قد لا يشكل تعيين مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي الجديد، حدثاً كبيراً في دولة يحكمها القانون والمؤسسات كالولايات المتحدة، لكنها من المرات القليلة جداً التي يشغر فيها منصب وزير الدفاع لأكثر من سبعة أشهر، بعدما غدت ظاهرة شغور المناصب الحساسة في إدارة الرئيس دونالد ترمب أمراً اعتيادياً، في ظل خروج مستمر لمعظم من تولوا مسؤوليات رئيسية فيها منذ بداية عهده.
لم يأت مارك إسبر، وزير الدفاع الأميركي الجديد، من عالم الحروب والمعارك، حيث يترك بعض القادة العسكريين بصمات لا تمحى، قبل أن يصار إلى تكريمهم أو مكافأتهم بتعيينهم في مناصب حساسة، كوزير الدفاع في أكبر دولة في العالم.
مع ذلك، يبقى إسبر ابن المؤسسة العسكرية الأميركية التي تدرّج في مناصبها، مثلما تدرّج أيضاً في القطاع الخاص، في بلد لا تحتكر فيه السلطة السيطرة على الإنتاج. البلد الذي يختلط فيه العمل في القطاع العام بعلاقات وثيقة مع القطاع الخاص، حيث للشركات الكبرى، خصوصاً تلك المتخصصة في إنتاج الأسلحة، «لوبي» يعمل على تحقيق مصالحها وحمايتها. بيد أن المفارقة تكمن في أنه بينما كان الأميركيون يستمعون لشهادة روبرت مولر، المحقق الخاص في التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الأميركية، كان إسبر يؤكد في جلسة تثبيته أمام مجلس الشيوخ أنه على الجيش الأميركي التأهب لمواجهة روسيا، والصين أيضاً. ثم إن حصول إسبر على 90 صوتاً مقابل 8 أصوات عند تثبيت تعيينه جاء بفضل كونه ضابطاً سابقاً في الجيش الأميركي، وأحد أبناء المؤسسة السياسية في واشنطن، وليس على إنجازاته العسكرية، مع أنه كان يشغل منصب وزير الجيش (أي جيش البر) في إدارة ترمب.
- إسبر... وجورج مارشال
ما يستحق الإشارة هنا أن إسبر - وهو متزوج وأب لثلاثة أولاد - هو ابن بلدة يونيون تاون الصغيرة في ولاية بنسلفانيا، التي لا يتجاوز عدد سكانها 10 آلاف نسمة. وهذه البلدة هي مسقط رأس الجنرال جورج مارشال، القائد الأميركي الأكثر شهرة في القرن العشرين، الرجل الذي يعده إسبر بطله الشخصي، بحسب ما قاله للرئيس ترمب، ونقلته عنه وسائل الإعلام الأميركية.
مارشال كان قد قاد قوة صغيرة من جيش لم يكن على استعداد بعد لخوض الحرب عام 1939 إلى النصر في الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب، عُيّن مارشال وزيراً للخارجية (1947 - 1949)، فأسهم بإعادة بناء أوروبا عبر مشروع حمل اسمه هو (مشروع أو خطة مارشال). وبعدها، عمل مع الرئيس هاري ترومان وزيراً للدفاع (1950 - 1951). ورغم وفاة مارشال عام 1959، ظل صيته وتأثيره راسخين، لا سيما في ذاكرة ضباط الجيش في يونيون تاون.
- تحدّيات... ونهج محافظ
ومثل مارشال، يواجه وزير الدفاع إسبر تحدياً كبيراً، إذ يعتزم تغيير عقيدة الجيش الأميركي ومهامه الخارجية، بالابتعاد عن حروب مكافحة الإرهاب، والتأهب لردع روسيا والصين، وإلحاق الهزيمة بهما، في ظل تهديدات أكثر خطورة وتحدياً تقنياً من أي وقت مضى. ومن مقولات إسبر أمام «مؤسسة هيريتيدج» (مؤسسة التراث) المحافظة، التي كان أحد أركانها، في خطاب ألقاه خلال أبريل (نيسان) 2018: «إنهم يحدّثون قدراتهم، ويعملون على إضعافنا وتآكلنا، لتهديد مصالحنا». وفي هذا السياق، لدى إسبر رؤية جدّية، وقد لا تكون متطابقة تماماً مع كل توجهات الرئيس دونالد ترمب.
كذلك قال إسبر، في مقابلة له عن الجيش خلال فبراير (شباط) الماضي: «نحن في عصر نهضة جديد في الوقت الحالي، وعلينا التأكد من أننا جاهزون للتعامل ندياً من دولة مقابل دولة، في ظل صراع عالي الكثافة في المستقبل، ضد بلدان مثل روسيا والصين». وكدلالة على انتمائه إلى المؤسسة السياسية - والمحافظة تحديداً - داخل واشنطن، عمل إسبر في أروقة الكابيتول (مقر الكونغرس) ضمن «مؤسسة هيريتيدج»،
ومديراً تنفيذياً كبيراً في شركة المقاولات الدفاعية الكبرى «رايثيون» المتخصصة في التقنيات والأنظمة العسكرية المتقدمة.
قبل ذلك، أمضى إسبر 10 سنوات في الخدمة الفعلية في الجيش الأميركي بعد تخرّجه من أكاديمية يويست بوينت العسكرية الشهيرة بدرجة بكالوريوس في العلوم الهندسية، مع وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو، عام 1986. وتجمع بين الرجلين صداقة خاصة منذ ذلك الوقت. بعد ذلك، حصل إسبر على درجة الماجستير في الإدارة الحكومية (العامة) من جامعة هارفارد، ثم على الدكتوراه في السياسة العامة من جامعة جورج واشنطن، في العاصمة الأميركية.
أما على الصعيد الميداني، فلقد شارك إسبر الذي وصل لرتبة مقدم (لفتنانت كولونيل) عام 1991 في عملية «عاصفة الصحراء» بمنطقة الخليج. وعلى صعيد الصعود السياسي - العسكري، عيّن الرئيس ترمب إسبر في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 وزيراً للجيش (جيش البر)، وحظي يومذاك بتأييد غالبية أعضاء مجلس الشيوخ خلال جلسة تثبيته أيضاً، ما عكس الاحترام الشديد الذي يحظى به في المؤسستين السياسية والعسكرية.
- صعوبة العلاقة بترمب
إن تولّي منصب وزير الدفاع، عادة، خطوة كبيرة بالنسبة للأفراد الطامحين للعب دور في الحياة السياسية، أو على المستوى الشخصي، إلا أنه في المقابل من أكثر المناصب تسبباً بالمتاعب والمضايقة، سواء بالنسبة إلى الساسة أو رجال الأعمال والأكاديميين. ويصف البعض هذا المنصب بأنه «وظيفة عديمة الجدوى»، بسبب اضطرار شاغلها للالتزام بالتوجيهات والقرارات السياسية والشخصية للرئيس، إذ إن الدستور الأميركي ينص بوضوح على أن رئيس الجمهورية هو «القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية». وعندما يحصل التناقض، أو يتولى رئيس له صفات ترمب، يتحول منصب وزير الدفاع إلى مصدر قلق وصداع يضطره للمغادرة، كما حصل مع الوزير السابق الجنرال جيم ماتيس، حين استقال بشكل مفاجئ من منصبه في أواخر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي. وتتداول أروقة «البنتاغون» (مقر وزارة الدفاع الأميركية) الاعتراضات المكتومة التي يبديها القادة العسكريون، على عادة تجاوز ترمب للتراتبية العسكرية القائمة، ومبادرته بشكل مباشر للاتصال بالقادة الميدانيين، في مختلف المواقع.
- فرصة طيبة أمام إسبر
رغم هذا، ثمة توقعات تشير إلى احتمال أن يتمكن إسبر من لعب دور بنّاء، وضخّ دماء وأفكار جديدة في المؤسسة العسكرية الأميركية. وينقل عنه أنه رجل ديناميكي، إذ إنه عمد فور توليه منصبه إلى عقد اجتماع مباشر مع رئيس هيئة أركان القوات المشتركة، وقادة القيادتين الوسطى والعمليات الخاصة في مدينة تامبا بولاية فلوريدا، من أجل حث تطوير خطة ردع عسكري دولية لمواجهة استفزازات إيران في منطقة الخليج العربي، مروراً بمضيق هرمز وخليج عُمان، وصولاً إلى باب المندب.
في المقابل، لم يكن إسبر الخيار الأول لترمب الذي أمضي نحو ستة أشهر في البحث عن وزير دفاع جديد، إذ كان ترمب مصمماً على تسمية باتريك شاناهان، الآتي أيضاً من القطاع الخاص، وتحديداً من شركة «بوينغ» العملاقة، إلا أن اعتذار شاناهان المفاجئ عن المضي في ترشحه، إثر قضية عنف عائلي ضد زوجته السابقة، ضيّق خيارات ترمب، في ظل ما ينقل من أجواء عن إحجام عدد كبير من المؤهلين عن تقبّل الصداع الذي قد يسببه التعامل مع ترمب.
- إسبر وبومبيو وميلي
في أي حال، مؤهلات إسبر أتاحت له نيل رضا الرئيس، خصوصاً أنه لم يخض مواجهات سياسية معه، رغم منصبه كوزير للجيش في إدارته. وقد ألغى إسبر عندما كان يتولى منصب وزير جيش البر 200 برنامج قال إنها لا تلائم المواجهات المستقبلية. وعام 2018، مدّد إسبر فترة التدريب الأساسي للجيش لمدة شهرين كاملين، ليغدو «الأطول والأقسى في العالم»، وعلّق قائلاً إن «أفراد الجيش الأميركي، بغض النظر عن العمر أو الجنس، يجب أن يتمتعوا بقدرات جسدية وعقلية قوية».
هذه الرؤية التي طرحها إسبر، ومعه رئيس أركان الجيش الجنرال مارك ميلي، تتوقع «ساحة معركة» لا هوادة فيها مستقبلاً، أمام قوات عليها أن تقاتل في عمليات متعددة ومعقدة، وفي أكثر من مجال وميدان. ولقد نقلت هذه الرؤية إلى قادة «البنتاغون» بوضوح، لكن السؤال المطروح: هل سيتمكن إسبر من تحقيق هذه الرؤية وتنفيذها؟
عليه، راهناً، تقديم المشورة العسكرية للرئيس ترمب بشأن إيران وكوريا الشمالية، وقضية انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، إذا تحقق تقدم في مباحثات السلام المتواصلة التي يديرها المبعوث الخاص زلماي خليل زاد. أما الأهم من ذلك كله فيبقى ميزانية وزارة الدفاع. وهنا، يقول البعض إنه بإمكان إسبر أن يتبع الخطى التي سار عليها الجنرال مارشال، عندما عزّز علاقته بالكابيتول دفاعاً عن الأمن القومي.
- ترحيب من الكونغرس
إسبر حصل حتى الآن على ترحيب دافئ من أعضاء الكونغرس، فقد أشاد السيناتور الديمقراطي تيم كاين (ولاية فيرجينيا) بتحركه السريع بشأن تحسين ظروف السكن العسكري؛ ذلك أن عمله في الكابيتول ساعده على العمل في بيئة سياسية أتاحت له بناء علاقات جيدة مع السلطة التشريعية، بل حتى علاقته بالصحافة ليست سيئة، وثمة من يدعوه للتشبّه بالجنرال مارشال الذي كان يعقد مؤتمراً صحافياً هادئاً، مرة أو مرتين في الأسبوع، بحسب مجلة «نيويوركر».
أيضاً، وفي ظل علاقة إسبر الجيدة مع بومبيو، فإنه سيواصل العمل مع الجنرال ميلي الذي سيتولى منصب رئيس هيئة الأركان المشتركة، خلفاً للجنرال جوزف دانفورد... المغادر قريباً.
ومع أن البعض يرى أنه كان بالإمكان التدقيق أكثر بشخصية ومؤهلات إسبر في جلسة تثبيت تعيينه في مجلس الشيوخ، يرجح مراقبون أن يكون التصويت الكبير لصالحه قد جاء على خلفية استعداد أعضاء مجلس الشيوخ للتصويت لأي شخص يستطيع تحمل مسؤولية «البنتاغون» في الظروف الحالية. وقد يكون لإسبر هذه القدرة نظراً لتاريخه في الجيش، وتجربته الواسعة في سياسات الدفاع، وتوليه وزارة الجيش بشكل إيجابي.
- نظرة دفاعية تقليدية
مع هذا، فالإجابات الخطية والشفهية التي قدمها الوزير الجديد في جلسة لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ تكشف عن وجهات نظر مؤسسة دفاعية تقليدية، على عكس وجهات نظر الرئيس ترمب. فهو يؤمن بأهمية التحالفات الأميركية التقليدية، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وينظر إلى روسيا على أنها خصم، ويخشى من تنفيذ انسحاب سريع للقوات الأميركية من الميادين المنتشرة فيها حالياً.
ولقد كان لافتاً أنه لم يوجه سؤال واحد لإسبر عن أفغانستان، حيث تخوض القوات الأميركية أطول حرب في تاريخها، لكن إسبر قال في شهادته المكتوبة إن انسحاب القوات من النزاعات يجب أن يكون «قائماً على الظروف»، من دون تحديد هذه الظروف!
كذلك قدم إسبر ثلاثة أهداف للمهمة العسكرية الأميركية المستمرة في سوريا: محاربة فلول «داعش»، والتوصل إلى تسوية سياسية للحرب الأهلية السورية، والضغط من أجل انسحاب القوات الإيرانية. لكن الكونغرس لم يصرّح بالهدفين الأخيرين. ثم إن إرسال القوات تم بقرار من إدارة بارك أوباما، تحت رعاية تفويض عام 2001 لاستخدام القوة العسكرية الذي وضع قبل ولادة «داعش»، ومعلوم أن إسبر يعارض تعديله أيضاً. وهذا بجانب دعمه الاحتفاظ بقاعدة غوانتانامو، وإرسال الجيش إلى الحدود الجنوبية مع المكسيك.
- علاقته بشركة «رايثيون»
أخيراً، فإن قضية علاقة إسبر بشركة «رايثيون» قد أثارت نقاشاً متوتراً، ولو بشكل محدود، في جلسة تثبيته، إذ ضغطت عليه السيناتورة إليزابيث وارين بسبب علاقته السابقة بتلك الشركة، ورفضه التعهد بإبعاد نفسه عن أي قرارات قد تستفيد منها الشركة خلال ولايته كوزير للدفاع، إذ قال إنه لا يستطيع ذلك بناء على نصيحة مستشاري لجنة أخلاقيات القسم في مجلس الشيوخ، رغم وعده بأنه سيبعد نفسه عن المفاوضات الجارية لدمج «رايثيون» مع شركة أخرى.