الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي

«جدار الفصل» والرسوم الجمركية على خلفية سياسات اليمين واليسار

الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي
TT

الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي

الهجرة الأميركية اللاتينية تحدٍ مزدوج لواشنطن ومكسيكو سيتي

في التاسع عشر من يونيو (حزيران) الماضي، وقف كيفن ماكلينان، رئيس قسم الهجرة في وزارة الأمن القومي بالولايات المتحدة، أمام لجنة الرقابة والإصلاح التي تعد أهم لجان التحقيق والمساءلة في الكونغرس الأميركي، ليستمع إلى رئيس اللجنة الديمقراطي إليجا كامينغز وهو يؤنبه على التقصير في معاملة المهاجرين غير الشرعيين «المتكدسين كالماشية» في مراكز الاعتقال على الحدود مع المكسيك، ويفتقرون إلى أدنى الخدمات الإنسانية والعناية الصحية.
كامينغز قال يومذاك في تأنيبه: «... ماذا يعني أنكم تقومون بما في وسعكم والعالم بأسره يشاهد صور الأطفال ينامون على برازهم؟! كيف يمكن أن نقبل بذلك؟! ألهذا الحد قد وصلنا؟! سئمت سماع مثل هذا الكلام الفارغ... هذه لم تعد مسألة هجرة فحسب، بل باتت قضية عنصرية!».
كان ذلك مؤشراً آخر على مدى الخطورة التي بلغتها أزمة الهجرة في الولايات المتحدة، وعمق تداعياتها الاجتماعية في إحدى أكثر المراحل السياسية اضطراباً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
عندما بدأ دونالد ترمب مسيرته الحافلة بالمفاجآت إلى سدّة الرئاسة الأميركية في عام 2016، كان فريقه الاستراتيجي، الذي أسسه وأشرف عليه ستيف بانون، قد حدد له مجموعة من الأهداف ليصوب إليها سهام حملته الانتخابية الهجومية، ويعلن قائمة طويلة من الوعود. تلك الوعود بدت عرقوبيّة في حينه، لما كانت تحمله من خروج عن المألوف ومجازفة في تحقيقها، غير أنه تبيّن فيما بعد أنها تشكل الركائز الأساسية لسياسته التي قلبت معظم الموازين والأعراف السائدة، وأحرجت حلفاء الولايات المتحدة وأصدقاءها أكثر من خصومها وأعدائها.
المكسيك، «الجارة الجنوبية» اللدود، كانت على رأس قائمة العناوين التي بنى عليها ترمب حملة أدهشت كثيرين بما حملته من تهديد ووعيد للمهاجرين والأقليات في بلد تأسس عليهم، وتشكلت منهم هويته.
بما يخص المكسيك، أعلن ترمب اعتزامه بناء «جدار فصل» على طول الحدود الجنوبية لأميركا، والإصرار على أن تتحمل المكسيك تكلفته، كما تعهد بطرد المهاجرين المقيمين بصورة غير شرعية في الولايات المتحدة، وخفض المساعدات الاجتماعية للوافدين، وتشديد إجراءات الدخول وشروط طلب اللجوء إلى الأراضي الأميركية.

«الجدار» مع المكسيك
وبعد وصول ترمب إلى البيت الأبيض، وتأكيده على أن الوعود الانتخابية ما كانت مجرد شعارات جذابة لاستقطاب التأييد الشعبي، بل هي عناوين رئيسة للسياسة التي يعتزم تطبيقها، كانت المكسيك تعد لانتخاب أول رئيس يساري في تاريخها الحديث، وهو الرئيس مانويل لوبيز أوبرادور. وبينما كانت المكسيك تتهيأ للاتجاه يساراً، كانت واشنطن تتوقع أن رياحاً جديدة ستهب عليها من حدودها الجنوبية التي تمتد على أكثر من 3 آلاف كيلومتر، وتتجهز للتحرك في الوقت المناسب من أجل ضبط الإيقاع مع «جارتها» التي قال رئيسها في أحد مهرجاناته الانتخابية عن العلاقة مع الولايات المتحدة: «سنعلمهم من الآن كيف يتعاملون معنا باحترام وندية».
الفريق الاستراتيجي الذي كان يحيط بـ«المرشح» ترمب كان يدرك أن موضوع الهجرة، وبالذات موضوع المهاجرين من أميركا اللاتينية، غدا قنبلة موقوتة بالنسبة للحريصين على «النقاء العرقي» للولايات المتحدة... الذين يشكلون القاعدة الانتخابية التي أوصلت ترمب إلى البيت الأبيض. وكان هذا الفريق يعرف أيضاً، من الاستطلاعات والدراسات الاجتماعية، أن نسبة عالية من المهاجرين الذين يقيمون بصورة شرعية في الولايات المتحدة، ومن المتحدرين حديثاً من أصول أجنبية، يؤيدون سياسة أكثر تشدداً في إجراءات اللجوء والهجرة. ومن هنا كان الإصرار على جعل موضوع «الجدار» أحد العناوين الرئيسية لحملة ترمب، ثم محوراً أساسياً في حربه الداخلية مع خصومه الديمقراطيين، قبل أن «يكتشف» سلاح القصف الضريبي الذي صار أداته المفضلة لتحقيق أهدافه في السياسة الخارجية.

