العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

شهر نشاط من جهة واشنطن... قابله صمت في بغداد

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني
TT

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

كان الشهر الماضي حافلاً بالنشاط من جهة الولايات المتحدة الأميركية حيال العراق، ومتسماً بالصمت من جانب الحكومة العراقية في بغداد. ففي أعقاب القرار الذي اتخذته وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، بنحو أقل من أسبوعين، جرى الإعلان عن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» الذي ينتظر إحالته إلى مجلس الشيوخ الأميركي بعد التصويت عليه من قبل مجلس النواب. وتزامنت هذه التطورات مع تطور خطير آخر، هو ما كشفت عن تقرير نشرته صحيفة «التايمز» البريطانية، عن إقدام إسرائيل على قصف مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وأشار التقرير إلى استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية أولاً كل منطقة آمرلي التابعة لمحافظة صلاح الدين، وثانياً معسكر أشرف في محافظة ديالى.
ولقد راح ضحية قصف هذا المعسكر طبقاً للتقرير عناصر من الحرس الثوري الإيراني، فضلاً عن كتائب «حزب الله».
الجهات الرسمية في العراق أحجمت عن الرد أو التعليق على قرار وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، ومشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق». وأحجمت كذلك عن الرد على تقرير لصحيفة «التايمز» البريطانية، عن قصف إسرائيل مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وحقاً، باستثناء القرار الإجرائي الذي اتخذه البنك المركزي العراقي بتجميد الأصول المالية للشخصيات الأربع المستهدفة بالعقوبات الأميركية - وهي أحمد الجبوري (المعروف بـ«أبو مازن») ونوفل العاكوب وريّان الكلداني ووعد القدو - لم يصدر أي موقف رسمي من بغداد... لا بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق»، ولا على تقرير «التايمز» عن القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية. واللافت أن النفي بشأن قصف المواقع صدر عن «هيئة الحشد الشعبي»، التي قالت إنها شكّلت لجنة للتحقيق في «حادثة» آمرلي، فاتضح (حسب الهيئة) أنه «لم يكن هناك قصف بل انفجار وقود صلب»، أما القصف على «معسكر أشرف»، فلم يُشِر إليه أحد داخل العراق.

تساؤلات وإيحاءات
ردود الفعل العراقية بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» تعكس الجدل السياسي في البلاد حيال كل شيء، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان التعبير عن موقف وطني موحّد إزاء قضايا يُفترض ألا تكون موضع جدل أو خلاف بين مختلف القوى والأطراف السياسية.
ففي الوقت الذي تساءل فيه محمد شياع السوداني، عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف «دولة القانون»، حول ما إذا كان هذا مشروع القانون هذا يعني «وصاية جديدة على العراق... أم لجعل العراق ساحة اشتباك مع دول الجوار»، فإنه أجاب على تساؤله بنفسه بالقول إن «هي إلا كلمة حقّ يراد بها باطل». وأردف السوداني أن مشروع القانون، الذي أصبح مثار جدل في الأوساط السياسية العراقية، ينصّ على أنه يحقّ للرئيس الأميركي «فرض عقوبات على أي أجنبي ينوي القيام - متعمداً - بأي شكل من أعمال العنف، له غرض أو تأثير مباشر على تهديد السلام والاستقرار في العراق، أو حكومة العراق وتقويض العملية الديمقراطية فيه، أو تقويض الجهود الكبيرة لتعزيز البناء الاقتصادي والإصلاح السياسي أو تقديم المساعدات الإنسانية إلى الشعب العراقي».
كذلك يشترط مشروع القانون على وزير الخارجية الأميركي مسؤولية «إعداد قائمة معلومات وحفظها ونشرها وتجديدها سنوياً، عن مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات أو (القوات بالوكالة) في العراق التي تتلقى مساعدة لوجيستية أو عسكرية أو مالية من الحرس الثوري الإيراني. وهذا، فضلاً عن ممارسة الإرهاب داخل العراق، وتحديد إذا ما كان ينبغي معاقبة الأفراد المُدرَجين في القائمة، وإذا كان ينبغي عد الأشخاص المرتبطين بتنظيمات معينة إرهابيين ومعاقبتهم».
ولئن كان السوداني قد طرح تساؤلات ذات إيحاءات معينة، في إشارة إلى أن مشروع القانون هذا يأتي في وقت تزايدت فيه مخاطر التصعيد الأميركي - الإيراني، الذي لن يكون العراق في معزل عنه، فإن أكاديميين عراقيين آخرين كانت لهم حيال مشروع القانون آراء تكاد تكون متطابقة من حيث المضامين، إذ رأى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات الاستراتيجية، في حديث له مع «الشرق الأوسط» أن «القانون يأتي كالتزام من قبل الدولة الأميركية، بقيادة الكونغرس والأحزاب والرئيس ونائب الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية، بدعم الدولة العراقية والحفاظ على الأمن والاستقرار كمسؤولية أخلاقية وتحالف سياسي مع الدولة العراقية، وكالتزام سياسي بالحفاظ على الأمن والاستقرار بعد دحر كيان (داعش) الإرهابي».
وأضاف الدكتور علاوي أن «الولايات المتحدة تريد أن يكون العراق بعيداً عن الصراع الأميركي - الإيراني وعمليات التصعيد الجارية. ولذلك هي ستقف مع الحكومة العراقية والشعب العراقي». واستطرد موضحاً أن «هناك استراتيجية أميركية جديدة في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقوم على فلسفة الارتباط الصلب، وهي لأول مرة بعد سياسة الرئيس جورج بوش (الابن) السابق، تعود بواشنطن لاتباع استراتيجية الارتباط الصلب بدل المرن التي اتُّبعت في ظل الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان قد أثّر كثيراً في مكانة دعم العراق في القرار الأميركي». وتابع علاوي مشيراً إلى أن «المصالح الأميركية كبيرة في العراق، وجزء أكبر منها هو التزام واشنطن باستقرار العراق سياسياً وأمنياً واجتماعياً».

