مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎

وزير الدفاع الآتي من المؤسسة السياسية والعسكرية التقليدية

مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎
TT

مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎

مارك إسبر يطمح لتغيير العقيدة القتالية للجيش الأميركي بمواجهة روسيا والصين‎

قد لا يشكل تعيين مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي الجديد، حدثاً كبيراً في دولة يحكمها القانون والمؤسسات كالولايات المتحدة، لكنها من المرات القليلة جداً التي يشغر فيها منصب وزير الدفاع لأكثر من سبعة أشهر، بعدما غدت ظاهرة شغور المناصب الحساسة في إدارة الرئيس دونالد ترمب أمراً اعتيادياً، في ظل خروج مستمر لمعظم من تولوا مسؤوليات رئيسية فيها منذ بداية عهده.

لم يأت مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي الجديد، من عالم الحروب والمعارك، حيث يترك بعض القادة العسكريين بصمات لا تمحى، قبل أن يصار إلى تكريمهم أو مكافأتهم بتعيينهم في مناصب حساسة، كوزير الدفاع في أكبر دولة في العالم.
مع ذلك، يبقى إسبر ابن المؤسسة العسكرية الأميركية التي تدرّج في مناصبها، مثلما تدرّج أيضاً في القطاع الخاص، في بلد لا تحتكر فيه السلطة السيطرة على الإنتاج. البلد الذي يختلط فيه العمل في القطاع العام بعلاقات وثيقة مع القطاع الخاص، حيث للشركات الكبرى، خصوصاً تلك المتخصصة في إنتاج الأسلحة، «لوبي» يعمل على تحقيق مصالحها وحمايتها. بيد أن المفارقة تكمن في أنه بينما كان الأميركيون يستمعون لشهادة روبرت مولر، المحقق الخاص في التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الأميركية، كان إسبر يؤكد في جلسة تثبيته أمام مجلس الشيوخ أنه على الجيش الأميركي التأهب لمواجهة روسيا، والصين أيضاً. ثم إن حصول إسبر على 90 صوتاً مقابل 8 أصوات عند تثبيت تعيينه جاء بفضل كونه ضابطاً سابقاً في الجيش الأميركي، وأحد أبناء المؤسسة السياسية في واشنطن، وليس على إنجازاته العسكرية، مع أنه كان يشغل منصب وزير الجيش (أي جيش البر) في إدارة ترمب.

- إسبر... وجورج مارشال
ما يستحق الإشارة هنا أن إسبر - وهو متزوج وأب لثلاثة أولاد - هو ابن بلدة يونيون تاون الصغيرة في ولاية بنسلفانيا، التي لا يتجاوز عدد سكانها 10 آلاف نسمة. وهذه البلدة هي مسقط رأس الجنرال جورج مارشال، القائد الأميركي الأكثر شهرة في القرن العشرين، الرجل الذي يعده إسبر بطله الشخصي، بحسب ما قاله للرئيس ترمب، ونقلته عنه وسائل الإعلام الأميركية.
مارشال كان قد قاد قوة صغيرة من جيش لم يكن على استعداد بعد لخوض الحرب عام 1939 إلى النصر في الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب، عُيّن مارشال وزيراً للخارجية (1947 - 1949)، فأسهم بإعادة بناء أوروبا عبر مشروع حمل اسمه هو (مشروع أو خطة مارشال). وبعدها، عمل مع الرئيس هاري ترومان وزيراً للدفاع (1950 - 1951). ورغم وفاة مارشال عام 1959، ظل صيته وتأثيره راسخين، لا سيما في ذاكرة ضباط الجيش في يونيون تاون.

- تحدّيات... ونهج محافظ
ومثل مارشال، يواجه وزير الدفاع إسبر تحدياً كبيراً، إذ يعتزم تغيير عقيدة الجيش الأميركي ومهامه الخارجية، بالابتعاد عن حروب مكافحة الإرهاب، والتأهب لردع روسيا والصين، وإلحاق الهزيمة بهما، في ظل تهديدات أكثر خطورة وتحدياً تقنياً من أي وقت مضى. ومن مقولات إسبر أمام «مؤسسة هيريتيدج» (مؤسسة التراث) المحافظة، التي كان أحد أركانها، في خطاب ألقاه خلال أبريل (نيسان) 2018: «إنهم يحدّثون قدراتهم، ويعملون على إضعافنا وتآكلنا، لتهديد مصالحنا». وفي هذا السياق، لدى إسبر رؤية جدّية، وقد لا تكون متطابقة تماماً مع كل توجهات الرئيس دونالد ترمب.
كذلك قال إسبر، في مقابلة له عن الجيش خلال فبراير (شباط) الماضي: «نحن في عصر نهضة جديد في الوقت الحالي، وعلينا التأكد من أننا جاهزون للتعامل ندياً من دولة مقابل دولة، في ظل صراع عالي الكثافة في المستقبل، ضد بلدان مثل روسيا والصين». وكدلالة على انتمائه إلى المؤسسة السياسية - والمحافظة تحديداً - داخل واشنطن، عمل إسبر في أروقة الكابيتول (مقر الكونغرس) ضمن «مؤسسة هيريتيدج»،
ومديراً تنفيذياً كبيراً في شركة المقاولات الدفاعية الكبرى «رايثيون» المتخصصة في التقنيات والأنظمة العسكرية المتقدمة.
قبل ذلك، أمضى إسبر 10 سنوات في الخدمة الفعلية في الجيش الأميركي بعد تخرّجه من أكاديمية يويست بوينت العسكرية الشهيرة بدرجة بكالوريوس في العلوم الهندسية، مع وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو، عام 1986. وتجمع بين الرجلين صداقة خاصة منذ ذلك الوقت. بعد ذلك، حصل إسبر على درجة الماجستير في الإدارة الحكومية (العامة) من جامعة هارفارد، ثم على الدكتوراه في السياسة العامة من جامعة جورج واشنطن، في العاصمة الأميركية.
أما على الصعيد الميداني، فلقد شارك إسبر الذي وصل لرتبة مقدم (لفتنانت كولونيل) عام 1991 في عملية «عاصفة الصحراء» بمنطقة الخليج. وعلى صعيد الصعود السياسي - العسكري، عيّن الرئيس ترمب إسبر في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 وزيراً للجيش (جيش البر)، وحظي يومذاك بتأييد غالبية أعضاء مجلس الشيوخ خلال جلسة تثبيته أيضاً، ما عكس الاحترام الشديد الذي يحظى به في المؤسستين السياسية والعسكرية.

- صعوبة العلاقة بترمب
إن تولّي منصب وزير الدفاع، عادة، خطوة كبيرة بالنسبة للأفراد الطامحين للعب دور في الحياة السياسية، أو على المستوى الشخصي، إلا أنه في المقابل من أكثر المناصب تسبباً بالمتاعب والمضايقة، سواء بالنسبة إلى الساسة أو رجال الأعمال والأكاديميين. ويصف البعض هذا المنصب بأنه «وظيفة عديمة الجدوى»، بسبب اضطرار شاغلها للالتزام بالتوجيهات والقرارات السياسية والشخصية للرئيس، إذ إن الدستور الأميركي ينص بوضوح على أن رئيس الجمهورية هو «القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية». وعندما يحصل التناقض، أو يتولى رئيس له صفات ترمب، يتحول منصب وزير الدفاع إلى مصدر قلق وصداع يضطره للمغادرة، كما حصل مع الوزير السابق الجنرال جيم ماتيس، حين استقال بشكل مفاجئ من منصبه في أواخر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي. وتتداول أروقة «البنتاغون» (مقر وزارة الدفاع الأميركية) الاعتراضات المكتومة التي يبديها القادة العسكريون، على عادة تجاوز ترمب للتراتبية العسكرية القائمة، ومبادرته بشكل مباشر للاتصال بالقادة الميدانيين، في مختلف المواقع.

- فرصة طيبة أمام إسبر
رغم هذا، ثمة توقعات تشير إلى احتمال أن يتمكن إسبر من لعب دور بنّاء، وضخّ دماء وأفكار جديدة في المؤسسة العسكرية الأميركية. وينقل عنه أنه رجل ديناميكي، إذ إنه عمد فور توليه منصبه إلى عقد اجتماع مباشر مع رئيس هيئة أركان القوات المشتركة، وقادة القيادتين الوسطى والعمليات الخاصة في مدينة تامبا بولاية فلوريدا، من أجل حث تطوير خطة ردع عسكري دولية لمواجهة استفزازات إيران في منطقة الخليج العربي، مروراً بمضيق هرمز وخليج عُمان، وصولاً إلى باب المندب.
في المقابل، لم يكن إسبر الخيار الأول لترمب الذي أمضي نحو ستة أشهر في البحث عن وزير دفاع جديد، إذ كان ترمب مصمماً على تسمية باتريك شاناهان، الآتي أيضاً من القطاع الخاص، وتحديداً من شركة «بوينغ» العملاقة، إلا أن اعتذار شاناهان المفاجئ عن المضي في ترشحه، إثر قضية عنف عائلي ضد زوجته السابقة، ضيّق خيارات ترمب، في ظل ما ينقل من أجواء عن إحجام عدد كبير من المؤهلين عن تقبّل الصداع الذي قد يسببه التعامل مع ترمب.

- إسبر وبومبيو وميلي
في أي حال، مؤهلات إسبر أتاحت له نيل رضا الرئيس، خصوصاً أنه لم يخض مواجهات سياسية معه، رغم منصبه كوزير للجيش في إدارته. وقد ألغى إسبر عندما كان يتولى منصب وزير جيش البر 200 برنامج قال إنها لا تلائم المواجهات المستقبلية. وعام 2018، مدّد إسبر فترة التدريب الأساسي للجيش لمدة شهرين كاملين، ليغدو «الأطول والأقسى في العالم»، وعلّق قائلاً إن «أفراد الجيش الأميركي، بغض النظر عن العمر أو الجنس، يجب أن يتمتعوا بقدرات جسدية وعقلية قوية».
هذه الرؤية التي طرحها إسبر، ومعه رئيس أركان الجيش الجنرال مارك ميلي، تتوقع «ساحة معركة» لا هوادة فيها مستقبلاً، أمام قوات عليها أن تقاتل في عمليات متعددة ومعقدة، وفي أكثر من مجال وميدان. ولقد نقلت هذه الرؤية إلى قادة «البنتاغون» بوضوح، لكن السؤال المطروح: هل سيتمكن إسبر من تحقيق هذه الرؤية وتنفيذها؟
عليه، راهناً، تقديم المشورة العسكرية للرئيس ترمب بشأن إيران وكوريا الشمالية، وقضية انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، إذا تحقق تقدم في مباحثات السلام المتواصلة التي يديرها المبعوث الخاص زلماي خليل زاد. أما الأهم من ذلك كله فيبقى ميزانية وزارة الدفاع. وهنا، يقول البعض إنه بإمكان إسبر أن يتبع الخطى التي سار عليها الجنرال مارشال، عندما عزّز علاقته بالكابيتول دفاعاً عن الأمن القومي.

- ترحيب من الكونغرس
إسبر حصل حتى الآن على ترحيب دافئ من أعضاء الكونغرس، فقد أشاد السيناتور الديمقراطي تيم كاين (ولاية فيرجينيا) بتحركه السريع بشأن تحسين ظروف السكن العسكري؛ ذلك أن عمله في الكابيتول ساعده على العمل في بيئة سياسية أتاحت له بناء علاقات جيدة مع السلطة التشريعية، بل حتى علاقته بالصحافة ليست سيئة، وثمة من يدعوه للتشبّه بالجنرال مارشال الذي كان يعقد مؤتمراً صحافياً هادئاً، مرة أو مرتين في الأسبوع، بحسب مجلة «نيويوركر».
أيضاً، وفي ظل علاقة إسبر الجيدة مع بومبيو، فإنه سيواصل العمل مع الجنرال ميلي الذي سيتولى منصب رئيس هيئة الأركان المشتركة، خلفاً للجنرال جوزف دانفورد... المغادر قريباً.
ومع أن البعض يرى أنه كان بالإمكان التدقيق أكثر بشخصية ومؤهلات إسبر في جلسة تثبيت تعيينه في مجلس الشيوخ، يرجح مراقبون أن يكون التصويت الكبير لصالحه قد جاء على خلفية استعداد أعضاء مجلس الشيوخ للتصويت لأي شخص يستطيع تحمل مسؤولية «البنتاغون» في الظروف الحالية. وقد يكون لإسبر هذه القدرة نظراً لتاريخه في الجيش، وتجربته الواسعة في سياسات الدفاع، وتوليه وزارة الجيش بشكل إيجابي.

- نظرة دفاعية تقليدية
مع هذا، فالإجابات الخطية والشفهية التي قدمها الوزير الجديد في جلسة لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ تكشف عن وجهات نظر مؤسسة دفاعية تقليدية، على عكس وجهات نظر الرئيس ترمب. فهو يؤمن بأهمية التحالفات الأميركية التقليدية، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وينظر إلى روسيا على أنها خصم، ويخشى من تنفيذ انسحاب سريع للقوات الأميركية من الميادين المنتشرة فيها حالياً.
ولقد كان لافتاً أنه لم يوجه سؤال واحد لإسبر عن أفغانستان، حيث تخوض القوات الأميركية أطول حرب في تاريخها، لكن إسبر قال في شهادته المكتوبة إن انسحاب القوات من النزاعات يجب أن يكون «قائماً على الظروف»، من دون تحديد هذه الظروف!
كذلك قدم إسبر ثلاثة أهداف للمهمة العسكرية الأميركية المستمرة في سوريا: محاربة فلول «داعش»، والتوصل إلى تسوية سياسية للحرب الأهلية السورية، والضغط من أجل انسحاب القوات الإيرانية. لكن الكونغرس لم يصرّح بالهدفين الأخيرين. ثم إن إرسال القوات تم بقرار من إدارة بارك أوباما، تحت رعاية تفويض عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية الذي وضع قبل ولادة «داعش»، ومعلوم أن إسبر يعارض تعديله أيضاً. وهذا بجانب دعمه الاحتفاظ بقاعدة غوانتانامو، وإرسال الجيش إلى الحدود الجنوبية مع المكسيك.

- علاقته بشركة «رايثيون»
أخيراً، فإن قضية علاقة إسبر بشركة «رايثيون» قد أثارت نقاشاً متوتراً، ولو بشكل محدود، في جلسة تثبيته، إذ ضغطت عليه السيناتورة إليزابيث وارين بسبب علاقته السابقة بتلك الشركة، ورفضه التعهد بإبعاد نفسه عن أي قرارات قد تستفيد منها الشركة خلال ولايته كوزير للدفاع، إذ قال إنه لا يستطيع ذلك بناء على نصيحة مستشاري لجنة أخلاقيات القسم في مجلس الشيوخ، رغم وعده بأنه سيبعد نفسه عن المفاوضات الجارية لدمج «رايثيون» مع شركة أخرى.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.