مراجعة الحكم على ثقافتنا

TT
20

مراجعة الحكم على ثقافتنا

يقول غاندي: «إن ثقافة الأمة تكمن في قلوب وأرواح شعوبها»، فعجبي على بعض القوم الذين يقيسون أنفسهم بمرآة غيرهم! ولا أنكر هنا أنني أقصد قطاع منا نحن العرب، ممن وقعوا تحت براثن هذه المرآة، بالأخص الغربية، فنثبت عندما يأتينا الإطراء منهم، فنؤكد على سمو ثقافتنا وحضارتنا. وعندما يأتينا الانتقاد - وهو النمط الأغلب - فإننا نشعر بالاستياء، وهو أمر طبيعي، ولكن ما ليس طبيعياً هو أن نبدأ في مراجعة أو إعادة تقييم تاريخنا وثقافتنا وفكرنا بقدر من التشكك يجعل البعض يرفضه تشبثاً بقيم لثقافات الغير، لا سيما الغربية، وهو ما أوصلنا اليوم لأن يكون حكم بعضنا على تراثنا وفكرنا، بل وتاريخنا وحاضرنا، مرتبطاً ارتباطاً شديداً ومقارناً بوجهة نظر الغير فينا، حتى أصبحنا متأثرين برؤيتهم لنا، وبفكرهم عنا، وبنظرتهم إلينا، وهي بحق ظاهرة كارثية وجب التنبيه إليها. وواقع الأمر أن هذه قضية ذات شقين: الأول مرتبط بدوافع وأسلوب الغير، خصوصاً الغرب، في نقدنا وانتقادنا (وهو ما سأركز عليه في هذا المقال)، والثاني مرتبط بتلقينا نحن وتعاملنا مع هذا السلوك، وسنعالجه في المقال التالي، وذلك لأن المُصدر والمُستقبل لـ«الرؤية النمطية» (Stereotype) أو النقد على حد سواء يحتاجون إلى مراجعة. وفي هذا الصدد، فإنني أضع بعض النقاط، على رأسها:
أولاً: رغم وجود جذور صراعات سياسية واقتصادية وعسكرية بيننا كدول عربية - إسلامية وبين الغرب، لها تبعات ثقافية ودينية، فإنه يمكن إرجاع جذور «الرؤية النمطية» الحديثة لنا لتتقارب مع حركة الاستعمار الغربي على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، وما تبعه من اعتقاد بسمو الثقافة الغربية، حتى خرج علينا الشاعر «كيبلين» ليتوج فكراً مقيتاً من خلال قصيدته الشهيرة «عبء الرجل الأبيض» التي يشرعن فيها الاستعمار باعتباره مسؤولية الرجل الأبيض لإدخال الحضارة للعالم المتخلف، وفرض ثقافته عليه عنوة، ومن هنا بدأنا نلتقط فكرة تسيد ثقافة وطريقة الحياة الغربية على غيرها حديثاً.
ثانياً: ورغم حركة التحرر التي عمت العالم الثالث، ومنها الأقطار العربية، في منتصف القرن العشرين، فإننا لم نتحرر فكرياً بالقدر الكافي، بل لا زلنا نشهد امتداداً لهذا الفكر بأشكال وأنماط أخرى، وهنا لا يمكن التحدث عن هذه الظاهرة بمعزل عن المفكر العظيم «إدوارد سعيد» في كتابه «الاستشراق» (Orientalism) الذي ينتقد فيه هذه الرؤية الغربية التي منبعها استعماري ذاتي، فيؤكد أن الحكم علينا وعلى تراثنا كان مبعثه المصالح والرؤية الغربية الذاتية، وليس