لم تمارس بعض من القبائل والبدو الرحل شمال السعودية قبل أكثر من نصف قرن كرة القدم فحسب، بل شاركوا أيضاً في أبرز الألعاب الأولمبية والغولف والبلياردو، واستمتعوا بالسينما وقراءة الكتب والروايات في المكتبات. كما أنهم أدخلوا مصطلحات إنجليزية إلى مفرداتهم اليومية وأشعارهم بفعل ممارستهم للغة بالمعايشة مع عدد من المهندسين والفنيين الأميركيين الذين تواجدوا في المنطقة لإنجاز المشاريع الصناعية هناك كما يذكر أبناء المنطقة. كل ذلك التطور كان نتيجة متوقعة لدخول الصناعة النفطية للحدود الشمالية من أوسع أبوابها في عام 1947 حين أمر الملك عبد العزيز، مؤسس السعودية، بإنشاء خط الأنابيب «تابلاين»؛ لنقل النفط من شرق السعودية إلى البحر المتوسط.
ومدن عرعر وطريف في منطقة الحدود الشمالية لم تصل إلى مستوى الرياض وجدة فقط، بل أصبحت أشبه بمدن أميركية بصورة مصغرة، وولاية تكساس تحديداً كما يذكر الراحل الدكتور إبراهيم المنيف في كتابه «النفط... الطفرة... الثروة». يتفق مع ذلك أيضاً ماجد المطلق، رئيس النادي الأدبي بمنطقة الحدود الشمالية، وأحد أعيان المنطقة وشاهد على العصر، وذكر المطلق الذي رافق «الشرق الأوسط» في جولتها في أبرز مواقع «التابلاين» بمنطقة الحدود الشمالية، أن «قصة (تابلاين) الموروث الصناعي والإنساني في شمال السعودية نُسجت على أيادي عدد من مجموعة من المهندسين والفنيين الأميركيين وأبناء منطقة الحدود الشمالية من القبائل والبدو الرحل، وكان لها انعكاسات جذرية على السعودية والدول المجاورة لها بشكل عام ومنطقة الحدود الشمالية وابنائها بشكل خاص».
خريطة خط الأنابيب
وعن الاسم يقول المطلق «سمي خط (التابلاين) اختصاراً للكلمة الإنجليزية TAPLINE التي تعد اختصار من Trans - Arabian Pipeline Company واسمها الرسمي باللغة العربية هو خط الأنابيب عبر البلاد العربية (تابلاين)». وكان الخط سينتهي في ميناء مدينة حيفا الفلسطينية، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (1947) غيّر مساره إلى صيدا اللبنانية، وبالتحديد إلى ميناء الزهراني هناك، بحسب ما نشرته دارة الملك عبد العزيز.
7 مدن في طريق «التابلاين»
وتشرح الدارة عن تفاصيل المشروع النفطي بالقول: إن طول «التابلاين» البالغ (1664) كيلومتراً، منها (1300) داخل الأراضي السعودية احتاج حسب دراسات الشركة إلى محطات تقوية الضخ على مسافات متباعدة ومدروسة حتى لا تتوقف أو تضعف عملية التدفق، فأنشأت الشركة سبع محطات، هي من الشرق إلى الغرب «القيصومة، الشعبة، رفحاء، العويقلية، عرعر (بدنة)، حزم الجلاميد، طريف».
وظائف أهل البادية
وعمل على كل محطة مهندسون مختصون وعمال مساندون بُنيت لهم وحدات سكنية وخدمية للإقامة والاستقرار وحماية الأنابيب، مدعمة بأسباب الحياة المتكاملة من مراكز صحية صغيرة، ومطارات، ومدارس محدودة لتعليم اللغة الإنجليزية، وملاعب رياضية لكرة القدم والسلة والطائرة، والبلياردو، والجولف، أسهمت في تقديم جرعات من الترفيه لسكان المدن الشمالية المار بها. ويتذكر المطلق، أن شركة «التابلاين» نظّمت بطولة في لعبة الجولف، شارك فيها منسوبو الشركة من أجانب وسعوديين، وفاز في المسابقة بالستينات أحد الشباب السعوديين في ذلك الحين، أعتقد أنه سليمان عثمان الشمري.
تطور البنية التحتية
ونشأت حول «التابلاين» ومراكز المضخات مدن حضارية أسهمت في حركة توطين البادية التي بدأها الملك عبد العزيز بصفتها أهداف استراتيجية وطنية مهمة في تدعيم الدولة وإنمائها، ومن تلك المدن «عرعر» المركز الإداري للحدود الشمالية التي اكتسبت اسمها من الوادي الذي تقع عليه، كما أنشئت سينما مسائية متاحة للعاملين في التابلاين والسكان، ومكتبة عامة، ومطاعم غربية تقدم وجبات غريبة على أهل المنطقة وقتها، على رأسها الستيك والبرغر والآيس كريم.
وكان لتلك البنية «تأثيرات ما لا بد أنها لحقت بجوانب اجتماعية وثقافية واقتصادية، منها دخول كلمات إنجليزية في معجم الكلام اليومي في المنطقة، وظهور وظائف بمهارات جديدة للمواطنين» كما تشير دارة الملك عبد العزيز.
