ثقافتنا على المحك

كثير من النخب غير قادرة على التخلي عن الموروث الفكري الخارجي

TT
20

ثقافتنا على المحك

إننا أمام ظاهرة تنامي «صورة نمطية» سلبية ممتدة، تزامنت مع الحركات الاستعمارية، وتساهم في تقييم ثقافتنا وطريقة حياتنا بشكل غير موضوعي، ارتباطاً برؤيتها لمجتمعاتهم وتطوراتها على مر التاريخ، أوصلنا اليوم لأن يكون حكم بعضنا نحن على تراثنا وفكرنا مرتبطاً ارتباطاً شديداً ومقارناً بوجهة نظر الغير فينا، لا سيما الغرب، حتى أصبحنا متأثرين برؤيتهم لنا، وبفكرهم وبنظرتهم إلينا.
وإذا كنا عالجنا مصادر هذه الرؤية النمطية في المقال السابق، فاليوم نتناول المشكلات المرتبطة بنا كمجتمعات مُستقبلة لهذه الرؤية السلبية، ضمن حركة العولمة الواسعة، ودورنا نحن لحماية ثقافتنا وثوابتها. فلو نظر إلينا آخرون بهذه الصورة النمطية السلبية استناداً على استدلال تحكمه «الشوفينية الثقافية والسياسية» أو ضعف المقاصد البحثية، فإننا ملومون بالقدر الأكبر، لعدم قدرتنا على حماية ثقافتنا من التآكل التدريجي والتسرب البطيء لهذه الرؤى إلينا. وهنا أشير صراحة إلى أن خطوط دفاعاتنا أصبحت مهتزة، وتحتاج إلى تنظيم للحفاظ على هويتنا، وذلك على النحو التالي:
أولاً: أن التعليم الذي هو الوعاء والوسيلة الأولى لنقل القيم الفكرية والثقافية والتراثية وترسيخها، مهتز بدرجات متفاوتة، وهذا الاهتزاز لعب دوره الأول في تشكك الأجيال الصاعدة في موروثها الثقافي والحضاري والتاريخي، فالأجيال الحالية لم تتجرع هذه القيم بالقدر الكافي، وإن تجرعتها فهي لم تُثبت في وجدانها بالقدر الكافي لأسباب مختلفة، سواء لضعف المناهج أو عدم مجاراتها للواقع الذي يعيشه الطالب، أو أن أدوات نقلها للأطفال والشباب باتت عقيمة أمام ثورة العلم والاتصالات. والأمثلة متعددة ولا مجال لحصرها، ولكن تحضرني تجربتي مع الشعر العربي على سبيل المثال، فالشعر العربي حتى قرن مضى كان رونق الثقافة العربية، لكونه ناقلاً للقيمة الثقافية بشكل لغوي وفني وبلاغي وموسيقي عظيم، أما اليوم فالشعر في تقهقر شديد لضعف الطلب عليه، وذلك لصالح وسائل أخرى بين الشباب، على رأسها «الراب» على سبيل المثال.
ثانياً: إن ثورة الاتصالات زادت، ليس فقط من وتيرة التواصل بين الشعوب والأمم، ولكنها بدأت أيضاً في التأثير المباشر على تحديد القيم الثقافية لمجتمعاتنا، وأنا هنا لست من المطالبين بالرقابة، فلقد ولى هذا العصر، ولكننا أمام اختبار أصعب، وهو ضرورة أن ترقى وسائل نقل قيمنا وحضارتنا إلى مستوى المنافسة الثقافية الدولية، وهو ما يضع على كاهل مؤسساتنا القائمة على هذا الأمر، سواء في التعليم أو الثقافة أو الفكر أهمية صياغة مضمون قيمنا نفسه، بوسائل أكثر انسيابية للتطور الحادث على المستوى الدولي. فاليوم أي شخص يمكن له أن يقرأ أي كاتب على الإنترنت، ومن ثم حتمية تطوير منظومة التواصل أو نقل هذه القيم. ويحضرني هنا لقاء موسع مع رئيسة دار نشر، شرحت لي جهدهم الكبير في استخدام وسائل الاتصال الحديثة والمحببة للأطفال «الأنيميشن» لنشر قيمنا الدينية والثقافية، ولكنها وسائل مكلفة وصعبة وتحتاج لتضافر مع دور للدولة.
ثالثاً: لا خلاف أيضاً على أن إحدى قاطرات الحضارة والثقافة العربية، إن لم تكن قاطرتها الأولى، وهو «الإسلام» يتعرض لحرب ممنهجة، ولا أبالغ إذا قلت إنه كمؤسسة يتعرض لحصار فكري وثقافي نابع من الحرب الفكرية التي شُنت على الأديان بصفة عامة، وعليه بصفة خاصة، وهو ما يحتاج منا لتطوير الخطاب الفكري والإعلامي، بما يتناسب وقيمة هذا الدين الحنيف، ومع ما يجري حوله في العالم، بعيداً بالطبع عن ثوابت العقيدة، فلا أبالغ إذا قلت إن انتشار الإسلام في مناسبات عدة يأتي بقوة الدفع الذاتي لقيمه، أكثر منه للخطاب المُستخدم منا كمسلمين.
رابعاً: إذا ما اتبعنا فرضية إدوارد سعيد، أن الاستعمار قد استخدم النخب العربية قبل التحرر لنشر صورته الذهنية السلبية والنمطية بشكل غير مباشر أو حتى مباشر، فإن هذه الظاهرة ممتدة بعد أن أخذت أشكالاً وأنماطاً جديدة، فكثير من النخب ومصادر الفكر والامتداد الثقافي لنا تتأثر بقيم الغير؛ خصوصاً الغربية، ولا بأس في ذلك، فـ«التهجين الثقافي» مطلوب في أركان وهوامش محددة؛ لأنه جزء من ديناميكية التطور البشري، ولكن كثيراً من النخب غير قادرة على التخلي عن الموروث الفكري الخارجي تحت شعار الحداثة. وقد أفرد ابن خلدون الفصل الثالث والعشرين لهذه الظاهرة، بعنوان «في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، وهو ما يحتاج لمراجعة فورية.
واقع الأمر أن القلق ينتابني كلما تذكرت مقولة المؤرخ العظيم ويل دورانت، بأن «أي حضارة لا تقهر من الخارج إلا إذا كانت قد دمرت نفسها من الداخل»، فالواقع أن خطوط دفاعاتنا الثقافية باتت مخترقة ومهتزة، وسيكون نتاج ذلك زحف التدمير التدريجي لشكل وقيم ثقافتنا مقابل الغير - خصوصاً الغربية - في المدى المتوسط، وهو ما يحتم علينا تنظيمها. وهنا نشير صراحة إلى أن الدور الأكبر والحاسم هو لمؤسسة الدولة بكل أفرعها، والحل هنا ليس في الدعوة للتمترس والانغلاق الثقافي، فهذا مستحيل، بالتالي يصبح الهدف المنشود هو الحفاظ النسبي على شكل الثقافة، وحماية جذورها وثوابتها من التخفيف أو التجفيف التدريجي عبر الأجيال، فصناعة الثقافة أخطر من أن تترك لقانون العرض والطلب والتيارات الدولية المؤثرة فيهما.



