روبرتو سافيانو... كاتب قصص في مهمة انتحارية ضد المافيا الإيطالية

كشف النقاب عن الأسرار والأعمال الداخلية لعصابة نابولي

الكاتب روبرتو سافيانو أكثر الرجال المطلوبين للمافيا  -  عصابات «كامورا» في مدينة نابولي الإيطالية
الكاتب روبرتو سافيانو أكثر الرجال المطلوبين للمافيا - عصابات «كامورا» في مدينة نابولي الإيطالية
TT

روبرتو سافيانو... كاتب قصص في مهمة انتحارية ضد المافيا الإيطالية

الكاتب روبرتو سافيانو أكثر الرجال المطلوبين للمافيا  -  عصابات «كامورا» في مدينة نابولي الإيطالية
الكاتب روبرتو سافيانو أكثر الرجال المطلوبين للمافيا - عصابات «كامورا» في مدينة نابولي الإيطالية

روبرتو سافيانو واحد من أكثر الرجال المطلوبين من قبل عصابات الجريمة المنظمة (المافيا)، المعروفة باسم «كامورا»، في مدينة نابولي الإيطالية. ودلف الكاتب الذي يبلغ من العمر 39 عاماً إلى عالم الكتب السيئة عن عصابات المافيا بروايته الرائعة «جومورا» التي صدرت في عام 2006، وكشفت النقاب عن الأسرار والأعمال الداخلية لعصابة نابولي، والتي تحولت إلى فيلم، ثم مسلسل تلفزيوني لاحقاً.
وصنعت «جومورا» من سافيانو واحداً من أكثر الشخصيات المناوئة للمافيا في العالم، وهو يعلم علم اليقين أنه يخوض حرباً لن يكتب له النصر فيها أبداً.
وقال سافيانو في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية: «لا أعتقد أنه يمكن القضاء على المافيا: إنها واحدة من أكثر المنظمات كفاءة في أوروبا». ويصر الكاتب على أن عصابات المافيا الإيطالية قد توسعت إلى ما وراء الحدود الوطنية. إذن، لماذا يواصل سافيانو طريقه؟
قال سافيانو: «الغضب والطموح... الطموح أن تقول: لم تكسروني. ولذلك، فالأمر أيضاً شخصي. ثمة رغبة في أن أنقل هذه القصص إلى العالم».
وتحدث سافيانو وهو جالس داخل أحد الفنادق بوسط العاصمة الألمانية برلين، قبيل العرض الأول في ألمانيا لفيلم: «لا بارانزا يد بامبيني» (أسماك بيرانا المفترسة) أو (أطفال أسماك بيرانا)، حسب التسمية الإيطالية، يوم 22 أغسطس (آب) الحالي. ويستند إلى كتاب أصدره في عام 2016 عن عصابات «كامورا» من المراهقين.
وعرض الفيلم، الذي يشارك فيه مجموعة من الفنانين الهواة، لأول مرة، في مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله) في دورته للعام الحالي، حيث فاز بجائزة «الدب الفضي» لأفضل سيناريو.
ويقول سافيانو، الذي يخضع لحماية الشرطة منذ 13 عاماً: «هناك رجلان الآن بالخارج، ونحن نجري حديثنا، ولكني أحاول ألا أفكر في ذلك»، مضيفاً أن الحياة تحت رقابة دائمة «مأساة وليست ميزة».
وقبل سنوات، شرح فيلم تسجيلي عن سافيانو أنه يجب التخطيط مسبقاً لجميع تحركاته، قبل يومين على الأقل، لإعطاء حرسه الشخصي الوقت لفحص الأماكن التي من المقرر أن يتوجه إليها. ويعني هذا الوضع الخطير أيضاً أن سافيانو لا يستطيع أن يركب دراجة، أو أن يقود سيارة أو دراجة نارية، ولا يمكنه أن تكون له ارتباطات منتظمة، مثل إعطاء دروس أو دورات أسبوعية، أو حتى الذهاب إلى السينما، إذا لم تحجز كاملة له وحده.
