- عماد موسى: معلوف وأسواني
منذ إصابتي بلوثة المطالعة، ومنذ أدمنت على «الرواية» وقدّمتها على الصنوف الأخرى مثل السيرة أو التاريخ أو الشعر، وجدتني متحزباً لباقة من الكتّاب، ومنهم جبور الدويهي، وأنتظر كل جديد يصدره كل ثلاثة أو أربعة أعوام. وبكل حماسة أدعو مَن لم يكتشف بعد هذا الروائي أن يقرأه، أما آخر ما قرأتُه، فهو «ملك الهند»، لعبة روائية تجمع بين السلاسة والتشويق والغموض اللذيذ، عن زكريا مبارك الذي يعود إلى بلاده ويُقتل.
تتعدد الاحتمالات، ولكل احتمال قصة. ما يلفت في الرواية أن الشخصيات ثرية، قوية، تشبه المكان والبيئة.
ومتأخراً 18 عاماً، ما عدا السهو والغلط، عثرت على كتاب Le Périple de Baldassare أو «رحلة بالداسار» للكاتب الفرانكوفوني، وعضو الأكاديمية الفرنسية أمين معلوف، وبالداسار هو تاجر تحف وكتب. والكتاب يتنبأ بنهاية العالم سنة 1666. ويوم غرّه عرض قدمه موفد فرنسي مرّ عليه ورحل سريعاً، فباعه الكتاب. في اليوم نفسه مات واهبه. وتبدأ رحلة بالداسار لاسترجاع الكتاب، ولذة قراءة «رحلة بالداسار» أنها تضيء على حقب وعلى ما كان يُطرح حول نهاية العالم. الحمد لله عشنا إلى الآن وقرأنا ما كان.
ومن الكتب التي قرأتها دفعة واحدة، بليلة طويلة «ليلى والحمل» للكاتب الأردني فادي زغموت. استبدل بالذئب حملاً. والحمل هو العشيق الخاضع لرغبات سيدته. يروي زغموت بلسان ليلى حكاية امرأة تعاني تناقضات المجتمع الشرقي الذكوري بكل ظلمه وعنفه وتتمسك بالمساواة. تموت وهي تمارس أقصى السادية الجنسية مع طارق المستسلم انتقاماً من الزوج فراس، الذي يختصر في سلوكه طبائع الرجل الشرقي. رواية كتبها زغموت من منظور نسوي متطرف، فيها المنحى البوليسي، وفيها ما يدعوك ألا تفلت دفتي الكتاب قبل الوصول إلى الصفحة الأخيرة.
ولمن يهوى مثلي الكتب المغضوب عليها، والكتّاب المشاكسين، أنصحه برواية «جمهورية كأن» للكاتب علاء أسواني. في روايته هذه يعري أسواني السلطة التي قمعت ثورة يناير، ويكشف زيف الإعلام الممسوك من السلطة وتحالف السلطة السياسية والدينية الذي أحبط الثورة. يضيء الأسواني على شخصيات تكاد تكون نسخاً طبق الأصل عن شباب آمنوا بالتغيير وواجهوا الرصاص بصدور عارية وعن رجال أمن مرتبطين بشبكة مصالح. «جمهورية كأن» رواية موجعة نابضة بالحماسة ومشوِقة ومحبطة في آن. تكسر المحظورات وهل أجمل من ممارسة الكتابة من دون تحفظ أو مساحيق تجميل؟
- كاتب وإعلامي لبناني
- ثناء عطوي: في صُحبة العربية والتاريخ العالمي وهشام شرابي
في صُحبة العربية وأصولها اللغوية، وما يُصدره مشروع نقل المعارف من كتبٍ نوعية، وفكر عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي وعمق مأساة النكبة ومسار القضية، أمضي صيف بيروت الملتهب. إنّ المُعالجة اللغوية التي يطرحها المؤرّخ والأكاديمي اللبناني الدكتور أحمد بيضون «في صُحبة العربية»، الصادر عن دار الجديد في بيروت، تندرج ضمن سياق البحث في فلسفة اللغة وسلطتها وشروطها الملزمة، وشعرية هذه اللغة وموسيقاها، والمبارزة المتمادية ما بين الفصحى والعامّيات فيما سماه «جلاء الفصحى عن مناطق المشافهة». لقد عَكَف اللغوي العريق على تحريك كتابه حركة حركة، كي تبقى العربية لغة أصيلة ومكتملة، وقدّم درساً نموذجياً في التعامل مع هذه اللغة، واصفاً استبعاد ما يُسمّى الحركات، أي الصوائت القصيرة من النصوص العربية المطبوعة، «بالفداحة والعيب»، معتبراً أنّها ضَربة أنزلها بالعربية اعتبارُ الكلفة التجارية وطلبُ السرعة في الإنجاز، علماً بأن القُرْآن لا يزال يُطبعُ مُحرّكاً، وَهَذا أَمر يفرض نفسه جزئياً في طباعة المعاجم أيضاً. وقد استعادَت هذا التقليد الحميد، دار بيروتية رفيعة العلمِ والذوْق هي دارُ «الجديد».
في كتابه «التاريخ عند نهاية التاريخ العالمي» يقدّم المؤرّخ الهندي راناجيت غها Ranajit Guha نقداً لفلسفة التاريخ بالمفهوم الهيغلي، ورفضاً لاختزال التاريخ البشري على قياس الدول والإمبراطوريات والعظماء؛ إذ لطالما صودرت تواريخ الشعوب المستَعمَرة وحُجبت خدمة لأهداف تدعمها فلسفة لا إنسانية للتاريخ، وهذا يعني أنّ التاريخ ليس أرض حياد، وإنّما موضوع نزاعٍ وهيمنة.
