من التاريخ: بيليساريوس العظيم

تقول الآية الكريمة: «غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون» لتعكس صراعا كان سائدا خلال القرنين السادس والسابع الميلاديين بين الدولة البيزنطية التي كانت العرب تطلق عليها لفظ «الروم»، وبين الفرس، فهذه كانت سنة العلاقة بين هاتين الإمبراطوريتين الكبيرتين؛ فالأولى كانت وريثة الدولة الرومانية العظيمة بعدما نقل الإمبراطور قسطنطين العاصمة إلى إسطنبول، وقد تبادل الطرفان الانتصارات، ولكن أحدا لم يستطع القضاء على الآخر. وبحلول مطلع القرن السادس الميلادي بدأت فارس تتفوق تدريجيا على الدولة البيزنطية، وكانت منطقة أرمينيا والأناضول أحد المسارح المهمة التي دارت عليها رحى هذه الحرب. وعندما بدأت دولة بيزنطة تستعد لتلقي الهزائم ظهر قائد مغوار ذو عبقرية فذة في تاريخ الحروب والصراعات وهو القائد بيليساريوسBelisarius، وقد تميزت قيادته العسكرية التي لم تتكرر حتى اليوم، وفقا لبعض المؤرخين العسكريين، بعنصرين أساسيين: الأول قدرته على تعبئة موارده العسكرية المحدودة جدا للوصول لأقصى استفادة منها، والثاني تحقيق أعلى معدلات للانتصارات من خلال تطبيق التكتيكات الدفاعية؛ ففي أغلبية معاركه التي انتصر فيها كان دائما يلجأ للدفاع ليلج منه إلى الهجوم والانتصار مستغلا تحركات العدو وأخطاءه بعدما يضع خطته بشكل محكم.
لقد رمت الأقدار بهذا الشاب الصغير وهو في العشرينات من عمره أمام قوة فارسية كبيرة تقدر بنحو 40 ألفا في مدينة «دارا» بأرمينيا، وكان تحت تصرفه نصف هذا العدد وأغلبيتهم من المجندين حديثا بلا خبرة عسكرية، وكانت قوته تتركز في سلاح الفرسان المدرب تدريبا عاليا، وقد آثر القائد الحديث أن ينظم دفاعات المدينة من خلال حفر خندق حولها على بعد مسافة تسمح لدفاعاتها بحماية قواته أمام هجمات العدو، وقد ابتكر هذا الشاب العبقري فكرة جديدة تمثلت في شق خنادق إضافية بزوايا قائمة على الخندق الرئيس حول المدينة، وركز فرسانه على الجناحين حتى يستطيع أن يثني الجيش الفارسي عن الهجوم على المشاة المتمركزين في الخنادق، وهو ما سمح له بمعادلة الخلل العددي الكبير لحجم قواته مقارنة بالفرس، فأصبح القائد الفارسي يخشى الدخول في هجوم مفتوح على جيش بيليساريوس. وقد أرسل الشاب رسالة للقائد الفارسي يدعوه فيها للسلم، وكان مما قاله فيها: «إن أول نعمة لنا هي السلام.. والقائد الفذ هو الذي يستطيع أن يولّد السلم من الحرب»، ولكن القائد الفارسي أخذها على أنها إشارة على الضعف فأراد استغلالها، فاندفع نحو الفخ الذي كان معدا له، وبالفعل دخلت فيالق المشاة الفارسية بين رحى المشاة والفرسان البيزنطيين، وفي مدة قليلة استطاع بيليساريوس أن يلحق بالفرس هزيمة ساحقة من خلال الدفاعات المتقنة وعدم منح عدوه مساحة للمناورة وفرض نمط حرب لصالحه.
ونتيجة لهذا النصر، قام الإمبراطور جاستنيان بتعيين بيليساريوس قائدا عاما للقوات في الشرق أمام الفرس وهو دون الثلاثين من عمره، حيث استطاع أن يخلق انتصارات من العدم، وكان ضعف قواته هو السلاح الذي تعود المراهنة عليه، فكان يضع خطته الحربية على أساس ذلك في عبقرية متناهية، وهو التكتيك نفسه الذي استخدمه الرجل خلال حملته في شمال أفريقيا ضد قبائل «الفاندالز» Vandals وهي من القبائل «الجرمانية» التي احتلت شمال أفريقيا عقب الضعف الروماني، وقد كانت قوة بيليساريوس ضعيفة لا ترقى إلى 10 آلاف جندي و5 آلاف فارس. وبهذه القوات المحدودة بدأ مواجهاته مع هذه القبائل المحتلة، وقد استغل القائد انشغال الأعداء بإخماد بعض الثورات وبدأت يضغط بسرعة نحو عاصمتهم قرطاج، وذلك حتى لا يسمح لهم بتجميع المائة ألف جندي الذين بحوزتهم أمام قواته المتواضعة، وقد تحرك بسرعة البرق مرسلا أسطوله لمحاصرة المدينة، وبالفعل استطاع أن يُخضع المدينة لقوته في الوقت الذي كان جيشها منتشرا في المتوسط وشمال أفريقيا، وبعد استيلائه عليها أعاد بناء دفاعاتها مستخدما عاصمة العدو ضده، وقد كان لهذا التكتيك أثره المباشر في إضعاف الروح المعنوية للعدو، فاستطاع أن يصد هجماتهم، ثم استغل ضعف الروح المعنوية من أجل القيام بهجوم مضاد أدى إلى تمزيق قواتهم إربا بعدما خشي العدو مهاجمته لأسباب تتعلق بخشيتهم مواجهة هذا القائد الفذ.
