مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎

وزير الدفاع الآتي من المؤسسة السياسية والعسكرية التقليدية

مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎
TT

مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎

مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎

قد لا يشكل تعيين مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي الجديد، حدثاً كبيراً في دولة يحكمها القانون والمؤسسات كالولايات المتحدة، لكنها من المرات القليلة جداً التي يشغر فيها منصب وزير الدفاع لأكثر من سبعة أشهر، بعدما غدت ظاهرة شغور المناصب الحساسة في إدارة الرئيس دونالد ترمب أمراً اعتيادياً، في ظل خروج مستمر لمعظم من تولوا مسؤوليات رئيسية فيها منذ بداية عهده.

لم يأت مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي الجديد، من عالم الحروب والمعارك، حيث يترك بعض القادة العسكريين بصمات لا تمحى، قبل أن يصار إلى تكريمهم أو مكافأتهم بتعيينهم في مناصب حساسة، كوزير الدفاع في أكبر دولة في العالم.
مع ذلك، يبقى إسبر ابن المؤسسة العسكرية الأميركية التي تدرّج في مناصبها، مثلما تدرّج أيضاً في القطاع الخاص، في بلد لا تحتكر فيه السلطة السيطرة على الإنتاج. البلد الذي يختلط فيه العمل في القطاع العام بعلاقات وثيقة مع القطاع الخاص، حيث للشركات الكبرى، خصوصاً تلك المتخصصة في إنتاج الأسلحة، «لوبي» يعمل على تحقيق مصالحها وحمايتها. بيد أن المفارقة تكمن في أنه بينما كان الأميركيون يستمعون لشهادة روبرت مولر، المحقق الخاص في التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الأميركية، كان إسبر يؤكد في جلسة تثبيته أمام مجلس الشيوخ أنه على الجيش الأميركي التأهب لمواجهة روسيا، والصين أيضاً. ثم إن حصول إسبر على 90 صوتاً مقابل 8 أصوات عند تثبيت تعيينه جاء بفضل كونه ضابطاً سابقاً في الجيش الأميركي، وأحد أبناء المؤسسة السياسية في واشنطن، وليس على إنجازاته العسكرية، مع أنه كان يشغل منصب وزير الجيش (أي جيش البر) في إدارة ترمب.

- إسبر... وجورج مارشال
ما يستحق الإشارة هنا أن إسبر - وهو متزوج وأب لثلاثة أولاد - هو ابن بلدة يونيون تاون الصغيرة في ولاية بنسلفانيا، التي لا يتجاوز عدد سكانها 10 آلاف نسمة. وهذه البلدة هي مسقط رأس الجنرال جورج مارشال، القائد الأميركي الأكثر شهرة في القرن العشرين، الرجل الذي يعده إسبر بطله الشخصي، بحسب ما قاله للرئيس ترمب، ونقلته عنه وسائل الإعلام الأميركية.
مارشال كان قد قاد قوة صغيرة من جيش لم يكن على استعداد بعد لخوض الحرب عام 1939 إلى النصر في الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب، عُيّن مارشال وزيراً للخارجية (1947 - 1949)، فأسهم بإعادة بناء أوروبا عبر مشروع حمل اسمه هو (مشروع أو خطة مارشال). وبعدها، عمل مع الرئيس هاري ترومان وزيراً للدفاع (1950 - 1951). ورغم وفاة مارشال عام 1959، ظل صيته وتأثيره راسخين، لا سيما في ذاكرة ضباط الجيش في يونيون تاون.

- تحدّيات... ونهج محافظ
ومثل مارشال، يواجه وزير الدفاع إسبر تحدياً كبيراً، إذ يعتزم تغيير عقيدة الجيش الأميركي ومهامه الخارجية، بالابتعاد عن حروب مكافحة الإرهاب، والتأهب لردع روسيا والصين، وإلحاق الهزيمة بهما، في ظل تهديدات أكثر خطورة وتحدياً تقنياً من أي وقت مضى. ومن مقولات إسبر أمام «مؤسسة هيريتيدج» (مؤسسة التراث) المحافظة، التي كان أحد أركانها، في خطاب ألقاه خلال أبريل (نيسان) 2018: «إنهم يحدّثون قدراتهم، ويعملون على إضعافنا وتآكلنا، لتهديد مصالحنا». وفي هذا السياق، لدى إسبر رؤية جدّية، وقد لا تكون متطابقة تماماً مع كل توجهات الرئيس دونالد ترمب.
كذلك قال إسبر، في مقابلة له عن الجيش خلال فبراير (شباط) الماضي: «نحن في عصر نهضة جديد في الوقت الحالي، وعلينا التأكد من أننا جاهزون للتعامل ندياً من دولة مقابل دولة، في ظل صراع عالي الكثافة في المستقبل، ضد بلدان مثل روسيا والصين». وكدلالة على انتمائه إلى المؤسسة السياسية - والمحافظة تحديداً - داخل واشنطن، عمل إسبر في أروقة الكابيتول (مقر الكونغرس) ضمن «مؤسسة هيريتيدج»،
ومديراً تنفيذياً كبيراً في شركة المقاولات الدفاعية الكبرى «رايثيون» المتخصصة في التقنيات والأنظمة العسكرية المتقدمة.
قبل ذلك، أمضى إسبر 10 سنوات في الخدمة الفعلية في الجيش الأميركي بعد تخرّجه من أكاديمية يويست بوينت العسكرية الشهيرة بدرجة بكالوريوس في العلوم الهندسية، مع وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو، عام 1986. وتجمع بين الرجلين صداقة خاصة منذ ذلك الوقت. بعد ذلك، حصل إسبر على درجة الماجستير في الإدارة الحكومية (العامة) من جامعة هارفارد، ثم على الدكتوراه في السياسة العامة من جامعة جورج واشنطن، في العاصمة الأميركية.
أما على الصعيد الميداني، فلقد شارك إسبر الذي وصل لرتبة مقدم (لفتنانت كولونيل) عام 1991 في عملية «عاصفة الصحراء» بمنطقة الخليج. وعلى صعيد الصعود السياسي - العسكري، عيّن الرئيس ترمب إسبر في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 وزيراً للجيش (جيش البر)، وحظي يومذاك بتأييد غالبية أعضاء مجلس الشيوخ خلال جلسة تثبيته أيضاً، ما عكس الاحترام الشديد الذي يحظى به في المؤسستين السياسية والعسكرية.

- صعوبة العلاقة بترمب
إن تولّي منصب وزير الدفاع، عادة، خطوة كبيرة بالنسبة للأفراد الطامحين للعب دور في الحياة السياسية، أو على المستوى الشخصي، إلا أنه في المقابل من أكثر المناصب تسبباً بالمتاعب والمضايقة، سواء بالنسبة إلى الساسة أو رجال الأعمال والأكاديميين. ويصف البعض هذا المنصب بأنه «وظيفة عديمة الجدوى»، بسبب اضطرار شاغلها للالتزام بالتوجيهات والقرارات السياسية والشخصية للرئيس، إذ إن الدستور الأميركي ينص بوضوح على أن رئيس الجمهورية هو «القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية». وعندما يحصل التناقض، أو يتولى رئيس له صفات ترمب، يتحول منصب وزير الدفاع إلى مصدر قلق وصداع يضطره للمغادرة، كما حصل مع الوزير السابق الجنرال جيم ماتيس، حين استقال بشكل مفاجئ من منصبه في أواخر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي. وتتداول أروقة «البنتاغون» (مقر وزارة الدفاع الأميركية) الاعتراضات المكتومة التي يبديها القادة العسكريون، على عادة تجاوز ترمب للتراتبية العسكرية القائمة، ومبادرته بشكل مباشر للاتصال بالقادة الميدانيين، في مختلف المواقع.

- فرصة طيبة أمام إسبر
رغم هذا، ثمة توقعات تشير إلى احتمال أن يتمكن إسبر من لعب دور بنّاء، وضخّ دماء وأفكار جديدة في المؤسسة العسكرية الأميركية. وينقل عنه أنه رجل ديناميكي، إذ إنه عمد فور توليه منصبه إلى عقد اجتماع مباشر مع رئيس هيئة أركان القوات المشتركة، وقادة القيادتين الوسطى والعمليات الخاصة في مدينة تامبا بولاية فلوريدا، من أجل حث تطوير خطة ردع عسكري دولية لمواجهة استفزازات إيران في منطقة الخليج العربي، مروراً بمضيق هرمز وخليج عُمان، وصولاً إلى باب المندب.
في المقابل، لم يكن إسبر الخيار الأول لترمب الذي أمضي نحو ستة أشهر في البحث عن وزير دفاع جديد، إذ كان ترمب مصمماً على تسمية باتريك شاناهان، الآتي أيضاً من القطاع الخاص، وتحديداً من شركة «بوينغ» العملاقة، إلا أن اعتذار شاناهان المفاجئ عن المضي في ترشحه، إثر قضية عنف عائلي ضد زوجته السابقة، ضيّق خيارات ترمب، في ظل ما ينقل من أجواء عن إحجام عدد كبير من المؤهلين عن تقبّل الصداع الذي قد يسببه التعامل مع ترمب.

- إسبر وبومبيو وميلي
في أي حال، مؤهلات إسبر أتاحت له نيل رضا الرئيس، خصوصاً أنه لم يخض مواجهات سياسية معه، رغم منصبه كوزير للجيش في إدارته. وقد ألغى إسبر عندما كان يتولى منصب وزير جيش البر 200 برنامج قال إنها لا تلائم المواجهات المستقبلية. وعام 2018، مدّد إسبر فترة التدريب الأساسي للجيش لمدة شهرين كاملين، ليغدو «الأطول والأقسى في العالم»، وعلّق قائلاً إن «أفراد الجيش الأميركي، بغض النظر عن العمر أو الجنس، يجب أن يتمتعوا بقدرات جسدية وعقلية قوية».
هذه الرؤية التي طرحها إسبر، ومعه رئيس أركان الجيش الجنرال مارك ميلي، تتوقع «ساحة معركة» لا هوادة فيها مستقبلاً، أمام قوات عليها أن تقاتل في عمليات متعددة ومعقدة، وفي أكثر من مجال وميدان. ولقد نقلت هذه الرؤية إلى قادة «البنتاغون» بوضوح، لكن السؤال المطروح: هل سيتمكن إسبر من تحقيق هذه الرؤية وتنفيذها؟
عليه، راهناً، تقديم المشورة العسكرية للرئيس ترمب بشأن إيران وكوريا الشمالية، وقضية انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، إذا تحقق تقدم في مباحثات السلام المتواصلة التي يديرها المبعوث الخاص زلماي خليل زاد. أما الأهم من ذلك كله فيبقى ميزانية وزارة الدفاع. وهنا، يقول البعض إنه بإمكان إسبر أن يتبع الخطى التي سار عليها الجنرال مارشال، عندما عزّز علاقته بالكابيتول دفاعاً عن الأمن القومي.

- ترحيب من الكونغرس
إسبر حصل حتى الآن على ترحيب دافئ من أعضاء الكونغرس، فقد أشاد السيناتور الديمقراطي تيم كاين (ولاية فيرجينيا) بتحركه السريع بشأن تحسين ظروف السكن العسكري؛ ذلك أن عمله في الكابيتول ساعده على العمل في بيئة سياسية أتاحت له بناء علاقات جيدة مع السلطة التشريعية، بل حتى علاقته بالصحافة ليست سيئة، وثمة من يدعوه للتشبّه بالجنرال مارشال الذي كان يعقد مؤتمراً صحافياً هادئاً، مرة أو مرتين في الأسبوع، بحسب مجلة «نيويوركر».
أيضاً، وفي ظل علاقة إسبر الجيدة مع بومبيو، فإنه سيواصل العمل مع الجنرال ميلي الذي سيتولى منصب رئيس هيئة الأركان المشتركة، خلفاً للجنرال جوزف دانفورد... المغادر قريباً.
ومع أن البعض يرى أنه كان بالإمكان التدقيق أكثر بشخصية ومؤهلات إسبر في جلسة تثبيت تعيينه في مجلس الشيوخ، يرجح مراقبون أن يكون التصويت الكبير لصالحه قد جاء على خلفية استعداد أعضاء مجلس الشيوخ للتصويت لأي شخص يستطيع تحمل مسؤولية «البنتاغون» في الظروف الحالية. وقد يكون لإسبر هذه القدرة نظراً لتاريخه في الجيش، وتجربته الواسعة في سياسات الدفاع، وتوليه وزارة الجيش بشكل إيجابي.

- نظرة دفاعية تقليدية
مع هذا، فالإجابات الخطية والشفهية التي قدمها الوزير الجديد في جلسة لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ تكشف عن وجهات نظر مؤسسة دفاعية تقليدية، على عكس وجهات نظر الرئيس ترمب. فهو يؤمن بأهمية التحالفات الأميركية التقليدية، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وينظر إلى روسيا على أنها خصم، ويخشى من تنفيذ انسحاب سريع للقوات الأميركية من الميادين المنتشرة فيها حالياً.
ولقد كان لافتاً أنه لم يوجه سؤال واحد لإسبر عن أفغانستان، حيث تخوض القوات الأميركية أطول حرب في تاريخها، لكن إسبر قال في شهادته المكتوبة إن انسحاب القوات من النزاعات يجب أن يكون «قائماً على الظروف»، من دون تحديد هذه الظروف!
كذلك قدم إسبر ثلاثة أهداف للمهمة العسكرية الأميركية المستمرة في سوريا: محاربة فلول «داعش»، والتوصل إلى تسوية سياسية للحرب الأهلية السورية، والضغط من أجل انسحاب القوات الإيرانية. لكن الكونغرس لم يصرّح بالهدفين الأخيرين. ثم إن إرسال القوات تم بقرار من إدارة بارك أوباما، تحت رعاية تفويض عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية الذي وضع قبل ولادة «داعش»، ومعلوم أن إسبر يعارض تعديله أيضاً. وهذا بجانب دعمه الاحتفاظ بقاعدة غوانتانامو، وإرسال الجيش إلى الحدود الجنوبية مع المكسيك.

- علاقته بشركة «رايثيون»
أخيراً، فإن قضية علاقة إسبر بشركة «رايثيون» قد أثارت نقاشاً متوتراً، ولو بشكل محدود، في جلسة تثبيته، إذ ضغطت عليه السيناتورة إليزابيث وارين بسبب علاقته السابقة بتلك الشركة، ورفضه التعهد بإبعاد نفسه عن أي قرارات قد تستفيد منها الشركة خلال ولايته كوزير للدفاع، إذ قال إنه لا يستطيع ذلك بناء على نصيحة مستشاري لجنة أخلاقيات القسم في مجلس الشيوخ، رغم وعده بأنه سيبعد نفسه عن المفاوضات الجارية لدمج «رايثيون» مع شركة أخرى.


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
TT

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية، رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات». وجاء تولي السياسي المتخصص في القانون، بعد أكثر من 3 أشهر من انتخابات مثيرة للجدل، دفعت البلاد إلى موجة احتجاجات دامية راح ضحيتها أكثر من 300 شخص حتى الآن، وفق تقديرات منظمات حقوقية محلية ودولية. وبالفعل استمرت الاحتجاجات حتى أثناء مراسم حفل التنصيب؛ إذ بينما كان تشابو (البالغ من العمر 48 سنة) يخطب أمام حشد متحمس من أنصاره في العاصمة مابوتو، كان مناصرو المعارضة يتظاهرون ضده على بعد أمتار قليلة، بعدما منعتهم قوات الأمن من الوصول إلى مكان الحفل.

بدأ الرئيس الموزمبيقي الجديد دانيال تشابو القسم وسط حشد من أنصاره، وكذلك على مقربة من مظاهرات رافضة نتيجة الانتخابات التي وضعته على رأس السلطة في المستعمرة البرتغالية الكبيرة التي يقترب عدد سكانها من 34 مليون نسمة، وتقع على الساحل الغربي للمحيط الهندي بجنوب شرقي أفريقيا. ولقد نقلت وكالات الأنباء عن شهود عيان قولهم إن وسط العاصمة مابوتو كان شبه مهجور مع وجود كثيف للشرطة والجيش.

أما تشابو فقد قال في خطاب تنصيبه: «سمعنا أصواتكم قبل وأثناء الاحتجاجات، وسنستمر في الاستماع». وأقرَّ الرئيس الجديد بالحاجة إلى إنهاء حالة الاضطراب التي تهز البلاد، مضيفاً: «لا يمكن للوئام الاجتماعي أن ينتظر، لذلك بدأ الحوار بالفعل، ولن نرتاح حتى يكون لدينا بلد موحد ومتماسك».

والواقع أنه منذ إعلان المجلس الدستوري في موزمبيق، خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فوز تشابو في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بنسبة 65.17 في المائة من الأصوات، دخلت البلاد في موجة عنف جديدة، ولا سيما مع طعن فينانسيو موندلاني زعيم المعارضة الشعبوية اليمينية (الذي حلَّ ثانياً بحصوله على 24 في المائة من الأصوات) في صحة نتائجها، ودعوته للتظاهر، واستعادة ما سمَّاه «الحقيقة الانتخابية».

هذا، وتتهم المعارضة -ممثلةً بحزب «بوديموس» الشعبوي- حزب «فريليمو» الاستقلالي اليساري بتزوير الانتخابات، وهي تهمة ينفيها «فريليمو» الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال عن البرتغال عام 1975. أما تشابو فقد بات الرئيس الخامس لموزمبيق منذ استقلالها. وكان في مقدمة حضور حفل تنصيبه الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا، وزعيم غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو، بينما أرسلت عدة دول أخرى -بما في ذلك البرتغال- ممثلين عنها.

الخلفية والنشأة

ولد دانيال فرنسيسكو تشابو، يوم 6 يناير (كانون الثاني) 1977 في بلدة إينهامينغا، المركز الإداري لمنطقة شيرينغوما بوسط موزمبيق. وهو الابن السادس بين 10 أشقاء. وكان والده فرنسيسكو (متوفى) موظفاً في سكك حديد موزمبيق، بينما كانت والدته هيلينا دوس سانتوس عاملة منازل. وهو متزوّج من غويتا سليمان تشابو، ولديهما 3 أولاد، وهو يهوى كرة القدم وكرة السلة، ويتكلم اللغتين البرتغالية والإنجليزية بطلاقة.

النزاع المسلح الذي اندلع بين «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق) الاستقلالية اليسارية، ومنظمة «رينامو» اليمينية التي دعمها النظامان العنصريان السابقان بجنوب أفريقيا وروديسيا الجنوبية (زيمبابوي حالياً) وبعض القوى الغربية، دفع عائلة تشابو إلى مغادرة إينهامينغا، ولذا أمضى دانيال تشابو طفولته في منطقة دوندو؛ حيث التحق بمدرسة «جوزينا ماشيل» الابتدائية، ومن ثم، تابع دراسته في دوندو، وبعد إنهاء تعليمه الثانوي عمل مذيعاً في راديو «ميرامار»؛ حيث قدم برنامجاً رياضياً بين عامي 1997 و1999.

بعدها، التحق تشابو بجامعة «إدواردو موندلاني» في العاصمة مابوتو، وتزامناً مع دراسته الجامعية عمل في تلفزيون «ميرامار»، وقدَّم برنامجاً باسم «أفوكس دو بوفو».

ثم في عام 2004 حصل على شهادته الجامعية في القانون، واجتاز دورة المحافظين وكتَّاب العدل في «مركز ماتولا للتدريب القانوني» في العام نفسه. وهكذا شكَّلت خلفيته الأكاديمية أساساً قوياً لمسيرته المهنية اللاحقة في الخدمة العامة والإدارة.

من القانون إلى السياسة

بدأ تشابو حياته المهنية عام 2005، في مكتب كتَّاب العدل بمدينة ناكالا بورتو، وواصل عمله هناك حتى عام 2009. كما عمل أستاذاً للقانون الدستوري والعلوم السياسية في الجامعة.

وفي عام 2009 انضم إلى حزب «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق)، وعُيِّن بسبب عمله ومشاركته السياسية في منصب إداري في مقاطعة ناكالا- آ- فيليا، ووفق موقعه الإلكتروني فإنه عمل خلال تلك الفترة على «خلق فرص عمل للشباب دون تمييز».

ضغط الأعمال الإدارية لم يمنع في الواقع تشابو من إكمال دراسته، وفعلاً التحق بجامعة موزمبيق الكاثوليكية للحصول على ماجستير التنمية عام 2014. كما حصل على تدريب في نقابة المحامين التي أوقف عضويته فيها طواعية بسبب عمله السياسي.

وعام 2015 عُيِّن تشابو مديراً لمقاطعة بالما؛ لكنه لم يمكث في المهمة طويلاً؛ لأن الرئيس السابق فيليبي غاستينيو نيوسي عيَّنه عام 2016 حاكماً لإينهامباني. وبعدها، في أبريل (نيسان) 2019 وافق البرلمان الموزمبيقي على حزمة تشريعية جعلت تعيين منصب حكام المقاطعات بالانتخاب، وكان تشابو على رأس قائمة «فريليمو» في إينهامباني، ليصبح أول حاكم منتخب للمحافظة التي ظل يحكمها حتى مايو (أيار) 2024.

دعم رئاسي

حظي دانيال تشابو بدعم قوي من الرئيس فيليبي نيوسي الذي شهد بكفاءته، وقال عنه: «مع أنه لم يبقَ في بالما سوى 6 أشهر، فإنه اكتسب تأييداً في هذا الجزء من البلاد، لدرجة أن قرار الرئيس بنقله إلى مقاطعة أخرى كان مثار تساؤلات عما إذا كانت بالما لا تستحق أن يحكمها شخص بكفاءة تشابو».

وخلال السنوات الثماني (2016 إلى 2024) التي أمضاها حاكماً لمحافظة إينهامباني، قاد تشابو المحافظة كي تغدو الأولى في البلاد التي تكمل تنفيذ البنوك في جميع المناطق، في إطار المبادرة الرئاسية «منطقة واحدة، بنك واحد».

وتشير وسائل إعلام محلية إلى أنه في عهد تشابو، وتحت قيادته، نظمت محافظة إينهامباني مؤتمرين دوليين للاستثمار، فضلاً عن منتديات لتنمية المناطق، ما حفَّز الاقتصاد المحلي، وقاد عجلة التنمية.

المسيرة الحزبية

مسيرة دانيال تشابو الحزبية والسياسية بدأت مبكراً؛ إذ شغل بين عامي 1995 و1996 منصب سكرتير منطقة في «منظمة الشباب الموزمبيقي» (OJM) في دوندو. ثم شغل بين عامي 1998 و1999 منصب أمين سر لجنة التثبيت بمجلس شباب المنطقة، إضافة إلى عضويته في «منظمة الشباب الموزمبيقي». وفي عام 2008 عُين مديراً للحملة الانتخابية للمرشح شالي إيسوفو، من «فريليمو»، في بلدية ناكالا بورتو، ويومها فاز الحزب بالانتخابات، وأطاح بالمعارضة.

بعدها، عام 2017، انتُخب دانيال تشابو عضواً في اللجنة المركزية لـ«فريليمو». وفي مايو 2024 اختارته اللجنة المركزية مرشحاً لـ«فريليمو» في الانتخابات الرئاسية. وهي الانتخابات التي فاز فيها أخيراً وسط اعتراضات المعارضة.

وبناءً عليه، يبدأ تشابو فترة رئاسته وسط تحدِّيات كبرى، وفي ظل مظاهرات واحتجاجات هي الأكبر ضد حزب «فريليمو». وراهناً تتصاعد المخاوف على استقرار موزمبيق، مع تعهد منافسه المعارض موندلاني (وهو مهندس زراعي يبلغ من العمر 50 سنة) باستمرار المظاهرات، قائلاً إن «دعوته للحوار قوبلت بالعنف».

وجدير بالذكر أن موندلاني كان قد عاد إلى موزمبيق من منفاه الاختياري، وسط ترحيب من أنصاره، يوم 9 يناير، وادَّعى أنه «غادر موزمبيق خوفاً على حياته، بعد مقتل اثنين من كبار أعضاء حزبه المعارض داخل سيارتهما على يد مسلحين مجهولين، في إطلاق نار خلال الليل في مابوتو، بعد الانتخابات».

في أي حال، يثير الوضع الحالي في موزمبيق مخاوف دولية، ولاحقاً أعرب مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الأسبوع الماضي، عن قلقه. وقال في بيان: «نحن في غاية القلق بشأن التوترات المستمرة عقب الانتخابات في موزمبيق».

من ناحية ثانية، بصرف النظر عن الاحتجاجات التي أشعلتها الانتخابات الرئاسية، فإن تشابو يواجه تحديات عدة يتوجب عليه التعامل معها، على رأسها «التمرد» المستمر منذ 7 سنوات في مقاطعة كابو ديلغادو الشمالية الغنية بالنفط والغاز. وهذا إضافة إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية، واستغلال موارد الغاز الطبيعي، وإدارة تأثيرات التغير المناخي والكوارث الطبيعية التي أثرت على موزمبيق في السنوات الأخيرة.

وراثة الإرث الثقيل

لا شك، ثمة إرث ثقيل ورثه دانيال تشابو، ذلك أنه يقود بلداً مزَّقه الفساد والتحديات الاقتصادية العميقة، بما فيها ارتفاع معدلات البطالة والإضرابات عن العمل المتكرِّرة التي جعلت موزمبيق -رغم مواردها الكبيرة- واحدة من أفقر دول العالم، وفقاً للبنك الدولي.

الرئيس الجديد قال -صراحة- في خطاب تنصيبه الأربعاء الماضي: «لا يمكن لموزمبيق أن تظل رهينة للفساد والجمود والمحسوبية والنفاق وعدم الكفاءة والظلم». وأردف -وفق ما نقلته وكالة «أسوشييتد برس»- بأنه «لمن المؤلم أن كثيراً من مواطنينا ما زالوا ينامون من دون وجبة لائقة واحدة على الأقل».

وعليه، في مواجهة هذا الإرث الثقيل، تعهد بتقليص عدد الوزارات والمناصب الحكومية العليا. ورأى أن من شأن هذا التدبير توفير أكثر من 260 مليون دولار، سيعاد توجيهها لتحسين حياة الناس.

بالطبع فإن المعارضين والمشككين غير مقتنعين، ويقولون إنهم استمعوا كثيراً إلى النغمة نفسها تتكرَّر بلا تغيير يُذكر. بيد أن رئاسة تشابو تمثِّل اليوم فصلاً جديداً في تاريخ موزمبيق، أو «مفترق طرق»، حسب تعبير تشابو الذي قال في خطاب فوزه: «تقف موزمبيق عند مفترق طرق، وعلينا أن نختار طريق الوحدة والتقدم والسلام».