الجمعيات الخيرية للمشاهير المصريين أثر لا يزول

تحمل أسماء رجال الفكر والدين والسياسة والرياضة

جمعية مصطفى محمود الخيرية تحتفل بمرور 40 سنة على تأسيسها (الصفحة الرسمية للجمعية)
جمعية مصطفى محمود الخيرية تحتفل بمرور 40 سنة على تأسيسها (الصفحة الرسمية للجمعية)
TT

الجمعيات الخيرية للمشاهير المصريين أثر لا يزول

جمعية مصطفى محمود الخيرية تحتفل بمرور 40 سنة على تأسيسها (الصفحة الرسمية للجمعية)
جمعية مصطفى محمود الخيرية تحتفل بمرور 40 سنة على تأسيسها (الصفحة الرسمية للجمعية)

لم يكتف مشاهير الفكر والدين والسياسة في مصر بإبراز أسمائهم عبر إنجازاتهم في مجال عملهم التقليدي، بل اتجه عدد منهم إلى تخليد اسمه عبر الجمعيات والمؤسسات الخيرية، في صياغة حديثة لمفهوم الوقف الخيري الذي كان سائداً في العقود الماضية، إذ اعتاد كثير من المشاهير والشّخصيات العامة في فترات ماضية عمل وقف خيري لمساعدة أهالي منطقتهم أو تقديم الدعم لهم، ومع التغيرات الاجتماعية والقانونية أصبحت الجمعيات الخيرية هي الصورة العصرية لاستمرار الأثر الإنساني والاجتماعي للمشاهير في مختلف المجالات، فمن جمعيتي «الحصري»، و«مصطفى محمود» في محافظة الجيزة، ومروراً بـ«عبد القادر حاتم» في مدينة القاهرة، حتى جمعية «محمد صلاح»، تواصل تلك الجمعيات تقديم خدماتها يومياً للمواطنين المصريين.
في مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة)، تم إنشاء جمعية «الشيخ الحصري للخدمات الدينية والاجتماعية»، في ميدان يحمل اسم الشيخ الحصري، الذي يعتبر من أوائل الذين سجلوا القرآن الكريم بصوتهم، ومن مؤسسي إذاعة القرآن الكريم، وتُقدم الجمعية الخدمات الطبية عبر العيادات الملحقة بمسجد الحصري، وخدمات تعليم دينية، إضافة إلى مساعدة الأيتام والفقراء والمحتاجين، وتتولى إدارتها ابنته ياسمين الحصري.
وقال اللواء رجائي عكاشة، المدير التنفيذي لجمعية الحصري، لـ«الشرق الأوسط»، إنّ «الجمعية أسستها السيدة ياسمين الحصري عقب وفاة والدها الشيخ الحصري»، مشيراً إلى أنّ الجمعية تقدم خدمات متنوعة، من بينها توفير معاشات لعدد 500 أسرة شهرياً، وخدمات طبية، إذ يحتوي المركز الطبي على 11 ماكينة غسيل كلوي، و5 حضانات أطفال، وخدمات تعليمية عبر 3 مراكز تعليمة تقدم دروساً لعدد 1000 طالب يومياً من طلاب الثانوية العامة، إضافة إلى بيت للطّالبات المغتربات تسكنه 200 طالبة، ودار مسنين، ودار أيتام».
كما تعد جمعية مصطفى محمود الخيرية، أحد نماذج تخليد الاسم والأثر عبر العمل الخيري، فالجمعية التي تحتفل خلال الأيام القليلة المقبلة بمرور 40 عاماً على إنشائها، أسسها المفكر والفيلسوف الراحل مصطفى محمود، في شارع جامعة الدول العربية، بحي المهندسين، (غرب القاهرة) في الميدان الشهير الذي يحمل اسم المفكر الراحل.
وقالت ابنته، أمل مصطفى محمود، في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية، إنّ «فكرة إنشاء الجمعية ترجع إلى عام 1974. عندما أرسل والدها خطاباً لأحد أصدقائه المغتربين في أوروبا، يعلن فيه رغبته في بناء مسجد ملحق به بعض العيادات الطبية في القاهرة، بعد نجاحه في توفير مبلغ 4 آلاف جنيه، واستطاع والدها الحصول على قطعة أرض مساحتها 2500 متر مربع، وجمع تبرعات من أصدقائه، ليضع اللبنة الأولى في الجمعية، التي ما زالت قائمة حتى الآن، تقدم خدمات لسكان المنطقة من غذاء وكساء وعلاج».
وأوضح الدكتور محمد ربيع، مدير القطاع الطبي وعضو مجلس إدارة جمعية مصطفى محمود أنّ «عدد المترددين على العيادات التابعة للجمعية بجميع التخصّصات وصل العام الماضي إلى 600 ألف حالة، ويتم إجراء عمليات لغير القادرين بنحو 700 ألف جنيه شهرياً».
ويبدو أنّ القاسم المشترك بين هذه الجمعيات هو تقديم خدمات طبية عبر مجموعة من العيادات الملحقة بمساجد، لتتوسع الخدمة فيما بعد وتشمل مساعدة الأيتام والفقراء، ونشر الثقافة الدينية.
واتجه نجوم السياسة أيضاً إلى تخليد أسمائهم عبر العمل الخيري؛ حيث أنشأ الدكتور عبد القادر حاتم، وزير الإعلام الراحل «المجمع الخيري للدكتور عبد القادر حاتم» والذي يهدف لخدمة أهالي منطقة عابدين، والموسكي بوسط القاهرة، عبر مجموعة من المبادرات الاجتماعية، إضافة إلى عيادة طبية لتقديم الخدمات العلاجية.
ولم يقتصر الأمر على رموز المجتمع الراحلين، لكن عدداً من رجال الأعمال ونواب البرلمان المصري اتجهوا إلى إنشاء مؤسسات وجمعيات خيرية خاصة بهم، تُقدّم خدمات متنوعة، سواء ثقافية أو دعم مشروعات صغيرة أو مساعدات للفقراء والأسر الأكثر احتياجاً، في إطار المسؤولية الاجتماعية، ولم يغب مشاهير الطّب والرياضة كذلك عن الساحة، إذ تقدم جمعية جراح القلب العالمي الدكتور مجدي يعقوب، خدماتها لعلاج أمراض القلب، كما تقدم «جمعية اللاعب المصري محمد صلاح» نجم فريق ليفربول الإنجليزي، خدماتها الخيرية في مسقط رأسه بقرية نجريج في مركز بسيون، بمحافظة الغربية في الدلتا المصرية.
ووفقاً لآخر إحصائية أعلنتها وزارة التضامن الاجتماعي المصرية، فإنّ عدد الجمعيات والمؤسسات الأهلية يزيد عن 48 ألف جمعية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017. من بينها 12 ألف جمعية تنفق نحو 10 مليارات جنيه سنوياً (الدولار الأميركي يعادل 16.6 جنيه مصري) على العمل المجتمعي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)