الدراسة النقدية الواقعية لمجتمعاتنا وتراثنا آنذاك. ومع الأسف، فقد امتدت ونمت هذه الرؤية النمطية اليوم، خصوصاً بعد زوال الصراعات الآيديولوجية بنهاية الحرب الباردة لتجعل ثقافتنا، وعلى رأسها ديننا الحنيف، هدفاً بتوصيفه مصدراً للعنف والإرهاب، استناداً إلى شراذم ضالة منا، فساهم بشكل كبير في خلق «الإسلاموفوبيا» التي هي امتداداً للعقل الباطن المرتبط بهذه بالاستشراق، فبدأت الانتقادات المختلفة تنال من طريقة حياتنا ارتباطاً بتسيد الثقافة الغربية، ومن ثم فلن يرضى عنا أغلبية الغرب حتى نتبع فكرهم ونهج حياتهم.
ثالثاً: واتصالاً بما تقدم، فإن كثيراً من المجتمعات ونخبها تصاب في مناسبات كثيرة بظاهرة وصفها علماء علم الاجتماع بـ«التمحور الإثني» (Ethnocentrism)، وهي ظاهرة علمية تمت دراستها منذ مطلع القرن الماضي، ووصلت لاعتقاد علمي بأن رؤية البعض للغير تنبع من واقع رؤيتهم لأنفسهم وثقافتهم وتاريخهم، فالقياس هنا يكون عبر الاعتقاد الذاتي بسمو الهوية الجماعية لمن يقيس، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، وهو ما سينتج عنه حتماً قياساً خاطئاً نتيجة للاختلال النسبي للمعايير المقارنة، وعلى رأسها الموضوعية، فيكون من ضمن نتائجه توجيه السهام الفكرية والثقافية لتضرب جذور هويتنا وفكرنا.
رابعاً: فإذا كان ما تقدم يعبر عن العلية تجاه بلورة هذه المنحى من الرؤية الغربية تجاهنا، فإن هذه الظاهرة تحتاج إلى تغليف فكري لهذا المضمون السلبي، وهو ما يبرر التوصيف الذي كثيراً ما نسمعه عنا، وهو أننا ضمن آخرين «مجتمعات تقليدية»، وهو البديل المهذب لنعتنا بـ«المجتمعات المتخلفة» أو غير المُحدثة، وقد سمعته كثيراً، فالمقصود في واقع الأمر هو أنها مجتمعات لا تقتفي أثر التجربة والقيم الغربية المُحدثة، ومن ثم رفضها للوصول إلى الحداثة المنشودة. إن هذه «الشوفينية الثقافية» المتسيدة لدى بعض العامة والنخب الغربية تتفاعل سلباً تجاهنا، فيتم انتقادنا دون علم أو احترام لثقافتنا وتراثنا، وقد وجب القول إنها ظاهرة أصابتنا نحن أيضاً في نظرتنا تجاه مجتمعات أخرى على مر تاريخنا، ولهذا حديث آخر.
خلاصة القول إننا أمام ظاهرة «شوفينية» تتحكم في رؤية كثيرين نحو حضارتنا وثقافتنا وتاريخنا، تقيسه بمقاييسها المرتبطة بتركيبة مجتمعاتها، ولكن مع التطور والانفتاح وثورة المعلومات، فإن هذا السلوك أصبح غير مقبول، ولكنه يظل مستمراً، فالأغلبية عبيد لتاريخهم، ولكن العبء الأكبر يقع في تعاملنا نحن مع هذا السلوك الذي يحتاج لمراجعة صريحة منا حتى لا يتم تخفيف أو ترقيق هويتنا وإذابتها تدريجياً، ولهذا حديث آتٍ.