الحاجة المكسيكية بالأرقام
يوم 5 يونيو (حزيران) الفائت، وبعدما تيقن الرئيس الأميركي من استحالة تنفيذ وعده ببناء «الجدار» على الحدود مع المكسيك بسبب المعارضة الشديدة للديمقراطيين الذين صاروا يسيطرون على مجلس النواب، أعلن أنه سيبدأ بفرض رسوم جمركية تصاعدية على الواردات المكسيكية، ما لم تبادر المكسيك إلى اتخاذ التدابير اللازمة لوقف تدفق المهاجرين الآتين من دول أميركا الوسطى عبر أراضيها إلى الولايات المتحدة.
لم يترك إعلان ترمب المفاجئ أي مجال للمناورة أو الرد بالمثل أمام المكسيك التي تعرف جيداً أن أرقام العلاقة مع «جارتها» الكبيرة تجعل من الولايات المتحدة قدراً محتوماً لا بد من التعايش مع مقتضياته، والتكيف مع مزاجيته وشروطه. فالمكسيك هي الدولة المصدرة التاسعة في العالم، بقيمة إجمالية قدرها 418 مليار دولار أميركي سنوياً، منها 307 مليارات إلى الولايات المتحدة. وهذا يعني أن ثلاثة أرباع الدم الذي يجري في عروق الاقتصاد المكسيكي مصدره السوق الأميركية التي تأتي منها أيضاً تحويلات مالية صافية لعائلات المهاجرين تعادل 11 في المائة من إجمالي الناتج القومي المكسيكي، ناهيك عن أن مفاتيح الاستثمارات الأجنبية التي تحتاج إليها المكسيك موجود معظمها في واشنطن.
وهكذا، انحنت الحكومة المكسيكية أمام «العاصفة»، وسارعت إلى إرسال وفد للتفاوض مع الإدارة الأميركية، قبِل بمعظم شروطها لوقف تنفيذ إجراءات فرض الرسوم الجمركية التصاعدية على الصادرات المكسيكية. وكان الشرط الأميركي الوحيد الذي أصرت المكسيك على رفضه اعتبارها «دولة ثالثة آمنة» يفترض بها، بموجب الاتفاقية العالمية للهجرة، أن تستقبل المهاجرين الذين تُرفض طلبات لجوئهم إلى الولايات المتحدة. لكن الشروط الأخرى التي فرضتها واشنطن، مثل عدم البت بطلبات اللجوء إلا في الحالات التي تكون هذه الطلبات قد رُفضت في دولة أخرى، يجعل من المكسيك عملياً «دولة آمنة» يفترض بها أن توفر للمهاجرين العابرين، أو المرحلين من وراء الحدود، فرص العمل والتعليم والعناية الصحية... ريثما تبت الأجهزة الأميركية بطلباتهم. كذلك يتوجب على المكسيك أن تتدبر أمر الذين ترفض السلطات الأميركية دخولهم إلى أراضيها.

