشتبك معهم بالأيدي. وكانت تحصل معارك. لم يكن جباناً قطّ؛ ويليام بليك. كان يرد الضربات مثلما يتلقاها وأكثر.
في السادسة من عمره شعر والده بأن عنده مواهب فنية فوضعه في مدرسة لتعليم الفنون. ولاحظ بعدئذ أنه اختار الحفر أو النقش لا الرسم. وسعد والده لأن هذا الطفل المجنون قليلاً وجد طريقه في الحياة. ولكنه أُصِيب بخيبة أمل بعدئذ عندما سمع أنه ينظم الشعر! ووبخه وعنفه قائلاً: الشعر لا يطعم خبزاً يا ابني! ما لنا وما للشعر؟ ثم حصلت له قصة عجيبة أذهلت كل مقربيه بل ودوختهم. فقد سعى والده لتقديمه إلى رسام شهير كان مقرباً جداً من الملك و«يحل ويربط» في الأوساط الفنية كما يُقال. نقصد بذلك أنه كان نافذاً جداً ويستطيع أن يفتح لك الأبواب إذا ما أراد أو يغلقها كلياً في وجهك. ولكن عندما قدمه والده إلى هذا الشخص المهم سرعان ما أصيب الطفل بالهلع وهرب من المقابلة فوراً، وأعطى ساقيه للريح. ودهش والده جداً من هذا التصرف، ولم يعرف السبب. فركض وراءه لكي يلحق به. وعندما وصل إليه سأله عن سر تصرفه الغريب هذا. فأجابه: هذا الشخص يلبس عقداً حول رقبته. وسوف يُشنق يوماً ما! فجنّ جنون والده ولم يكد يصدق ما سمعه. وقال بينه وبين نفسه: حقّاً إن ابني مريض... إنه مجنون صوفي ولا أستطيع أن أفعل له شيئاً. ولكن هل نعلم أن نبوءته تحققت وأن هذا الرسام الشهير قد شُنق بالفعل بعد اثني عشر عاماً من ذلك التاريخ. فقد اتهمه الملك بإهدار المال العام أو استخدامه لمصلحته الشخصية. نعم، لقد تحققت نبوءة ويليام بليك المشؤومة هذه. ألم نقل لكم إنه يرى ما لا يراه الآخرون؟
فهل كان يتمتع بقدرات خارقة للعادة يا ترى؟ هل كان يستطيع أن يرى ما لا يُرى بالعين المجردة؟ وأخيراً يمكن القول إن هذا الطفل غريب الأطوار الذي سبب كثيراً من القلق والمخاوف لوالده كان بالفعل عبقرياً لا مجنوناً. لقد كان يتمتع بمواهب خارقة للطبيعة. وقد عبر عن أحاسيسه شعراً ونثراً وتأثر بالكبار من أمثال: شكسبير، وميلتون، وجان جاك روسو، وفولتير.

من أقوال ويليام بليك:
- في حبة واحدة من الرمل ترى العالم كله... وفي زهرة واحدة من الحقول ترى الفردوس
- ما دامت البراعم تتفتح فهذا يعني أنه لا يوجد موت حقيقي... أين هو انتصارك يا موت؟!
- أسهل عليك أن تغفر لعدوك من أن تغفر لصديقك



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.