«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند
TT
20

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

«كشتبان»... أم مصرية ترمّم تصدعات الذات في الهند

يحفل تاريخ الشعرية العربية بهاجس الارتحال، فقد كانت الرحلة غرضاً رئيسياً ومركزياً من أغراض الشعر العربي، واحتلت الناقة رمزيتها في تراثنا الشعري بصفتها رفيقة السفر. وسرعان ما انتقلت الرحلة من غرض شعري إلى موضوع سردي، وبدأت المدونة السردية العربية تتوسع في أدب الرحلات، بصفتها وسيلة للمثاقفة والانفتاح على العالم الخارجي واكتساب وعي جديد بالعالم، عبر زيارة مدنه المختلفة، دون الاكتفاء بالمكان الأصل، أو مسقط الرأس، ودون الانكفاء على الذات.

أصبح لدينا تراث لا بأس به من أدب الرحلات، ذي التاريخ الطويل والممتد، عربياً وعالمياً؛ فهو قديم وراسخ، وله رموزه في الثقافة العربية، ولعل أشهرهم ابن بطوطة. وفي الأدب الحديث مدونة ممتدة تنتمي إلى هذا النوع، وإن كان أغلب رموزه من الرحالة الرجال، فالرحلة وتدوينها ظلت قروناً حكراً على الرجل، الذي تسمح له الثقافة وتقاليدها بمفارقة المكان، والتجول خارجه بقدر أكبر من الحرية، بينما ظلت المرأة حبيسة «الديار»، وإن قُدّر لها مغادرتها فإنها تغادرها في ظل رجل وحمايته، وظل هذا ممتداً على العصر الحديث، فأغلب من كتبوا في أدب الرحلة كانوا رجالاً.

هذه القاعدة الثقافية الذكورية، تخترقها الكاتبة والمترجمة المصرية أميمة صبحي، في كتابها «كشتبان: الأم التي طارت»، الصادر في القاهرة عن «دار العين» والذي ينتمي إلى أدب الرحلات، ونجد فيه رحلة ممتدة لأسابيع عدة داخل الهند، تخوضها امرأة هذه المرة، على خلاف الأعراف والسنن الأدبية والثقافية، لكنها لا تخوضها بمفردها، بل بصحبة طفليها «عالية» و«نوح».

تخوض أميمة الرحلة بصفتها أماً عزباء، حتى إنها طوال رحلتها من مدينة هندية إلى أخرى، ومنذ وصولهم إلى المطار في نيودلهي، كانت تواجه أسئلة مثل: أين الزوج؟ وهل أنتم بمفردكم بلا رجل؟ فبدت هذه الأسئلة عابرة للحدود والثقافات والقوميات، أسئلة تستنكر وتندهش من قدرة امرأة على أن تأخذ أطفالها في رحلة عقب انفصالها، وكأنها بالطلاق تفقد أهليتها وصلاحيتها للحياة، ومن ثم للطيران والتحليق بعيداً.

شيَّدت الكاتبة كتابها بشكل خطي، ففصوله تأخذ عناوين المدن التي زارتها بالترتيب، وكل فصل يتكون من مقاطع سردية عدة، بدءاً من العاصمة نيودلهي، مروراً بمدن جراكبور، وفارناسي، وكلكتا، وبوبانسوار، وتشيناي، وكوتشي، ومونار، وشاطئ تشيراي، وجايبور وأجرا، ثم نيودلهي مرة أخرى، في رحلة دائرية تنتهي من حيث تبدأ. في كل مدينة تحرص الكاتبة على أن تخوض رحلتها الخاصة، بعيداً عن مخططات شركات السياحة، فقد كانت مهمومة برؤية الحياة الهندية، ومعايشتها، ليس بعيون سائحة، بل كي ترى الواقع هناك بعيون تقترب بأقصى درجة ممكنة من عيون السكان الأصليين، فكانت تستخدم وسائل المواصلات المحلية العادية، وتسير في الحواري والأزقة لتحتك بالهنود العاديين، حتى إنها في المدينة الأخيرة التي زارتها اكتفت بالمكوث أياماً عدة في بيت ريفي، وسط الفلاحين الهنود، هي القاهرية، ابنة المدينة، التي لم تزر ريف مصر كثيراً.

صاحبت المؤلفة في أجرا الأبقار والماعز، حتى إنها تصالحت مع الحشرات، والعنكبوت الذي كان يسبب لها رعباً في بيتها. ومن الملامح المهمة أن القاهرة ظلت حاضرة طوال الوقت في عقلها أثناء رحلتها، فهي المرجع الذي تحيل إليها كل شيء، وتجري مقارنات دائمة بين أي شيء تراه في المدن الهندية ومثيله في القاهرة، فبدت مسكونة بمدينتها الأم، وتحملها داخلها في رحلتها، تماماً كما كانت تحمل طفليها.

حرصت الكاتبة في كل مدينة زارتها على أن تحتك بالناس وتحكي عنهم، عن عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم، حتى إنها قطعت نحو 252 متراً سيراً على الأقدام طوال رحلتها. تحكي أحياناً بخفة ظل وسخرية واضحة عن محاولات النصب التي تعرَّضت لها من بعض الهنود، متصالحة مع فكرة أن النصابين موجودون في كل مكان في العالم، في القاهرة كما في نيودلهي، ولا داعي لإغفال هذا الملمح أو تجاوزه في تفاصيل رحلتها.

وإضافة إلى هذه الوصف للناس والأماكن والآثار التاريخية، هناك ملمح مهم حرصت على إثباته، وهو الملمح المعلوماتي المعرفي، فكثيراً ما تتوقف الكاتبة عن الوصف لتسرد تاريخاً معيناً، سواء تاريخ مبنى ما مثل الحصن الأحمر، أو هوا محل، أو تاريخ صناعة ما وتحولاتها، مثلما سردت تاريخ صناعة التوكتوك المنتشر في الهند، أو حتى تواريخ شخصيات سياسية، مثلما حدث عندما سردت معلومات عن رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي وعلاقتها بابنها سانجاي.

في هذا الكتاب الضخم (370 صفحة)، لن نجد مجرد ارتحال مكاني، من مصر إلى الهند، ولا مجرد زيارة المعالم السياحية والأثرية الشهيرة فقط، بل إن الكاتبة على مدار رحلتها في المكان، ترتحل وبشكل أكبر وأكثر بنيوية داخل ذاتها، لتعيد تطبيع علاقتها مع نفسها، ومع فكرة الأمومة. إنها رحلة أسرة، أم وطفليها، إلى اكتشاف الروابط العميقة التي تربطهم ببعضهم، وتجسير الهوة بين الطرفين، وترميم الشقوق التي سبق ونشأت بينهما وقت إقامتهم في القاهرة داخل بيت واحد آمن، فكان السفر وسيلة لاكتشاف العالم من جهة، ومن جهة أخرى، وبشكل أكثر جذرية، اكتشاف ذواتهم.

تقول المؤلفة: «كل موقف صعب نمرّ به، يتبعه سد شقٍ بيننا، لنعود مرة أخرى وحدة واحدة»، وهو ما يحيل إلى عنوان الكتاب «كشتبان»، وهو اسم آلة معدنية يرتديها عازفو الآلات الوترية لتحمي أصابعهم أثناء العزف، فالكاتبة ترى أن الأمومة لا بد لها من كشتبان، ليحمي الكاتبة من ضغوط الأمومة، وأحياناً ترتدي هي وأبناؤها هذا الكشتبان ليحميهم جميعاً من العالم الخارجي.

الرحلة هنا لها ثلاثة مسارات، الأول: إلى الهند مكاناً ومزاراتٍ وثقافةً، بما تنطوي عليه من تعددية دينية وثقافية مدهشة. الثاني: رحلة إلى الذات، لتخفف الكاتبة مما يثقلها ويكبلها، ويربطها بالأرض، لاستعادة أجنحتها التي اقتلعتها الثقافة والتقاليد، لتحلق مرة أخرى إلى ذاتها المحبة غلى السفر والتنقل والاكتشاف. الثالث: رحلة الأم إلى أطفالها، ورحلتهم إليها، رحلة عائلة معاصرة نحو اكتشاف مفهوم الأسرة، ورحلة المرأة الكاتبة إلى التصالح مع الأمومة، فتمنح نفسها فرصة إعادة التعرف إلى أطفالها، وتمنحهم - في المقابل - الفرصة نفسها لإعادة اكتشافها والتعرف إليها.

وجاء هذا الوعي بتعدد المسارات واضحاً في عقل الكاتبة قبل وأثناء الرحلة، فتقول: «ربما لم أعرف الصغيرين بشكل جيد، وإنهما بالتأكيد لا يغرفانني، خاصة وأنا منخرطة تماماً في عجلة الحياة اليومية، كأم عزباء عاملة، تربي أطفالها بمفردها معظم الوقت. وإن هذه الرحلة فرصة نادرة لرؤية بعضنا البعض، ولإعادة اكتشاف أنفسنا أثناء اكتشافنا للمدن، حاولت هنا أن أستحضر نفسي بنفسي أمامهما، وأتركهما يتعرفان إليّ كما يريدان، وأراهما أنا كما لم أفعل من قبل».

لذا؛ لم يكن غريباً أن تشعر الكاتبة وهي تتجه عائدة للمطار أنها «خفيفة وسعيدة»، بعد أن شعرت بالتئام الشقوق والتصدعات التي بينها من ناحية وبين طفليها من ناحية أخرى. الرحلة وتدوينها ظلا قروناً حكراً على الرجل الذي تسمح له الثقافة وتقاليدها بمفارقة المكان