مخاوف مكسيكية حقيقية
في الواقع، تحذر أوساط سياسية في المكسيك من أن القبول بكل الشروط التي فرضتها واشنطن، والتي يمكن أن تضاف إليها شروط أخرى في حال العودة إلى طاولة المفاوضات إذا فشلت التدابير الأولى في الحد من تدفق المهاجرين بعد 90 يوماً كما يلحظ الاتفاق، من شأنه أن يحقق الحلم الذي يراود الحكومات الأميركية منذ عقود بتحويل المكسيك، رغماً عنها، إلى «بلد مستضيف للمهاجرين» من البلدان المجاورة. وللعلم، تتوقع المنظمات الدولية أن ترتفع أعدادهم بشكل كبير خلال السنوات المقبلة.
وكانت الحكومة المكسيكية قد أعلنت في مايو (أيار) الماضي عن خطة للتنمية المتكاملة في أميركا الوسطى، بالتعاون مع اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة في أميركا اللاتينية، بهدف التشجيع على الاستثمار في مشاريع لمكافحة البطالة، ومعالجة أسباب الهجرة في بلدان المصدر، مثل غواتيمالا وهندوراس والسلفادور. ولقد تعهدت الولايات المتحدة بالمساهمة في تمويل هذه الخطة التي تبلغ تكاليفها 11 مليار دولار على مدى 5 سنوات، وتشارك المكسيك في تمويل ثلثها لتنفيذ مشاريع في المناطق الحدودية مع هذه البلدان. وتشمل هذه الخطة إنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، وتوسيع شبكات توزيع الطاقة في المنطقة، وبناء شبكة جديدة للطرقات السريعة، ومد خطوط أنابيب لنقل الغاز من خليج المكسيك إلى المنطقة الصناعية في هندوراس، وكلها مشاريع ينتظر أن توفّر عشرات آلاف فرص العمل خلال فترة تنفيذها، ونحو 7 آلاف فرصة عمل دائمة في المرحلة التالية.
وراهناً، تحاول الحكومة المكسيكية إقناع واشنطن بضرورة الإسراع في تنفيذ هذه الخطة التي قال عنها الرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور إنها «السبيل الحضاري الوحيد لمعالجة هذه الأزمة من جذورها، قبل أن تتفاقم وتنفجر في وجوهنا جميعاً».
وكانت المكسيك قد سارعت حقاً، بعد تهديدات واشنطن، بنشر آلاف الجنود من «الحرس الوطني» على حدودها الشرقية مع غواتيمالا، لمنع تدفق المهاجرين الذين كانوا يعبرون أراضيها في قوافل بشرية طويلة باتجاه الولايات المتحدة. كما تعرضت المكسيك لانتقادات شديدة من منظمات دولية تدافع عن المهاجرين وعن حقوق الإنسان بسبب «العسكرة المُفرطة» لحدودها، وتجريم العابرين لأراضيها، عوضاً عن اتخاذ إجراءات لمعالجة أسباب الهجرة في «مثلث الشمال» الذي يسوده العنف والبؤس والفقر. وتحذر المنظمات الدولية من تحول هذا «المثلث» إلى بركان اجتماعي قد ينفجر في أي لحظة، بينما تجهد المنطقة بصعوبة فائقة لمواجهة أزمة النزوح الكثيفة من فنزويلا.

وتيرة هجرة... وتهم
وما يستحق الإشارة أن وكالة الجمارك وحماية الحدود في الولايات المتحدة كانت قد أفادت بأنها أوقفت 133 ألف مهاجر دخلوا الأراضي الأميركية عبر الحدود المكسيكية في شهر مايو (أيار) الماضي وحده، أي بزيادة 32 في المائة عن الشهر السابق. وأفادت السلطات المكسيكية من ناحيتها بأنها أوقفت 45 ألف مهاجر وأعادتهم إلى بلدانهم.
وبالمناسبة، كانت الإدارة الأميركية قد احتجت بقوة على ما سمته سياسة «الأبواب المفتوحة» التي أعلنها الرئيس المكسيكي اليساري بعد تسلمه مهامه مطلع هذا العام، والتي كانت - في رأي واشنطن - من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تزايد تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة. ولقد رصدت الأجهزة الأميركية خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، إضافة إلى المهاجرين من أميركا الوسطى، أعداداً كبيرة من المهاجرين وصلوا من الكاميرون والكونغو والهند وبنغلاديش وكوبا وهاييتي. وأيضاً لاحظت هذه الأجهزة أن عدد الأطفال بين المهاجرين قد ازداد بنسبة 81 في المائة، وازداد عدد النساء بنسبة 88 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الفائت.
ولكن يوم الأحد الماضي، تنفست الحكومة المكسيكية الصعداء بعد التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في نهاية المباحثات التي أجراها مع نظيره المكسيكي مارسيلو إيبرارد في مكسيكو، حيث قال بومبيو: «بعد 45 يوماً على توقيع الاتفاق بين الحكومتين الأميركية والمكسيكية للحد من التدفق الكثيف للمهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود المشتركة باتجاه الولايات المتحدة، سجلت أجهزة المراقبة تراجعاً في عدد المهاجرين بنسبة 29 في المائة، مما يدل على أن السلطات المكسيكية قد قامت بخطوات مهمة لتنفيذ الاتفاق».

تحدي الاستقرار الداخلي
ومن جهته، أكد الوزير المكسيكي أن بلاده ترفض مبدأ اعتبارها «دولة ثالثة آمنة»، بالمفهوم المتداول في عالم الهجرة، وأردف أنها ستواصل تطبيق سياسة اللجوء التقليدية، بغض النظر عن القواعد الجديدة التي ينص عليها الاتفاق الموقع مع الولايات المتحدة. لكن من الواضح أن المكسيك تواجه صعوبة كبيرة في تطبيق هذه السياسة، بعدما تضاعف عدد الذين يطلبون اللجوء إلى أراضيها ثلاث مرات في أقل من شهرين، وفي ظل الإجراءات التقشفية الصارمة التي فرضها الرئيس لوبيز أوبرادور لخفض العجز الكبير الذي تعاني منه الخزينة المكسيكية. ويخشى مراقبون حالياً أن تتحول أزمة المهاجرين من أميركا الوسطى نحو الولايات المتحدة إلى أزمة اجتماعية أخرى متفجرة في المكسيك، خصوصاً أن المهاجرين الذين يدخلون عبر الحدود مع غواتيمالا ينتظرون فترات طويلة في الولايات المتاخمة (أقصى جنوب شرقي البلاد)، وهي أفقر الولايات في المكسيك وأكثرها عنفاً، مثل ولاية تشياباس، قبل أن تبت السلطات في طلباتهم.
ومن جهة أخرى، تبدو حكومات غواتيمالا وهندوراس والسلفادور عاجزة عن إدارة هذه الأزمة بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة فيها، وانتشار العنف الذي يدفع بعائلات كاملة إلى الهجرة، سعياً وراء الأمان وسراب الحياة الأفضل. أما في الولايات المتحدة، فبات من المؤكد أن الهجرة ستكون أحد المحاور الرئيسية، بل الرحى التي ستدور حولها حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة، بينما يواصل الرئيس دونالد ترمب رشّ الملح على الجرح العرقي الذي يكتشف الأميركيون من فترة لأخرى أنه لم يندمل بعد.

فسيفساء المجتمع الأميركي... وتعداد المهاجرين
> مجتمع الولايات المتحدة من أكثر المجتمعات تمازجاً على الصعيد العرقي في العالم، والهجرة التي تُعتبر من سماته الأساسية كانت مثار جدل في مراحل عدة من تاريخه.
في عام 1870، كانت نسبة المهاجرين 9 في المائة في المجتمع الأميركي، وبلغت 15 في المائة في عام 1910. وعندما قررت الحكومة وضع حدود قصوى لعدد المهاجرين من بلدان معينة، تراجع العدد إلى 4 في المائة في عام 1970. لكن في أواسط ثمانينات القرن الماضي، أصدرت الحكومة الأميركية عفواً عاماً عن كل المقيمين بصورة غير شرعية، وأصدرت قانوناً يسمح بلم شمل العائلات، فعاد العدد للارتفاع إلى 14 في المائة في عام 2017.
جدير بالذكر أنه في عام 1950، كانت نسبة المتحدرين من أصول أميركية لاتينية 1 في المائة من مجموع سكان الولايات المتحدة، لكنه ارتفع إلى 10 في المائة في عام 1995، ليصل إلى 14.6 في المائة العام الماضي. ومن المتوقّع أن تبلغ هذه النسبة 24.5 في المائة في عام 2050، في حين تقدر بعض الجهات أنها قد تصل إلى 30 في المائة.
في المقابل، في عام 1910، كان الأوروبيون يشكلون 90 في المائة من المهاجرين الذين يصلون إلى الولايات المتحدة. أما اليوم، فإن نسبتهم لا تتجاوز 10 في المائة. وبتفصيل أكثر، ففي القرن الماضي كانت الغالبية الساحقة من المهاجرين تأتي من أوروبا، موزعة على الشكل التالي: 19 في المائة من ألمانيا، 12.5 من النمسا والمجر، و12 في المائة من روسيا، و10 في المائة من آيرلندا، و10 في المائة من إيطاليا، و9 في المائة من كندا، و9 في المائة من بريطانيا، و9.3 من البلدان الاسكندنافية. أما اليوم، فإن غالبية المهاجرين تأتي من دول أميركا اللاتينية وآسيا.
ونشير إلى أنه في عام 1910، كانت نسبة المكسيكيين بين الأجانب المقيمين بصورة شرعية في الولايات المتحدة لا تتجاوز 2 في المائة، أما اليوم فقد بلغت نسبتهم 27 في المائة.
وعلى صعيد التوزع داخل البلاد، فإن معظم الولايات الكبرى يزيد عدد الأميركيين اللاتينيين بين سكانها على 20 في المائة، وقد أصبحوا يشكلون ما لا يقل عن 5 في المائة في ولايات الجنوب الشرقي التي نادراً ما كانت تصل إليها موجات المهاجرين في الماضي.
كذلك تفيد الإحصاءات الأميركية الرسمية بأن عدد المهاجرين الذين يصلون اليوم إلى الولايات المتحدة هو نصف عدد الذين كانوا يصلون مطالع القرن الماضي، لكن عدد المقيمين الذين ولدوا في الخارج ما زال كما هو، وذلك لأسباب عدة، من بينها تدني نسبة الإنجاب عند المولودين في الولايات المتحدة. ثم إن أكثر من 700 ألف أجنبي يحصلون كل عام على الجنسية الأميركية، بينما يقدر عدد الذين يقيمون بصورة غير شرعية في الولايات المتحدة حالياً بـ11 مليون نسمة.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.