مثّل تولي العاهل المغربي الملك محمد السادس الحكم، خلفاً لوالده الراحل الملك الحسن الثاني، عام 1999، نقطة انطلاق ما سُمّي آنذاك «العهد الجديد» الذي بدأ بإنهاء سنوات الاحتقان السياسي وإطلاق مشاريع التنمية لمحاربة الفقر، وصولاً إلى إصلاح الدستور الذي سهّل اجتياز المغرب موجة احتجاجات «الربيع العربي» عام 2011، غير أن هناك تحديات كبيرة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما زال على المغرب مواجهتها للحفاظ على استقراره.
ورث الملك محمد السادس إرثاً سياسياً ثقيلاً نتج عن سنوات طويلة من الصراع السياسي بين الحكم والمعارضة، فكان لا بد من طيّ ملف الانتهاكات الجسيمة بحق المعارضين السياسيين، عبر إنشاء «هيئة الإنصاف والمصالحة» في يناير (كانون الثاني) 2004، بناء على قرار ملكي بالموافقة على توصية صادرة عن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.
ومكّنت الهيئة من كشف مصير 801 من ضحايا الاختفاء القسري أو الاعتقال التعسفي أو من سقطوا خلال أحداث اجتماعية مختلفة، وتحديد أماكن دفن رفات 385 حالة. وحسب تقرير رسمي عرضه قبل أسابيع الوزير المكلف حقوق الإنسان مصطفى الرميد «لم يتبق إلا ست حالات، من أصل 66 حالة تركتها الهيئة، لم تمكن التحريات المنجزة بشأنها من الوصول إلى حقائق مؤكدة أو قناعات راجحة بشأن وفاة المعنيين بها».
وحسب التقرير ذاته، فإن العدد الإجمالي للمستفيدين من التعويض المالي بالنسبة إلى «هيئة الإنصاف والمصالحة»، من ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الماضي وذوي حقوقهم بلغ 27754 مستفيداً.
في هذا السياق، قال محمد العمراني بوخبزة أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية وعميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية بمدينة تطوان، لـ«الشرق الأوسط»، إن الملك محمد السادس بعد اعتلائه العرش أعلن عن «المفهوم الجديد للسلطة» الذي حدد من خلاله تصوره للكيفية التي سيحكم بها البلاد، وكانت هذه الخطوة إشارة قوية على رغبة الملك بإدخال إصلاحات جوهرية على النظام السياسي.
وبدأت ورش متعددة مرتبطة بهذا المنحى، من بينها ملف حقوق الإنسان، وإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، أو ما تُسمى «العدالة الانتقالية».
ويرى رئيس «المنظمة المغربية لحقوق الإنسان» بوبكر لركو أن من أهم الأحداث الحقوقية التي طبعت حكم الملك محمد السادس، خلال عشرين سنة، «مصادقته على تقريرين مهمين بالنسبة للمغرب؛ الأول يتعلق بتقرير الخمسينية: المغرب الممكن، الذي يعتبر تشخيصاً وتقييماً لوضعية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، والثاني يتعلق بالتقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة الذي يدخل ضمن التقارير التي تقوم بها لجان الحقيقة في إطار العدالة الانتقالية، إذ تم اختيار مقاربة التغيير في إطار الاستمرارية وتسوية ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خارج النطاق القضائي، وإقرار مسؤولية الدولة وليس مسؤوليات الأفراد وعدم الكشف عن أسمائهم».
وقال لركو لـ«الشرق الأوسط» إن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة «حظيت باهتمام وطني ودولي نتيجة قوتها، سواء فيما يخص جبر الضرر الفردي أو الجماعي، أو فيما يخص تعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، وضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عبر الإصلاح القضائي، والوضع الدستوري لمؤسسات الحكامة، والحكامة الأمنية ونشر ثقافة حقوق الإنسان، ومواصلة الكشف عن الحقيقة، وحفظ الذاكرة ومصادقة المغرب على الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية ذات الصلة، كاتفاقية روما (نظام المحكمة الجنائية الدولية)، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والبروتوكول الاختياري الثاني المرتبط بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام».
وأوضح المسؤول الحقوقي أنه «إذا كانت جل التجارب الدولية لم تتجاوز على العموم تنفيذ 30 في المائة من توصياتها، فإن التجربة المغربية أنجزت كثيراً منها، خصوصاً بعد إقرار دستور 2011 الذي نص على تعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان وعلى الحق في الحياة وتجريم التعذيب، وتجريم الاعتقال خارج نطاق القانون، وتجريم الإخفاء القسري وتجريم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب»، إضافة إلى النص على حرية الصحافة والاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي والتنظيم والإضراب «إلى جانب الوضع الدستوري للمؤسسات الوطنية الساهرة على حماية حقوق الإنسان واستقلال القضاء والمصادقة على اتفاقية الاختفاء القسري والبروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب».
وخلص لركو إلى أنه «مع تفعيل كثير من هذه المقتضيات، إلا أن تمتع المواطن بكل هذه الحقوق ما زال شغلاً شاغلاً للمجتمع المدني والحقوقي أساساً، خصوصاً تلك المرتبطة بتأسيس الجمعيات والاجتماع والتظاهر والتجمهر السلمي والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي اعترفت بها الحكومة بتبنيها لكثير من قضاياها في الخطة الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان».
- محاربة الفقر
في 2005، أطلق الملك محمد السادس مشروعاً تنموياً يهدف إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة تحت اسم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتهدف إلى محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي، وهي حالياً في مرحلتها الثالثة (2019 - 2023). وحسب إحصاءات رسمية قُدمت في سبتمبر (أيلول) الماضي، فإن المبادرة حققت خلال الفترة الممتدة ما بين 2005 و2017 ما مجموعه 43 ألف مشروع ونشاط ساهمت في تيسير الولوج للخدمات الأساسية والخدمات الصحية ودعم التعليم والإدماج الاجتماعي للشباب، من دون إغفال عدد من المعيقات التي ما زالت تعترض التنفيذ الأمثل للمبادرة.
- الحكم الذاتي والعودة الأفريقية
طرح المغرب مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء عام 2007، وجسّدت رغبة حقيقية لإنهاء الصراع حول الصحراء بعد سنوات من الجمود ولقيت ترحيباً إقليمياً ودولياً. وبعد أكثر من عقد على المبادرة، أعلن العاهل المغربي أن الحكم الذاتي هو أقصى ما يمكن أن تقدمه بلاده، رافضاً كل تجاوز. ويرى أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس بالرباط تاج الدين الحسيني أن تحولاً طرأ على الدبلوماسية في عهد الملك محمد السادس، إذ «انتقل المغرب من دبلوماسية رد الفعل إلى دبلوماسية هجومية، والقطع مع الكرسي الفارغ». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن نتائج هذه الدبلوماسية ظهرت بعودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي، وتزايد عدد الدول الأفريقية التي تؤيد مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء، وارتفاع أعداد الدول التي سحبت اعترافها بـ«البوليساريو».
ولاحظ الحسيني أنه «خلال هذه المرحلة استفاد المغرب أيضاً من الدروس وتنكر حلفائه الأقربين، لا سيما الولايات المتحدة، عندما عرضت مشروع إسناد مهمة حماية حقوق الإنسان لبعثة مينورسو أمام مجلس الأمن، فقرر على أثر ذلك ألا يضع بيضه في سلة واحدة، ويعدد وينوع شراكاته مع الدول الأعضاء في مجلس الأمن، ومنها الصين وروسيا اللتان عقد معهما شراكات استراتيجية مهمة، منها رفع نسبة التبادل التجاري عبر مشروع طريق الحرير الجديد مع الصين».
وبالنسبة إلى روسيا، يوضح الحسيني أن الشراكة لم تقتصر على المجالات الاقتصادية بل شملت أيضاً مجال التسلح، وشمل التعاون بين البلدين الحقل الديني أيضاً، إذ إن «المغرب أصبح يكوّن أئمة روساً لتفادي الغلو والتطرف ونشر الاعتدال والتسامح الديني». وقال إن المغرب «حاول في المرحلة الأخيرة ما أمكن الاقتراب أكثر من أفريقيا التي ابتعد عنها، ووقع اتفاقات ثنائية عدة مع البلدان الأفريقية، وبذلك أصبح أول مستثمر في غرب أفريقيا والثاني في القارة بعد جنوب أفريقيا».
واعتبر أن الدبلوماسية المغربية «انتقلت إلى المساهمة في القرار الدولي من خلال مشاركة واسعة للجنود المغاربة في (القبعات الزرق) للحفاظ على السلم، وإقامة مستشفيات متنقلة في عدد من المناطق لمساعدة ضحايا النزاعات العسكرية المعارك والحروب الإقليمية». وخلص إلى أن الدبلوماسية المغربية تتميز حالياً بـ«الحكمة واحترام المبادئ والأخلاق في العلاقات الدولية، وهي أكثر توازناً».
- الملك و«الربيع العربي»
بدأ الحديث عن الإصلاح الدستوري منذ السنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس، وبرز آنذاك تياران، الأول اعتبر أن الإصلاح الدستوري ليس ضرورياً أو آنياً، في مقابل تيار آخر طالب بأن يبدأ العهد الجديد بدستور جديد، إلا أن هذا الإصلاح أُرجئ إلى حين استكمال وضع تصور لمشروع الجهوية الموسعة أو المتقدمة، حسب المحلل السياسي بوخبزة الذي أوضح أن أحداث «الربيع العربي» في 2011 وظهور «حركة 20 فبراير» الشبابية التي قادت الاحتجاجات عجّل بإقرار الإصلاحات الدستورية.
وقال إن «الملك محمد السادس تعامل بذكاء كبير مع هذه الأحداث، وأعلن في خطاب 9 مارس (آذار) 2011 عن فتح ورش إصلاح الدستور، وفتح نقاش مجتمعي كبير بشأنه للمرة الأولى، لا سيما أن الملك لم يحدد سقفاً معيناً لهذا الإصلاح. واعتمد في إعداد الدستور الجديد على لجنتين تقنية وسياسية بكفاءات مغربية أنتجت دستوراً مغربياً محضاً شاركت في إعداده أطياف متعددة سياسية ومدنية ونقابية، الأمر الذي تُوّج بموافقة الشعب عليه في استفتاء يوليو (تموز) 2011. وبذلك دخل المغرب عهداً جديداً من خلال هذا الدستور الذي كان أحد مخرجاته إجراء انتخابات 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011»، التي أوصلت للمرة الأولى حزباً ذا مرجعية إسلامية إلى رئاسة الحكومة (حزب «العدالة والتنمية») بعد أن عيّن الملك وفقاً للفصل 47 من الدستور رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات، وهو ما عده «تحولاً نوعياً في الحياة السياسية المغربية».