الفعاليات الثقافية تفتح مساحة للحوار في «معرض مسقط للكتاب»

يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)
يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)
TT
20

الفعاليات الثقافية تفتح مساحة للحوار في «معرض مسقط للكتاب»

يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)
يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)

استقطبت 211 فعالية في «معرض مسقط الدولي للكتاب 2025» حضوراً لافتاً من الجمهور المهتم الذي يتوافد إليه، توزعت بين الندوات الحوارية والأمسيات الثقافية والعروض المسرحية والبرامج الترفيهية.

ويركّز المعرض هذا العام على التنوع الثقافي، وتشارك في فعالياته 674 دار نشر تمثل 35 دولة، ويبلغ عدد العناوين والإصدارات المدرجة في المعرض نحو 681.041 ألف عنوان منها 467.413 ألف إصدار عربي و213.610 ألف إصدار أجنبي.

وتنقسم دور النشر المشاركة في المعرض ما بين 640 بصورة مباشرة، و34 بصورة غير مباشرة، وتتوزع على 1141 جناحاً.

المشاركون في الجلسة الحوارية حول أهمية المؤشرات الثقافية وأدوارها (العمانية)
المشاركون في الجلسة الحوارية حول أهمية المؤشرات الثقافية وأدوارها (العمانية)

التنوع الثقافي والهوية

وأقيمت، الثلاثاء، جلسة حوارية للمفكر البحريني الدكتور نادر كاظم بعنوان «التنوع الثقافي والهوية»، أدار الحوار الكاتب العماني علي الرواحي، سلطت الضوء على مفهوم الهوية في عالم متعدد الثقافات، ودور الدولة بصفتها ضامناً للهويات، ومحركاً لتشكيل الهوية الوطنية.

ترجمة الأدب العربي

كما أقيمت أمسيةً أدبيةً بعنوان «ترجمة الأدب العربي»، استعرضت أهمية الترجمة بوصفها جسراً ثقافيّاً حيوياً ينقل الإبداع والفكر إلى العالم، ويعزز من التواصل الحضاري بين مختلف الشعوب والثقافات.

وقالت المترجمة البريطانية آليس جوثري: «تعلمت اللغة العربية في بلاد الشام، ولقد لفتتني الثقافة العربية منذ البداية، فهي حضارة عريقة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، ومحيط ثقافي غني يستحق أن نغوص فيه عبر الترجمة».

«تحديات وآفاق ترجمة الأدب العربي» في ندوة ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب (العمانية)
«تحديات وآفاق ترجمة الأدب العربي» في ندوة ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب (العمانية)

وأضافت: «بدأت علاقتي بالترجمة بعد سنوات من اهتمامي بالأدب العربي، حين نشأت لي صداقات كثيرة في العالم العربي. ومن تلك اللحظة أدركت وجود أدب عربي غني يحتاج إلى أن يُقدّم بلغة أخرى. أتذكر أنني قبل أن أُتقن العربية، قرأت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، وتساءلت عن الجمال الذي تحمله الجمل في لغتها الأصلية».

كما تحدثت جوثري عن تجربتها في ترجمة الأدب العماني قائلة: «رواية (دلشاد) للكاتبة بشرى خلفان كانت أول عمل عماني أترجمه. اكتشفت خلالها أن النصوص العمانية تزخر بالتفاصيل الدقيقة، وبعض الحوارات تأتي باللهجة العامية، مما تطلب تواصلي المباشر مع الكاتبة لتوضيح بعض المعاني. فالترجمة عمل جماعي، ولا يمكن للمترجم أن يدّعي امتلاك الخبرة المطلقة».

دور الإعلام الجديد

كما أقيمت جلسة حوارية بعنوان «الإعلام الجديد ودوره في تشكيل الثقافة المجتمعية»، تناولت تأثير الإعلام الجديد على تشكيل الأنماط الفكرية والاجتماعية في المجتمع، وأهمية الاستفادة الواعية من المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر القيم الإيجابية وتعزيز الهوية الوطنية.

جلسة حوارية حول «الإعلام الجديد ودوره في تشكيل الثقافة المجتمعية» ضمن فعاليات المعرض (العمانية)
جلسة حوارية حول «الإعلام الجديد ودوره في تشكيل الثقافة المجتمعية» ضمن فعاليات المعرض (العمانية)

وقال هلال الهلالي، الخبير والمستشار الإعلامي ومدير عام إذاعة فنون الإلكترونية، خلال الجلسة: «إن ثقافة المجتمع بحاجة إلى التطوير لمواكبة التحولات التقنية المتسارعة»، ودعا إلى تقديم رؤية ثقافية عصرية تواكب التحول التقني وتدعم بناء جيل إعلامي قادر على استثمار هذه الوسائل بما يخدم القيم الوطنية والثقافية.

وقال الدكتور خميس بن سليم أمبوسعيدي، أستاذ الإعلام الرقمي المساعد بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى، خلال مداخلته في الجلسة: «أسهمت منصات الإعلام الاجتماعي في إعادة تشكيل الهوية الثقافية والوعي المجتمعي، مما يفرض علينا كمجتمعات مسؤولية توجيه هذه الأدوات توجيهاً مدروساً يخدم مصالح المجتمع ويحافظ على ثوابته».

الهوية التراثية العمانية

كما نظم «مركز العوتبي للدراسات الثقافية والتراثية» بجامعة صحار العمانية، ندوة بعنوان «الهوية التراثية العمانية في المنجز البحثي الجامعي: خلاصات ورؤى»، ناقشت عدداً من البحوث العلمية فيما يخص التراث والثقافة العمانية، وأهمية تطبيق المنهج في البحث التراثي، وهي الحكايات الشعبية والحفاظ على اللغة الكمزارية، بالإضافة إلى العطر والتعطر، والأدوات المنهجية والإجراءات المتبعة لتحقيق أهداف البحوث.

جانب من ندوة عن الهوية التراثية العمانية في المنجز البحثي الجامعي (العمانية)
جانب من ندوة عن الهوية التراثية العمانية في المنجز البحثي الجامعي (العمانية)

وشارك في الندوة الدكتور علي المانعي، مساعد عميد كلية التربية والآداب بجامعة صحار، الذي قدم خلاصة عن دراسته حول الحكاية الشعبية في محافظة شمال الباطنة، وتناول فيها الحكايات والأساطير المرتبطة بالمكان، مركّزاً على أن التراث يعد من أهم المصادر المادية للنشاط الإنساني الذي يعين على استرجاع المفقود باعتبار أن التراث مصدر غير متجدد، وهو من العناصر الجاذبة للسياحة.

واستضافت الندوة الدكتورة هاجر حراثي، باحثة أكاديمية وأستاذة مشاركة في الأدب العربي القديم بجامعة صحار، وقدمت خلاصة عن بحثها حول العطر والتعطر في الثقافة العمانية، وكونها من الممارسات العطرية الموروثة وما يتصل بها من مكونات وخلطات ورموز وطقوس ووظائف وأدوار جمالية وسحرية واجتماعية ودينية واقتصادية وغيرها، وأهمية الحفاظ على هذا الموروث من الاندثار، حيث يتمسك به العمانيون على الرغم من تطور صناعة العطور ورواج العطور الأجنبية.

أما الدكتورة دولا القاضي، أستاذة بكلية الدراسات اللغوية في جامعة صحار، قدمت خلاصة عن بحثها حول اللغة الكمزارية وجمعها وتوثيقها، الذي يندرج ضمن علم توثيق اللغات والدراسات اللسانية، ويهدف إلى توثيق اللغة الكمزارية، وهي إحدى اللغات المهددة بالاندثار في سلطنة عُمان.