عودة التأثير الأميركي
أما الخبير الأمني سعيد الجياشي، فإنه يرى أن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» أعاد العراق إلى التأثير الأميركي المباشر في هيكلية النظام السياسي، مع قدرة محاسبة واضحة... وفق ما جاء في نص مشروع القانون الذي لم يحدد في نصوصه معايير واضحة للعمل به. ويضيف الجياشي في حواره مع «الشرق الأوسط» أنه «إذا اكتملت دورة إقراره من مجلس الشيوخ والبيت الأبيض نكون أما مع وضع جديد تماماً من خلال مراحل تنفيذه في طياتها خطورة أكثر من (قانون تحرير العراق) الذي شرّعه الكونغرس الأميركي عام 1998». ويوضح الجياشي أن «من المتوقّع أنه سيكون لهذا القانون وصلاحياته قدرة عالية على إزالة مَن تريد من الشخصيات، وتقويضها، أو تجميد الشركات والحسابات وإيقافها، ومصادرة أموال مع تقويض مستمر لما تراه يمثل تهديداً لاستقرار العراق، وفق هذا القانون الذي معاييره غير واضحة».
وينبّه الخبير الأمني إلى أنه «من المهم أن تهتم الحكومة وقنوات الدولة بمراجعة وبحث أسباب تحريك القانون حالياً، رغم مرور فترة سنتين على الشروع بتشريعه؛ إذ ربما كان هناك ربط واضح في التوتر المتصاعد بين إيران وأميركا وعلاقة العراق بهما، وإمكانية أن يكون العراق منطقة اشتباك بينهما... والقادم، وفق هذا القانون، ينذر بتصعيد متعدد الاتجاهات والمجالات».
في السياق نفسه، يقول الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي» لـ«الشرق الأوسط» معلقاً إن «هذا القانون، بعد التصويت عليه من قبل مجلس الشيوخ الأميركي، في أعقاب إقراره من قبل مجلس النواب، سيفتح الباب أمام الرئيس الأميركي لاتخاذ إجراءات عقابية إضافية بحق إيران»، ثم أردف أن «هذا القانون يأتي بمثابة تحدٍّ ليس فقط للحكومة العراقية الحالية، وإنما هو تحدٍّ ماثل للقوى السياسية لاعتماد موقف يتماهى مع مصلحة العراق، ثم إنه يشكل تحدياً حقيقياً للفصائل المسلحة التي أشار لها هذا القانون، ولشكل علاقتها مع إيران».

التدخل العسكري... ممكن
ومن ثم لاحَظ الدكتور الشمري أن «القانون يتيح للرئيس الأميركي التدخل عسكرياً في العراق، لحمايته من أي مؤثرات تقوّض العملية الديمقراطية»، واستطرد شارحاً: «هذا القانون يتماشى مع الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة، التي يكفل أحد بنودها الحق للقوات الأميركية في التدخل عسكرياً تجاه كل ما يزعزع أو ينوي لإسقاط الحكم الديمقراطي في العراق». وأشار إلى أن «القانون مرَّ بمراحل طويلة، حيث يبدو أن هناك قلقاً أميركياً حيال الجهات التي تمتلك السلاح في العراق. وبالتالي، فإنه سيترتب عليه أمور كثيرة، وبالأخص لجهة إعلان الجهات المقربة من إيران على لائحة الإرهاب الأميركية. وأنا لا أستبعد أن يجري تخادم ما بين هذا القانون واتفاقية الاتفاق الاستراتيجي التي تتيح للولايات المتحدة الأميركية التدخل عسكرياً إذا ما وجدت أن الديمقراطية في العراق مهددة. وهذا يعني أن احتمالية التدخل العسكري قد تكون واردة في حال حوّلت بعض الجهات العراق إلى (أرض احتكاك) أو هددت العملية السياسية، أو حاولت خرق سيادة العراق أو نظامه الديمقراطي».

«داعش» خلف الباب
من ناحية أخرى، واصل الجيش العراقي على مدى الشهرين الماضيين حربه ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، أمام خلفية محاولات البلاد الخروج من عنق زجاجة مشاكلها الداخلية. وللعلم، تبدأ هذه المشاكل من تعذر إكمال تشكيل الحكومة (حيث لا تزال حقيبة وزارة التربية شاغرة)، ولا تنتهي بالجدل حول مُخرجات البرنامج الحكومي، الذي تقول الحكومة إن نسب الإنجاز فيه تعدت الـ79 في المائة... بينما تقول لجنة متابعة البرنامج في البرلمان العراقي إن المنجز لم يتعد الـ36 في المائة.
العملية العسكرية الجديدة ضد هذا تنظيم «داعش» أطلق عليها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اسم «إرادة النصر». ولقد بدأت منذ أيام صفحتها الثالثة بهدف مطاردة عناصر «داعش» داخل محافظات ديالى وكركوك ونينوى. ومع إعلان الجيش العراقي تحقيقه «انتصارات كبيرة» على هذا التنظيم، بما في ذلك اختراق منظومته الخاصة، وتجنيد عناصر منه لصالح الجهد الاستخباري العراقي، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن «(داعش) عاود ظهوره في العراق وسوريا».
التقرير الأميركي يقول إنه «رغم خسارته خلافته على المستوى الإقليمي فإن تنظيم (داعش) في العراق وسوريا عزّز قدراته في العراق واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الحالي من السنة».

تقرير «البنتاغون»
وأضاف تقرير «البنتاغون» أن «التنظيم استطاع توحيد ودعم عمليات في كلا البلدين، والسبب في ذلك يرجع بشكل جزئي إلى كون القوات المسلحة غير قادرة على مواصلة عمليات طويلة الأجل أو شن عمليات متزامنة (في وقت واحد) أو الحفاظ على الأراضي التي استعادها». وفي هذا السياق يقول الدكتور هشام الهاشمي، الخبير المتخصّص بشؤون الجماعات المسلحة لـ«الشرق الأوسط» إنه «رغم أن شبكات فلول (داعش) عادت لتنشط بشكل فاعل في كل من مثلث غرب صلاح الدين وجنوب نينوى وشمال الأنبار، ومثلث شمال شرقي ديالى وشرق صلاح الدين وجنوب كركوك، فإن عودته في غرب العراق تختلف عن عودته في شرق العراق».
ويضيف الهاشمي شارحاً أن «بنيته في غرب العراق يغلب عليهم الطابع العشائري المحلي، على عكس شرق العراق الذي يشكل فيه الفلول من العشائر غير المحلية غالبية واضحة أو قيادة مسيطرة».
ويتابع الهاشمي إن «مقارنـة اعترافات فلول تنظيم (داعش) الذين أُلقِي القبض عليهم خلال عامي 2018 و2019. تظهـر عـلى نحـو جـلي ارتفـاع نسـبة مَن اعترفوا بأن نظرتهـم تجـاه عقيدة ومنهج (داعش) نظرة سـلبية عند فلول غرب العراق، وذلك لأن معظمهم كان انضمامهم لأسباب اقتصادية وليست عقائدية أو دينية فقهية. ويتضـح هـذا الأمـر، عـلى نحـو واضح، لدى جميـع اعترافات الموقوفين أو المسجونين من تلك المناطق». ثم يؤكد الدكتور الهاشمي أن «تطلـع فلول (داعش) إلى كسر الحـدود بين العراق وسوريا، إنمـا يمثـل قمة أهدافها المقبلة، وسـعيها لتأسيس الخلافـة المزعومة التـي تقـوم على أسـاس البيعة لأبو بكر البغدادي. عملياتهم هناك قد تمهّد إلى تخادم الولايات المتحدة كما تخادمت مع الفصائل السلفية في أفغانستان بالضد من السوفيات». ويمضي الهاشمي في شرحه قائلاً إن «العراق بحاجة إلى سـند اسـتراتيجي واضـح. ويبـدو أنـه رغم أن الحكومة العراقية لا تسـتطيع الإقـرار بذلـك صراحـة. فالسند الاسـتراتيجي والعسكري الوحيد والعملي بالنسـبة إليـها هـو التصالح مع الشعب العراقي، حيث إن النصر العسكري الذي تحقق بطــرد (داعش) مــن المناطـق ذات الغالبية الســنّية في غرب وشرق العــراق ضرورة حيويــة، لكــن مجــرد هزيمــة «داعش» عسكرياً لـن تحــدث فرقــاً جذرياً إذا لم تنفذ برامج تمكين الاستقرار وإعادة الإعمار وإنهاء ملف النازحين كما هو مخطط».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.