لماذا يرفض اللاجئ الفلسطيني في لبنان إجازة العمل؟

إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)
إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)
TT

لماذا يرفض اللاجئ الفلسطيني في لبنان إجازة العمل؟

إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)
إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)

قبل نحو شهر، خرجت احتجاجات فلسطينية في لبنان على قرار وزارة العمل بإلزام العمال الفلسطينيين بالحصول على إجازة عمل، أسوة بالعمال الأجانب، وذلك في معرض خطة أرادت الوزارة منها تفعيل قانون العمل اللبناني الذي لم يطبق، خلال السنوات الماضية، بحسب ما يقول وزير العمل كميل أبو سليمان.
خرجت المظاهرات، وقاطعت المخيمات المنتجات اللبنانية على سبيل الضغط على الحكومة اللبنانية للعودة عن القرار، وكالعادة انقسم أركان الحكم على أساس طائفي، إذ دعمت معظم الأحزاب المسيحية قرار وزارة العمل، ودعت إلى «لبننة العمالة» في سوق العمل، لتقليص نسبة البطالة بين اللبنانيين وزيادة مردود مالي إلى خزينة الدولة من رسوم إجازات العمل. أما أكثرية القيادات المسلمة فطالبت باستثناء الفلسطينيين من تلك الإجراءات، عملاً بمبدأ أن هؤلاء معدومو الخيارات، ويجب أن يحصلوا على أدنى حقوقهم بالعمل، في ظل أفق سياسي مسدود لحل القضية الفلسطينية وتحقيق «حق العودة».
والواقع أن الطرفين اللبنانيين، المسلمين والمسيحيين، لهم هواجسهم التي انطلقوا منها في التعامل مع ملف العمالة الفلسطينية. فالمسيحيون يتوجسون من أن يكون منح الفلسطينيين (والسوريين استطراداً) حق العمل أسوة باللبنانيين، تمهيداً ضمنياً لبقائهم، كون الاكتفاء المادي يمنحهم استقراراً في بلد يجب أن يكونوا فيه لاجئين مؤقتين. وبالتالي، سيكون ذلك توطيناً مقنعاً في بلد يغصّ بعدد سكانه وتتضاءل موارده، ويختل الميزان الديموغرافي فيه بين المسلمين والمسيحيين.
أما المسلمون، فيتوجسون من أن تكون هذه القرارات بمثابة ضغوط على الفلسطينيين للهجرة، وتضييقاً عليهم، مما يزيد من شتات الفلسطينيين ويبعثرهم، مما يفقدهم الثقل الديموغرافي الكافي للضغط على المجتمع الدولي بـ«حق العودة».
من هنا، اندلعت الأزمة، وتمثل الانقسام في فريقين، يقدم كل منهما هنا وجهة نظره في صفحة «قضايا».

يُعاني الفلسطيني بشكل عام من ظروف مُختلفة عن شعوب العالم أجمع، فهو لا يزال يرزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي لأرضه، ليكون الأطول منذ 71 عاماً.
ونتج عن هذا الاحتلال تشريد أعداد كبيرة من اللاجئين داخل المناطق الفلسطينية، أو إلى دول الجوار: لبنان، سوريا، الأردن ومصر، فضلاً عن أصقاع المعمورة.
يعيش اللاجئون الفلسطينيون تحت وطأة ضنك العيش، والظروف المعيشية والسياسية والقوانين التي تتفاوت بين بلد وآخر.
تزيد هذه المعاناة مع العجز الذي تُواجهه وكالة «الأونروا»، المُستهدفة بإلغائها لشطب القضية الفلسطينية، وفي الطليعة قضية اللاجئين.
يُدرك الفلسطينيون أنّ مُؤامرة إنهاء القضية مُستمرة، ولن تُمرّر الإدارة الأميركية والكيان الإسرائيلي إفشال «صفقة القرن» مُرور الكرام، دون تدفيع الفلسطيني الثمن، كما لبنان، الذي أيّد الرفض الفلسطيني للصفقة.
يبرز في صدارة اللاجئين مَنْ اضطرَّ للنزوح إلى لبنان إثر نكبة عام 1948. والذين تمَّ إحصاؤهم في عام 1950 فبلغ عددهم 127600.
لكن بقيت أعداد الإحصاءات تتفاوت، حيث تشير إحصاءات وكالة «الأونروا» لعام 2017 إلى أنّ العدد هو 463664. فيما مديرية الشؤون السياسية للاجئين في الجمهورية اللبنانية، حدّدت أنّ عددهم هو 592711، بينما التعداد الذي جرى حتى ديسمبر (كانون الأول) 2017. عبر شراكة بين «إدارة الإحصاء المركزي اللبناني» و«الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني»، تحت مظلّة «لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني» بتكليف من رئاسة مجلس الوزراء، أحصى 174422.
تباين الأعداد يدل على عدم وضوح الرؤية لجهة إحصاء اللاجئين من قِبل جهات مُعتمدة، فكيف الحال بشأن القضايا التفصيلية المُتعلّقة بالوجود الفلسطيني في لبنان؟
لذلك، فإنّ الهواجس والحذر لدى اللاجئين الفلسطينيين ترتبط بركيزتين:
1 - الواجبات: يلتزم بها اللاجئ الفلسطيني، ومطلوب منه إثبات براءته من اتهام دائم.
2 - الحقوق: محروم من كثير منها، تذرّعاً بمبدأ المُعاملة بالمثل بين الدول، وقد تمَّ تدارك بعض ما يتعلّق باستثناء الفلسطيني من ذلك، وفقاً لما نصّ عليه عدد من البروتوكولات.
المُؤسف أنّ التعامل مع الملف الفلسطيني هو وفق النظرة الأمنية، فأثبت أنّه لا يُوجد للفلسطيني أي مشروع، لا سياسياً ولا أمنياً في لبنان، بل تصدّى للإرهاب بكل أشكاله وبشهادة المسؤولين والقوى اللبنانية، ولعل تضحية الشاب الفلسطيني صابر ناصر مراد بنفسه، بالتصدّي للإرهابي عبد الرحمن مبسوط، عشية عيد الفطر المبارك في طرابلس، مساء الاثنين 3 - 6 - 2019. خير دليل.
أمام ذلك، مطلوب التعامل مع الملف الفلسطيني رُزمة مُتكاملة شاملة، بصراحة ووضوح.
برز في الآونة الأخيرة مع بدء تنفيذ وزارة العمل اللبنانية خطة تنظيم العمالة الأجنبية في لبنان من 10-7-2019. إجراءات استهدفت عمل اللاجئين الفلسطينيين، وإقفال مؤسّستين إحداهما هي «مؤسّسة عارف للسيراميك» التي يملكها الشاب الفلسطيني زياد عارف في بلدة ضهر العين في قضاء الكورة (شمالي لبنان)، مما أثار حراكاً جماهيرياً سلمياً داخل المُخيّمات والتجمّعات الفلسطينية، وتضامناً في مدن رئيسية لبنانية.
هذا الحراك وعناوينه، طرح أهمية تحديد توصيف وضع الفلسطينيين في لبنان: أهم أجانب أم لاجئون؟
- إنْ كانوا أجانب، فيجب عدم حرمانهم من حق التملّك، الذي يتمتّع به الأجنبي!
- إنْ كانوا لاجئين، فيجب عدم حرمانهم من حق العمل، الذي أقرّته وكفلته الأعراف والمواثيق الدولية!
المُستغرب هو الإصرار على أنْ يحصل الفلسطيني على إجازة عمل، وإنْ تغيّرت شروط الحصول عليها، ما يُثير الهواجس، لأنّه في أي دولة لا يحتاج المُواطن إلى إجازة عمل، فهو يحمل جنسيتها.
وفي دول العالم، فإنّ الحصول على إقامة، كفيل بمُزاولة العمل، ويكون مُرتبطاً بمدّة صلاحيتها، واللاجئ الفلسطيني يحمل بطاقة هوية صادرة عن وزارة الداخلية - مديرية الشؤون السياسية، والتي تُعتبر إقامة له، ما ينفي عن الفلسطيني صفة الأجنبي، لأنّ القانون نصَّ على اشتراط حصول الأجنبي على إقامة أو تأشيرة دخول.
بالتالي فإنّ الفلسطيني ليس بحاجة لإجازة عمل.
كما أنّ تحديد الحاجة إلى العمل، يتطلّب دراسة حاجة السوق، والدورة الاقتصادية للاجئ الفلسطيني هي دائمة داخل لبنان، وما يُنتجه يصرفه، ولا يرسله إلى الخارج، بل إنّ أفراد العائلة يكدّون في لهيب الشمس وصقيع البرد، ويحوّلون أموالاً إلى عائلاتهم في لبنان، مما يُشكّل مورداً يُساهم بإنعاش الاقتصاد اللبناني.
ويبقى الحصول على إجازة العمل مشروطاً بـ:
- مهن مُحدّدة، ولمدّة مُحدّدة، وفقاً لحاجة السوق.
- إنّ المستندات المطلوبة والرسوم من الممكن أنْ تتغيّر وفق قرارات من الوزير، وحسب الاستنسابية، وإنْ كانت الآن مُعفاة من الرسوم، فمَنْ يضمن غداً تحديد رسوم، لا يدري أحد قيمتها.
- إنّ مُدّة صلاحية الإجازة مُحدّدة بفترة عامين، ويُمكن تعديل صلاحيتها حتى 3 أو 5 أعوام، وتجديدها دورياً، وفق حاجة السوق، فمَنْ يضمن التجديد؟
- إنّ منحها وفق مهنة مُحدّدة، ويُحذّر الحاصل على الإجازة، العمل بمهنة أخرى، أو مؤسّسة أخرى، والطبيب والمهندس الفلسطيني في لبنان يعمل سائقاً أو بائعاً!
- تجديد إجازة العمل مُرتبط بالتسجيل في الضمان الصحي، ما يتوجب دفع ما نسبته 25.5 في المائة من قيمة الراتب، علماً بأنّه لا يحصل إلا على 8.5 في المائة هو تعويض نهاية الخدمة، مما يؤدي إلى عدم تصريح رب العمل عن العامل الفلسطيني.
- ضرورة الحصول على عقد عمل بين رب العمل والعامل.
- أما رب العمل الفلسطيني، فعليه إيداع مبلغ 60 ألف دولار أميركي في المصرف.
- توظيف 75 في المائة من العمال اللبنانيين مُقابل عامل أجنبي.
- عدم تمكّن رب العمل الفلسطيني من التقدّم للحصول على قروض من المصارف، التي لا تُوافق على فتح اعتمادات لمَنْ تقترب مدّة انتهاء صلاحية إجازته.
- إنْ كانت إجازة العمل معفاة من الرسوم، لكن من أجل الحصول عليها، قد يتكبّد طالبها «إكراميات»، أو دخول وسطاء يُطالبون بمبالغ مالية مُرتفعة!
خلال الاجتماع بين وزير العمل الدكتور كميل أبو سليمان وسفير دولة فلسطين لدى لبنان أشرف دبور، وبحضور رئيس «لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني» الوزير السابق الدكتور حسن منيمنة، الذي عُقِدَ يوم الاثنين في 15 - 7 - 2019 - وشاركتُ بحضوره - قدّم الوزير أبو سليمان الكثير من التسهيلات لجهة:
- إعفاء رب العمل الفلسطيني من إيداع مبلغ في المصرف.
- إلغاء اشتراط تشغيل 75 في المائة من العمال اللبنانيين.
- عدم ارتباط التسجيل في الضمان الصحي، للحصول على إجازة العمل.
لكن الموقف الفلسطيني كان واضحاً، رفض إجازة العمل، لأنّ الفلسطيني ليس أجنبياً.
أمام ذلك، فإنّ مُعالجة الأمر، تتوزّع على مراحل: منها ما هو سريع، وأخرى في مجلسي الوزراء والنوّاب.
* بشأن الخطوات السريعة، قام الوزير أبو سليمان بإجراءات داخلية، بالإيعاز إلى المُفتشين في الوزارة، بعدم إقفال أي مُؤسّسة يملكها فلسطيني، أو توقيف العمال الفلسطينيين عن العمل.
* أما الخطوات المُرتقبة، فهي كما جرى الإعلان خلال جلسة مجلس النواب بين الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، بإحالة الملف على مجلس الوزراء، لاتخاذ المُقتضى.
ولأنّ الفرقاء اللبنانيين كانوا يُطالبون بإجازة عمل، وإنْ كانت مُعفاة من الرسوم، وهو ما أُقر في الفقرة 3 من المادة 59 من القانون 129 الصادر بتاريخ 24 - 8 - 2010. والذي نصَّ على أنّ «يُعفى من رسوم إجازة العمل اللاجئون الفلسطينيون» - أي أنّهم أعفوا من الرسوم وليس من الإجازة، وإلغاء هذه المادة بحاجة إلى تعديل القانون من خلال التقدّم بذلك إلى المجلس النيابي، وباتت صيغته جاهزة... كذلك تعديل قانون الضمان الاجتماعي رقم 128.
وبانتظار ذلك، فإنّ الحوار مُتواصل، ومحوره: الرئيس بري، الرئيس الحريري، الوزير أبو سليمان، رئيسة «كتلة المستقبل النيابية» النائبة بهية الحريري، المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، الوزير السابق منيمنة والسفير دبور.
كما أنّ الحراك السلمي المطلبي مُتواصل، حيث أفشلت الجهود الفلسطينية - اللبنانية أكثر من مُخطّط توتيري، ومنها تحويل وجهة الحراك السلمي في مخيّم عين الحلوة عن المطالبة بإقرار الحقوق الفلسطينية إلى استهداف الجيش اللبناني، وأيضاً العمل الإرهابي، الذي قام به بلال العرقوب ومجموعته باغتيال الشاب حسين جمال علاء الدين «الخميني»، بعد مُشاركته في «جمعة الغضب» الثالثة بتاريخ 2 - 8 - 2019 وما أعقبها من تصفية بلال العرقوب واعتقال نجليه يوسف وأسامة وتسليمهما إلى مخابرات الجيش اللبناني.
ومنعاً لاستغلال الورقة الفلسطينية في التجاذبات الداخلية اللبنانية، والتي يكون ضحيتها الفلسطيني، فإنّ الضرورة أصبحت مُلحة إلى إطلاق حوار لبناني - فلسطيني لمُناقشة الحقوق الفلسطينية والمعيشية والمدنية، وحق العمل والتملك بما يؤدي إلى:
- إلغاء الحصول على إجازة العمل.
- تعديل الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون 296 الذي أقر في مجلس النواب بتاريخ 21-3-2001. والذي استثنى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من شروط الملكية العقارية المُطبقة على سائر الرعايا العرب، بذريعة رفض التوطين.
- السماح للفلسطيني بإنشاء الجمعيات والانتساب إليها وإلى النقابات.
- الاستفادة من خدمات يدفعها اللاجئون الفلسطينيون كضرائب ورسوم إلى الخزينة اللبنانية، ولا يستفيدون منها.
- الالتزام بـ«بروتوكول الدار البيضاء» لعام 1965، الذي صادق لبنان على معظم بنوده، وينص على استثناء مُعاملة الفلسطينيين في الدول العربية التي يُقيمون فيها وتيسير فرص العمل لهم مع احتفاظهم بالجنسية الفلسطينية، لأنّ الفلسطيني يرفض التوطين أو التهجير - خاصة أنّ هناك مَنْ عاد إلى فتح أبواب الهجرة - ويتمسّك بالعودة إلى أرض وطنه، وبانتظار ذلك أنْ يعيش بكرامة.

- عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني.
[email protected]



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري