رواية القرن الحادي والعشرين

الثورة الرقمية والذكاء الصناعي انعكسا على أعمال عدد من أفضل روائيي العالم

رواية القرن الحادي والعشرين
TT

رواية القرن الحادي والعشرين

رواية القرن الحادي والعشرين

تمثّل الرواية المعاصرة (وهي رواية القرن الحادي والعشرين بالضرورة) انعطافة في فنون السرد يمكن وصفها بأنها ثورية؛ فقد جاءت هذه الرواية في أعقاب حقبة ملتبسة سادت فيها رواية ما بعد الحداثة، ولم يتورّع الروائيون في تجريب كلّ أسلحتهم السردية في المضمار «ما بعد الحداثي»، وتوظيف كلّ المبتدعات الفكرية التي جاءت بها المدارس الأدبية التي استحالت فيما بعدُ أصوليات راسخة على شاكلة «البنيوية الفرنسية، الشكلانية، التفكيكية وما بعد التفكيك، السيميوطيقا، مستغلقات الهرمنيوطيقا وملاعباتها اللغوية». والغريب في أمر هذه المستحدثات أنّ نجمها راح يتطاول ويطغى في ساحتنا العربية في الوقت الذي طالها خفوت كبح من جذوتها وتغوّلها في ديارها الأصلية التي تمثل منابعها التي انبثقت منها.
وترتّب الأمر لاحقاً بأنّ صارت «مواريث ما بعد الحداثة الروائية» تتشكّل في خلاصة مفادها أن الرواية المعاصرة تشهد نوعاً من انزياح نحو التقاليد الكلاسيكية لرواية القرن التاسع عشر وبعض أنماط الرواية الحديثة التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين، مع تطعيم محسوب للجسم الروائي الكلاسيكي بكتلة معرفية مغلّفة بنوع من أنواع السرد. الخلاصة هنا، هي أنّ الروائي المعاصر في القرن الحادي والعشرين بخاصة لم يَعُد أقرب إلى حاوٍ لا يجيد سوى ملاعبة اللغة والشكلانيات السردية التي تتقنّع بقناع المستحدثات السردية الزائفة بقدر ما صار هذا الروائي قارئاً منقّباً في المستحدثات العلمية والتقنية والفتوحات العظيمة التي جاءت بها الثورة الرقمية.
إنّ دراسة الرواية المعاصرة نشاط مدهش بمثل ما هو فاعلية تبعث على التحدي، وبخاصة أنّ الرواية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين قد صارت لها ظلالها المنعكسة على مجمل الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام والهياكل المؤسساتية والهياكل التعليمية «حيث أصبحت الروايات المعاصرة توضع بصورة مستديمة في المناهج الدراسية للمدارس والجامعات»، ولم تعُد الرواية المعاصرة محض اشتغال نخبوي على نمط الكلاسيكيات الشكسبيرية. ثمة سؤال جوهري يقع في قلب أي مبحث يتناول رواية القرن الحادي والعشرين: ما الذي نعنيه بمفردة «المعاصرة»، وكيف يمكننا تتبّع مسار الانزياحات الثقافية التي ترافقت مع هذه الرواية؟
يمثل الكتاب الموسوم «دليل راوتليدج المرجعي إلى رواية القرن الحادي والعشرين» (دار نشر راوتليدج، تحرير: دانييل أوغورمان وروبرت إيغلستون، 2018)، إصداراً مميزاً كونه يتخفّف كثيراً من الرطانة المعهودة في المباحث الأدبية الأكاديمية ؛ إذ يتناول الكتاب المباحث الكثيرة فيه بطريقة ممتعة تجعله قريباً من الباحث الأكاديمي والطالب الجامعي والقارئ الشغوف بالرواية. يتشكّل هيكل الكتاب من مقدّمة شاملة رصينة كتبها المحرران، تليها أربعة أقسام مميزة: يتناول القسم الأول المعنون «الأشكال الروائية» كلاً من المباحث التالية: الرواية الرقمية «المتداولة على الشبكة الإلكترونية»، العولمة، رواية السيرة الذاتية، التجريب الروائي، الملهاة (الكوميديا)، الميتافكشن، الرواية الرعوية، الواقعيات الروائية، الرواية الغرافيكية. أما القسم الثاني الذي جاء بعنوان «الهويات الروائية» فقد ضمّ المباحث التالية: رواية البريطانيين السود، العائلة، الدين، الشتات (الدياسبورا)، الرواية الهندية المكتوبة بالإنجليزية، الرواية الآيرلندية الشمالية، الحيوانات. جاء القسم الثالث من الكتاب بعنوان «تشظيات روائية» وتناول المباحث التالية: العالم الرقمي، الفضاء الإنساني، الانزياح، المصحّة، التمويل، رواية 9 سبتمبر، الحرب على الإرهاب، الماضي، الأمل؛ أما الفصل الأخير فقد ضمّ «دراسة حالات» محدّدة لروائيين معاصرين ذاع صيتهم في القرن الحادي والعشرين، وهم: أفضل الروائيين البريطانيين الشباب، إضافة إلى فصول تتناول كلاً من: هاري كونزرو، جينيفر إيغان، ديفيد ميتشيل، جوناثان ليثيم، آلي سمث، أي إل كينيدي، هيلاري مانتل، مارلين روبنسون، كولسون وايتهد.
يبدو واضحاً من سياق المباحث التي تناولها الكتاب أنه ابتعد عن الدراسات الأدبية الكلاسيكية التي ترى في الرواية منطقة قائمة بذاتها ومكتفية بذاتها؛ إذ نلمح في هذه العناوين أنها صارت أقرب إلى المباحث التي تتناولها الدراسات الثقافية إلى جانب تأريخ الأفكار، ويمكن الكشف عن هذا الملمح المميز في الكتاب عبر الإشارة إلى المباحث التالية:
- الهوية، وبضمنها الدراسات الخاصة بالعِرق، والجنسانية، والطبقة، والدين في القرن الحادي والعشرين.
- تأثير كلّ من التقنية، والإرهاب، والحراك الإنساني، والاقتصاد المعولم على العالم المعاصر، وبالتبعية على الأدب المعاصر «والرواية المعاصرة بخاصة».
- تناولُ شكل وصيغة الأنماط المستحدثة «أو المعدّلة» في الرواية الأدبية السائدة في القرن الحادي والعشرين، تحليل الأنواع الروائية الراسخة مثل الرواية الرعوية، الرواية الغرافيكية، ورواية الكتابة الفكاهية (الكوميدية)، فضلاً عن بيان الكيفية التي تمّ بها تعديل شكل هذه الروايات في السنوات الأخيرة.
ما عادت الرواية المعاصرة هيكلاً أدبياً يتأثر بالمستجدات التي تحصل في العالم على كلّ الصعد بعد فترة طويلة ؛ بل صار تأثير هذه المستجدات على الرواية المعاصرة أقرب إلى التأثير المتزامن الذي نشهده منعكساً في الرواية، وليست الأمثلة على هذه الحقيقة بقليلة؛ فالانعطافات الكبرى الحاصلة في ميدان الثورة الرقمية والذكاء الصناعي - على سبيل المثال - باتت تلقى صداها السريع في الأعمال الروائية التي يكتبها عدد من أفضل روائيي العالم (ماك إيوان مثالاً)، وقد أشار محررا الكتاب إلى هذه الحقيقة فكتبا في تقديمهم له:
إنّ تحرير كتاب على هذه الشاكلة لهو تجربة يتعلّم منها المرء الكثير؛ فقد اكتشفنا أفكاراً جديدة مثلما اكتشفنا نصوصاً ونظريات وتوجهاتٍ أدبية جديدة ونحن نعمل على تحرير هذه الفصول المدهشة. استغرق العمل على مشروع هذا الكتاب وقتاً ليس بالقصير، وفي الفسحة الزمنية الفاصلة بين تحرير الكتاب ونشره شهدت الخريطة الأدبية تحولات جذرية وبطرق جديدة تبعث على الدهشة، وقد بذل المشاركون في هذا الكتاب أعظم الجهود الممكنة للتنبه إلى هذه التغيرات وتعديل مخطوطاتهم بما يكفل استجابتها لهذه التغيرات الحاصلة في الميدان الروائي.........
يوفّر هذا الكتاب خريطة من الموضوعات النقدية ذات الأهمية الجوهرية لفهم رواية القرن الحادي والعشرين، كما يكشف النقاب عن جوانب واتجاهات حديثة في تطوّر هذا الحقل الأدبي الذي بات أقرب للحقل الثقافي العام؛ إذ تشتبك فيه الاهتمامات العلمية والأدبية والتقنية والفكرية بكلّ ألوانها ومناشطها حتى ليصحّ القول بأن الرواية باتت تصلح لقول «أي شيء وكلّ شيء» على حدّ تعبير روبرت إيغلستون، وهو أحد محرّري الكتاب.
من المفيد هنا الإشارة إلى أن البروفسور روبرت إيغلستون هو مؤلف كتب كثيرة، منها الكتاب المهم «الرواية المعاصرة: مقدّمة وجيزة» الذي صدر عن جامعة أكسفورد المرموقة ضمن سلسلتها الشهيرة المعروفة بـ«مقدّمات وجيزة».

- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن


مقالات ذات صلة

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)

«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

في مشهد ثقافي سعودي يتسع للأسئلة بقدر ما يحتفي بالحكايات، تبرز أعمال روائية لم تعد تكتفي برصد التحولات الاجتماعية، بل تمضي أبعد من ذلك، نحو مساءلة الفكر.

أسماء الغابري (جدة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.

عاجل ترمب: أميركا شنت ضربة قوية ضد «داعش» في شمال غرب نيجيريا