اللغة الإنجليزية في البادية
حتى أنه كان هنالك أثر واضح على لغة مواطني الحدود الشمالية من أبناء القبائل والبادية؛ إذ إنهم تمرسوا على نطق اللغة من خلال الاحتكاك بالمهندسين والفنيين الأميركيين، والبعض منهم ولا سيما كبار السن كان يتحدث الإنجليزية، لكنه لا يجيد قراءتها وكتابتها، كما يشير عبد الرحمن الهزيمي أحد أبناء الحدود الشمالية.
وعن جوانب الترفيه، يقول ماجد المطلق، إن «التابلاين» وفّر أيضاً قبل 70 سنة لأبناء الحدود الشمالية وباديتها جميع وسائل الترفيه والتسلية من ملاعب للغولف والتنس الأرضي والبيسبول وصالات لعرض الأفلام وملاعب للأطفال، وكذلك بث برامج تلفزيونية عبر قناة خاصة بالشركة، وكذلك أنشأت مطارات صغيرة لخدمة أعمالها بين محطاتها الداخلية والخارجية. ك
ما أن المبــاني في تلك الفترة مجهزة بالتكييف المركزي، والعازل الحراري في الصيف والشتـــــاء، بـــالإضافة إلى الأفران الكهربائية.
3 أعوام للعمل
من جهته، قال المؤرخ والكاتب سعد اللميع في تعليقه المكتوب لـ«الشرق الأوسط»، إن «حكاية (التابلاين) بدأت في أواسط الأربعينات من القرن الماضي بعد اكتشاف النفط بكميات هائلة بشرق المملكة، ووافق هذا الاكتشاف نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، وقرار إعادة إعمار أوروبا بعد الدمار الهائل الذي خلفته هذه الحرب». وأضاف، أنه بتوصية من شركة الزيت العربية الأميركية (أرامكو) صاحبة الامتياز بالتنقيب والبيع، أمر الملك عبد العزيز بإنشاء خط الأنابيب؛ لنقل النفط من شرق المملكة إلى البحر المتوسط. ويصف اللميع تاريخ «التابلاين» بأنه يشكل جزءاً مهماً من تاريخ السعودية وتطورها، وهذا الخط العملاق الذي استمر العمل به أكثر من ثلاث سنوات كان له الفضل الكبير بعد الله في إحياء صحراء جرداء لا يوجد فيها ما يؤهلها لأن تصبح مكاناً جاذباً لاستقرار بشري. وأضاف: «ولا يمكن إغفال التأثيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي أحدثها خط الأنابيب (شركة التابلاين)، وذلك خلال فترة عملها في السعودية، وعلى مدار خمسين عاماً تقريباً».
تحولات فكرية تصاحب «التابلاين»
أما عن تأثير «التابلاين» على سكان الحدود الشمالية، فقال اللميع: إن «أهل الشمال مدينون من الناحية التنموية لشركة (التابلاين) أو (البيب) كما يحلو لهم تسميته، فالخدمات والإغراءات التي قدَّمتها الشركة دفعت الكثيرين منهم إلى الاستقرار، وأن يُلقوا عصا الترحال ويهجروا حياة البادية إلى حياة جديدة بكل المقاييس العصرية، لم يكن أسلافهم قد عاشوها.
تحولات فكرية وثقافية جذرية نقلتهم من حياة الهجير والصحراء اليباب وسمومها، ومطاردة السراب ومواقع السحاب إلى حياة أكثر استقراراً؛ إذ دلفوا للحضارة من أوسع أبوابها، متفيئين بنعيم ظلالها الوارف، أيضاً هذه الخدمات دفعت الكثير من مختلف مناطق المملكة إلى الهجرة إلى الشمال».
لمنطقة الحدود الشمالية الجزء الشمالي من السعودية تاريخ مضيء وقصص ممتعة، كانت حصيلة اندماج فكري بين عدد ليس بالقليل من الصناعيين المهنيين الأميركيين، وأهل شمال المملكة في فترة بدأت من عام 1947 من مدن عرعر وطريف والجوف وسكاكا، جعلت عدداً من الأميركان يذرف الدموع عند مغادرته شمال السعودية عقب انتهاء فترة عمل شركة البترول العربية (التابلاين) كما يذكر لـ«الشرق الأوسط» ناصر الحزيمي أثناء جولتها في الإرث الصناعي في منطقة الحدود الشمالية.
ويفسر تلك العلاقة الإنسانية وردود الفعل من الأميركيين، صديق أحمد، باكستاني الجنسية أحد أبناء العاملين (فني تلحيم) في مشروع «تابلاين» الذي يصف بقوله: «أهل الشمال ذكوراً وإناثاً، كما ذكر لي والدي أناس على الفطرة الإنسانية الجميلة كرم، صدق، وحسن تعامل، وترحيب بالضيف، وكان لمثل تلك الصفات وقعها على أصحاب العيون الزرقاء من الأميركيين الذين بادلوا تلك الصفات بعمل وجهد وتعليم مميز نتج منه عدد من المتعلمين والمهنيين من أهل الشمال؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يخيم الحزن على المهندسين الأميركيين حينما حانت ساعة الصفر لمغادرتهم السعودية».