يدعو راناجيت في كتابه الصادر عن «مشروع نقل المعارف» التابع لهيئة البحرين للثقافة والتراث، الذي يشرف عليه المفكّر التونسي الطاهر لبيب، المؤرّخين للذهاب أبعد من التاريخ العالمي المركزي الأوروبي، والتعلّم من الأدب والأنثروبولوجيا والفنون، كيف يُضمّنون سرديّاتهم أنواع ماضي تلك الشعوب التي توصف بأنّها لا تاريخ لها. وهو بدلاً من أن يُعيد إنتاج التاريخ من الأسفل، يسعى إلى الانخراط النشِط في الحاضر السياسي، ما بعد الاستعماري، مستعيناً بتبصّرات أنطونيو غرامشي وماو تسي تونغ.
«الجمر والرماد» سيرة شيّقة للمفكّر الفلسطيني هشام شرابي، الذي ترك وطناً في مهبّ ريح، مغادراً مطار اللدّ في فلسطين سنة 1947 في طريقه للدراسة في جامعة شيكاغو، لكن ما إن استقلّ الطائرة، حتى غابت يافا عنه إلى الأبد، ولم يعد يُرى من فلسطين إلا شاطئ يتلاشى، وبرتقال وزيتون وتراب مغسول بالدمّ. غادر هشام شرابي بلاده، وعصابات الهاغانا يتهيّأون لاحتلال بلاد العرب وطرد سكّانها الأصليين، وعندما عاد إلى بيروت سنة 1978، التقى زعيم الحزب السوري القومي المناضل أنطون سعادة، الذي بادره بالقول: «إنّ القيادات الحاضرة أوصلتنا إلى هذه الكارثة؛ فكيف يكون الإنقاذ على أيديها.
إنّ الصراع المسلّح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين». يختتم شرابي كتابه الصادر عن دار «نلسن» بهذه العبارات المؤثّرة: «أكتب هذه الكلمات والاحتلال الإسرائيلي ما زال قائماً، والأنظمة الأبوية تهيمن على أرض الواقع، والإحباط واليأس يخيّمان على الوطن العربي كلّه، لكنّ الظلام لا تشتدّ حلكته إلّا عندما يقترب الفجر». (بيروت 1998).
- كاتبة وإعلامية
- هالة كوثراتي: قراءات حرة
هذا الصيف قراءاتي حرّة إلى حدّ ما، أي أنها لا ترتبط بواجب مهني بعينه. وفي هذه الأيام أقرأ كل شيء، كل ما تقع عليه عيناي. كما أنني أعيد قراءة كتب أذكر أنني تأثرت بها لأسباب مختلفة إلا أنّ وطأة مرور الزمن أفقدتني تفاصيلها. البارحة في القطار أعدت قراءة رواية «حارث المياه» لهدى بركات لأنني أردت العودة إلى خريطة المكان، وسط بيروت، كما صوّرها نقولا (الشخصية الرئيسية) في الرواية: قلب البلد المحروق الذي تحوّل واحة سكينة.
انتهيت أخيراً أيضاً من قراءة قصص نجيب محفوظ القصيرة التي مثّل صدورها في كتاب «همس النجوم» مفاجأة سارة. السحر المحفوظي محفوظ في هذه القصص، رغم كل ما كُتب عن أنها لا تطابق مستوى أعمال الأديب الراحل صاحب نوبل للآداب.
وقبل «همس النجوم» قرأت رواية «Milkman» لآنا برنز مكتشفة تفاصيل حياة صبية تعيش أيام الحرب الأهلية في آيرلندا الشمالية. تغيب الأسماء عن الرواية: هم ونحن، هنا وهناك، أحياؤهم وأحياؤنا، أسماؤهم وأسماؤنا، أسماؤهم التي لا تشبه أسماءنا... وتدور الأحداث في فلك ضيق خانق مؤثر يصوّره نفس سردي مضطرب للتعبير عن تشوّهات مجتمع يعاني قبح الحرب. هذه التشوّهات نفهمها نحن ورثة الحرب الأهلية اللبنانية.
بفضول انكببت على قراءة كتاب الروائي الساذج والحسّاس الذي يضمّ محاضرات عن الكتابة الروائية ألقاها الروائي التركي أورهان باموق في هارفرد عام 2009. يشرّح باموق في هذا الكتاب علاقته بالكتابة، كاشفاً بعض الأسرار التي قدّمت له «وصفة» النجاح. كما يغوص في كتب أثرت في اختياره التركيز على الكتابة بدلاً من الرسم (كان يرسم في البداية ثم تحوّل إلى الكتابة)، فيعيد، بشغف، رسم ملامح شخصيات روائية رافقت صباه مثل آنا كارنينا وإيما بوفاري.
بعد الحفر عميقاً في معاني الفقد والموت والكلمات التي هي الشعر في اكتماله وصفائه وصراحته تماماً كما تجلّى في ديوان عباس بيضون «الحداد لا يحمل تاجاً»، أقرأ الآن كتاب Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment لفرنسيس فوكوياما الذي يحلّل من خلاله أسباب صعود سياسة الهوية، في الغرب خصوصاً، عارضاً التطورات السياسية والاقتصادية التي ساهمت في بروز اليمين السياسي.
- روائية لبنانية