كما جرى رفض صعوده على إحدى الطائرات، حيث إن شركة الطيران «خشيت أن يقضي الركاب رحلة مرهقة للأعصاب إذا ما تعرفوا عليه».
وقال سافيانو: «هذه المواقف تؤلمني بشدة». وأضاف: «لا أخشى الموت، ولكني أخشى أن أواصل حياتي على هذا المنوال. ليس لأنني لا أعرف الخوف، ولكن بعدما سمع المرء الكثير عن الموت، يرى الأمر لا يقلقه». والمافيا عبارة عن مصطلح شامل تنضوي تحته ثلاث جماعات للجريمة المنظمة في إيطاليا، هي: «كامورا» في نابولي، و«كوزا نوسترا» في صقلية، و«ندرانجيتا» في كالابريا.
ويحرص سافيانو على تأكيد أن هذه العصابات «ليست فقط ظاهرة إيطالية: فهناك أيضاً مافيا ألمانية وفرنسية وأسبانية»، ويأسى الرجل لغياب الوعي في أوروبا بشأن هذه النقطة.
وفي ألمانيا، على سبيل المثال، يقول الكاتب في أسى: «انسِ هذا الأمر: لا أحد يتحدث عن المافيا... فقط عندما تقع مذبحة كبرى. وفي أعقاب ديوسبرج، اختفت مسألة المافيا». ويشير سافيانو هنا إلى جريمة قتل ذهب ضحيتها ستة رجال في عام 2007 في «عملية انتقامية نفذتها عصابة (ندرانجيتا) بمدينة ديوسبرج، شمال غربي ألمانيا، وهي جريمة أصابت الألمان بصدمة».
ومنذ ذلك الحين، تعلم «مكتب الشرطة الجنائية الاتحادية في ألمانيا» أن «(ندرانجيتا) هي عصابة الجريمة المهيمنة في ألمانيا»، ولكن هذا ليس كافياً، وفقاً لخبراء إيطاليين مثل سافيانو.
ويرى سافيانو أن ألمانيا، وغيرها من دول أوروبا، في حالة «إنكار كبير» بشأن إلى أي مدى تغلغلت عصابات المافيا الإيطالية في هذه البلاد، ودائماً «ما تعتقد (هذه البلاد) أنها مشكلة جاءت من الخارج».
وفي إيطاليا، يعد سافيانو شخصية مثيرة للاستقطاب: فاليساريون يوقرونه كمثقف شجاع، أما أنصار اليمين فيمقتونه ويرون فيه استنزافاً لموارد الشرطة، والكاهن الأعلى للكياسة السياسية. وهناك عداء طويل بين سافيانو ونائب رئيس الوزراء ووزير خارجية إيطاليا المتشدد ماتيو سالفيني، زعيم حزب «رابطة الشمال» اليميني المتطرف.
وقال سافيانو: «لم يكن لدينا أبداً حكومة أقل مناوأة للمافيا من هذه الحكومة»، وقد استنكر تعهدات سالفيني بـ«عدم التسامح مطلقاً» مع عصابات المافيا، ويراها «عملاً تمثيلياً». ووفقاً لسافيانو، فإن سياسات سالفيني المتشددة بشأن الهجرة «ستدفع كثيراً من المهاجرين» صوب الاقتصاد الأعمى (السوق السوداء)، «ليتحولوا إلى أدوات في يد عصابات المافيا».
كما يزعم روائي الجريمة الإيطالية أن «زملاء» سالفيني في كلابريا قريبون من «مافيا ندرانجيتا»، وأوردت مجلة «لا سيبرسو» اليسارية مزاعم عن هذه العلاقة. وسافيانو صاحب عمود في هذه المجلة.
وفي شهر مايو (أيار) الماضي، نشر الوزير سالفيني مقطع فيديو على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، هدد فيه سافيانو بسحب الحراسة والحماية التي توفرها الشرطة له. ورأى سافيانو في ذلك تهديداً من زعيم «الرابطة» مفاده: «إذا ما واصلت الهجوم عليَّ، سأتركك وحيداً». وكان رد فعل سافيانو: «لن ترهبني».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)