لقد قرر الإمبراطور البيزنطي استغلال الظروف السياسية في شبه الجزيرة الإيطالية من أجل إرسال حملة لإخضاعها لسلطانه، وعقب بعض الانتصارات والهزائم قرر الرجل إرسال القائد الشاب الفذ مرة أخرى، فكُتب على بيليساريوس أن يخوض حربا لضم شبه الجزيرة إلى بيزنطة بدأها بإنزال بحري في جزيرة صقلية، أعقبه العبور منها إلى شبه الجزيرة، وقد استخدم في هذه الحرب تكتيكه المفضل، خاصة أن الظروف خدمته عندما آثر ملك «الجوثز» Goths» أن يُنهي الصراعات على جبهته الشمالية بالقضاء على هجمات قبائل «الفرانك Franks» أولا معتمدا على ضعف حجم بيليساريوس، تاركا في روما قوة ضعيفة يستهان بها أمام هذا القائد الفذ، ولكنه سرعان ما أدرك خطأه الفادح، فالخطر لم يكمن في الشمال؛ بل في الجنوب، ولكن بيليساريوس سار مسرعا نحو الشمال في حركة سريعة مشابهة لما قام بها في شمال أفريقيا وذهب إلى روما مباشرة واحتلها، واستطاع أن يعيد تحصيناتها تمهيدا لمواجهة الثقل الأساسي لجيش العدو، وعندما واجه عدوه الجديد الذي يفوقه في العدة والعتاد بما يقرب من 10 أضعاف، فإن تحصيناته العبقرية حمته بشكل ملحوظ، وعندما بدأت الإمدادات تأتيه، قرر أن يشن هجمات تدريجية تكتيكية من أجل إضعاف خطوط إمداد العدو، وبالصبر والهجمات المرتدة الممنهجة استطاع أن يجعل العدو يشعر بعدم جدوى الاستمرار، مما دفعهم للتحرك شمالا دون أي أمل في استعادة روما أو الجنوب الذي دان لعبقرية هذا القائد الفذ بأقل التكلفة.
وإزاء هذه العبقرية، بدأ الإمبراطور جستنيان يخشى من نفوذ قائده بعدما ذاع صيته في أنحاء الإمبراطورية كلها، فلقد بدأ الشعب ينظر له على أنه السيف الحامي للإمبراطورية. وحتى مع ضيق الإمبراطور به، فإن تحرك الفرس مرة أخرى ضد الإمبراطورية دفعه لإعادة بيليساريوس على رأس الجيش الشرقي لمواجهة فارس، حيث كان كسرى قد بدأ يتوغل في الشرق ويمد نفوذه إلى الشمال في البحر الأسود، وهنا قرر بيليساريوس اللجوء لتحرك عبقري، حيث قام بالتعاون مع قبائل الغساسنة، الذين كانوا حلفاء الدولة البيزنطية، بشن هجمات في العمق الفارسي بالقرب من التقاء النهرين؛ دجلة والفرات، مما جعل كسرى يتراجع على الفور خشية ضرب خطوط إمداداته، وهكذا نجح بيليساريوس مرة أخرى وبأقل التكلفة في حماية أراضي الإمبراطورية. وعندما عاود كسرى هذا الأمر مرة أخرى، أعاد جستنيان قائده بيليساريوس إلى القيادة مرة أخرى، وبالفعل بدأ الرجل حملة دفاعية جديدة عندما عرف أن كسرى يتحرك صوب فلسطين، فقام بتحريك جيشه بمحاذاة شمال الفرات بهدف تهديد إمدادات الجيش الفارسي، وفي خدعة من كسرى حاول من خلالها التعرف على قوة خصمه، أرسل الرجل إلى بيليساريوس بعثة لمناقشة شروط السلام، وعندما أدرك الرجل أن هدف كسرى هو التعرف على حجم قواته، قام قبيل المفاوضات بإعادة توزيع قواته مرة أخرى بشكل يوحي بأضعاف حجمها الأصلي. وقد نجحت الحيلة وبلع كسرى الطعم واستقر على السلم خيارا بديلا لحرب قد تكون تكلفتها كبيرة للغاية. وهكذا أنقذ بيليساريوس الممالك الشرقية من براثن الفرس دون إراقة الدماء، في وقت كانت فيه قواتهم تزيد على قواته بقرابة 8 أضعاف.
وعلى الرغم من الغيرة الشديدة التي سيطرت على الإمبراطور، فإنه لم يجد بُدّا من إرسال بيليساريوس مرة أخرى إلى شبه الجزيرة الإيطالية بعدما استعادت القبائل المحتلة شمال شبه الجزيرة من قبضته، ولكن الإمبراطور تعمد أن يضعف جبهة قائده من خلال إمداده بجيش ضعيف نسبيا لا يتخطى 7 آلاف رجل في مهمة مستحيلة، ولكن عبقرية الرجل سمحت له بتحقيق الانتصارات مرة أخرى، ولكنها لم تكن حاسمة، فدخل في سلسلة من الكر والفر مع خصوم يفوقونه في العدة والعتاد. وعندما أدرك الرجل أن الإمبراطور لن يسمح له بقيادة جيش قوي مرة أخرى قد يستخدم في إزاحة الإمبراطور عن الحكم، استقر رأي بيليساريوس على الاعتزال، مُنهيا تاريخه العسكري العظيم بإرادته احتراما لذاته.
وفي التقدير، فإن هذا النموذج العسكري الفذ يعد تفعيلا لقول المولى عز وجل: «كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّه».