رحيل سعيد مرزوق صاحب «أريد حلا» و«المذنبون»

حافظت أفلام المخرج على الزاوية النقدية الاجتماعية

المخرج الراحل سعيد مرزوق  -  فاتن حمامة في مشهد من «أريد حلا»
المخرج الراحل سعيد مرزوق - فاتن حمامة في مشهد من «أريد حلا»
TT

رحيل سعيد مرزوق صاحب «أريد حلا» و«المذنبون»

المخرج الراحل سعيد مرزوق  -  فاتن حمامة في مشهد من «أريد حلا»
المخرج الراحل سعيد مرزوق - فاتن حمامة في مشهد من «أريد حلا»

في العام 1971 حقق مخرج شاب اسمه سعيد مرزوق أول فيلم روائي طويل له وكان عنوانه «زوجتي والكلب» من بطولة سعاد حسني ومحمود مرسي ونور الشريف. هنا سجل ابن الواحدة والثلاثين حينها والذي رحل يوم أول من أمس عن 74 سنة، إطلالته على عالم أحبّـه وأخلص له وبرع فيه.
نستطيع أن نتخيل فتى فقيرا أثاره الفن منذ صغره. فرح عندما رسم وفرح عندما أخذ يعرض رسوماته في جمعيات أهلية. أحب الموسيقى وأقدم على السينما، ذلك الفن الذي يجمع بين كل الفنون الأخرى والذي استهواه كون منزل أسرته كان قريبا من استوديو مصر.
لم يدرس المهنة بل مارسها. سنة 1967 قام بإخراج أغنية تلفزيونية مصوّرة بعنوان «أنشودة» وبعدها أخرج فيلما قصيرا بعنوان «أعداء الحريّـة» في العام التالي. وفي العام 1970 حقق فيلما قصيرا آخر هو «دموع السلام». «الثيمة» التي بنى عليها المخرج مرزوق فيلمه الأول تتعلّـق بالغيرة: في الفيلم محمود مرسي عريس جديد يعود إلى عمله بعد العرس ويستقبل التحيات ويبتسم للتهاني. نور الشريف هو الشاب الصغير الذي لا يزال طري العود لا يعرف الكثير عن الحب لكنه مستعد لأن يكشف دوما عن رغبته في نساء الجميع. هذا يولّـد لدى العريس ظنونا لا يدرك وجودها في داخله إلا من بعد أن يطلب من الشاب، الذي سيغادر المكان عائدا إلى القاهرة، نقل رسالة لزوجته. تنتاب الزوج الشكوك خلال غياب الشاب ولا تهدأ بعد عودته. الظن الماثل في داخله يتحوّل إلى يقين مبني على أفكار مجنونة.
استعان المخرج بأحد أفضل مديري التصوير حينها عبد العزيز فهمي، ولأن المكان الذي تقع فيه الكثير من الأحداث داخلية (منارة) تتطلّـب الأمر علاجا خاصّـا للضوء والظل خصوصا أن مرزوق كان قرر أن يحقق فيلمه بالأبيض والأسود.
فيلم سعيد مرزوق الثاني كان بالألوان ولو أنه بدا كما لو كان بالأبيض والأسود. الاستحسان النقدي والجماهيري للفيلم الأول دفعه على الفور لكتابة قصّـة ثانية (هذه المرّة بالاشتراك مع مصطفى كامل) ولتقديم سعاد حسني ونور الشريف معا للمرّة الثانية تحت إدارته وذلك في فيلم «الخوف» (1972).
إذا كان الفيلم السابق تناول الوحشة العاطفية والشك المؤدي للانهيار، فإن الفيلم الثاني هذا كان عن الانهيار ذاته. بعد انتهاء حرب، 1967 بدأ التصدّي. مصر مهزومة لكنها تحاول الوقوف على قدميها كحال الفتاة النازحة من إحدى مدن السويس إلى القاهرة التي تتعرّف على الصحافي (نور الشريف) صدفة. في وله رائع بالمكان وتصوير آسر (أنجزه هذه المرّة عبد الحليم نصر) حقق المخرج أحد أفضل أفلامه إلى اليوم. إذ يدلف الشابّـان إلى أحد المباني المهجورة ويتبادلان البوح بالمكتوم حول الحياة والمستقبل (مستقبل البلاد ومستقبل أبنائه أيضا) يقصد المخرج تجسيد حالة الخوف التي يشعر بها الجميع في ذلك الحين. عدم الاستقرار والارتهان إلى آمال موعودة بالحياة الأفضل. كذلك: «الخوف» هو عن العيون الراصدة. حارس العمارة (الراحل أحمد أباظة) يكتشف وجود هذين الشخصين في المبنى فيبدأ بملاحقتهما. الفكرة المنجزة هنا هي أنهما كانا سيتمتّـعان بالخلوة (البريئة) لو طلبا إذنه، كونهما لم يفعلا فإن ذلك انتقاص من «سيادته».

* نقد الحكومة
«أريد حلا» بعد ثلاث سنوات كان الوهج التجاري الأكبر لهذا المخرج الفذ. كتبت الصحافية حسن شاه حكاية الزوجة درية التي تتعرّض للإهانة والتعنيف من قِـبل زوجها، والتي لا تملك حقوقا كافية حتى في أبسط حقول الحياة المشتركة. تحمل شكواها إلى المحكمة طالبة الطلاق. هذا الطلب ليس سوى بداية رحلة عويصة تسدل عليها القوانين المرعية الكثير من الحواجز. لكن دريّـة لا تكل ولا تستسلم في الوقت الذي تبدأ فيه ممارسة حياة مستقلّـة إذ تجد عملا يساعدها على الاكتفاء. ما تواجهه بعد ذلك هو شهود زور يأتي بهم الزوج واضعا المحكمة في مأزق القرار.
أدار مرزوق هنا الممثلة فاتن حمامة وحولها لمع رشدي أباظة وليلى طاهر وأمينة رزق. الغاية والمعالجة كانتا مختلفتين عن فيلمي مرزوق السابقين فالموضوع لم يعد رمزيا فقط، بل انفصل عن سرد حكاية شخصيات تعيش في معزل عن الناس: «منارة» بحرية في الفيلم الأول والعمارة المهجورة في الفيلم الثاني. ما بقي هو أن «زوجتي والكلب» كان عن الرجل الذي لن يعرف، على الأرجح، تقدير حبّ زوجته له، والثاني عن اثنين لم يبلغا بعد مرحلة متقدّمة من العلاقة، أما هذا الثالث فكان عما يمكن أن يحدث بعد سنوات من الزواج يكتشف الزوجان فيها أن حياتهما لم تكن أرض العسل والورود التي حلما بها.
من هذا الفيلم الذي حقق له حضورا جماهيريا ونقديا لم ينله من قبل، انتقل إلى عمل آخر لا يقل عنه أهمية في تاريخ السينما المصرية وهو «المذنبون» عن قصّـة الأديب نجيب محفوظ كتب لها السيناريو ممدوح الليثي.
الفيلم، كالرواية، يدور حول جريمة قتل وشركاء. رواية نجيب محفوظ قصدت أن تسرد، في السبعينات، حكاية تتوزّع فيها الاتهامات بتوزّع المشتركين في ذنوب لن يطالها القانون بالضرورة. نعم القاتل واحد، لكن الجميع قتلة على نحو أو آخر. تلك الرواية هي فرصة المؤلـف (ثم المخرج) لتقديم بانوراما من الشخصيات التي ارتكبت في حق المجتمع جرائم تساوي جريمة القتل تلك. هناك رجل السلطة الفاسد، والناظر الذي يغش لينجح بعض تلامذته لقاء المال، والتاجر الذي يحرم الناس من البضائع المدعومة ويبيعها بسعر أعلى للأثرياء ورئيس شركة مقاولات حكومية يرتكب المخالفات، وكل هؤلاء كانوا في حفلة ليليّـة لجانب خطيب الممثلة المقتولة وأحدهم فقط هو الذي أزهق روحها.
لم يعد مهما هنا من (ولو أن ذلك سيُـكتشف بالضرورة) ولا حتى لماذا (خيانة عاطفية)، بل كيف أن هؤلاء جميعا مذنبون وعلى نحو ليس بعيدا عن رواية نجيب محفوظ الأخرى «ثرثرة فوق النيل» التي أخرجها للسينما سنة 1971 المخرج حسين كمال أو عن روايته الأخرى «الكرنك» التي نقلها علي بدرخان إلى الشاشة سنة 1975 أي قبل عام واحد من «المذنبون».

* مباشرة
حافظت أفلام سعيد مرزوق التالية على الزاوية النقدية الاجتماعية، وإن لم تستطع الاحتفاظ دوما بالنوعية الفنية التي مارسها المخرج فيما سبق من أفلام. قدم على التوالي «حكاية وراء كل باب» (عن رواية لتوفيق الحكيم، 1979) و«إنقاذ ما يمكن إنقاذه» (عن سيناريو لمرزوق نفسه، 1985) ثم «أيام الرعب» (قصّـة جمال الغيطاني، 1988) و«المغتصبون» (1991). الحكايات كانت فردية وميلودرامية الوقع هذه المرّة. ليس على نحو خال من الإبداع، لكن على نحو يفتقر إلى دلالات مرزوق المشبعة بالفن. حكاية «أيام الرعب»، مثلا، كانت تدور حول فكرة الخوف من الانتقام حسب تقاليد أهل الصعيد، و«إنقاذ ما يمكن إنقاذه» عن علاقات انتهازية تبقى ضمن نطاق الشخصيات وبالكاد تستطيع أن ترمز لمؤسسات أو مرجعيات. لا شيء عن قانون آن وقت إصلاحه، ولا شيء عن الخوف من العيون الراصدة ولا عن الفساد الإداري المستشري.
لكن هذا الوضع يتغيّـر عندما أخرج مرزوق قصّـة سينمائية كتبها بنفسه وتولى فيصل ندا كتابة السيناريو لها. هناك نداءات من ماضي المخرج الحافل بالنقد في حكاية شاب وخطيبته يخرجان في نزهة فيعترض طريقهما خمسة شبّـان يخطفونهما ويعتدون على الفتاة. كل المستقبل الحافل بالوعود ينهار. وعلى عكس ميزة المخرج في أفضل أعماله السابقة نجد أن الطرح مباشر هنا والمشاعر مطبوخة سلفا ومتوقّـعة.
لم ينقذ الوضع فيلمه التالي «المرأة والساطور» (1997) بطولة نبيلة عبيد، لكن لا ريب أن هذه الأفلام على ما انتابها من تخلي المخرج عن سينما التأمل والترميز، إلى سينما أكثر مباشرة، وبالتالي أكثر اقترابا مما يود الجمهور استنشاقه من معالجات واضحة، تبقى أفضل من الكثير جدا من أفلام تلك الفترة التي حققها آخرون.
في تكوينه الخاص، سجّـل مرزوق حضوره بإلمامه الشامل بشروط الصورة المطلوبة وبالموضوع الذي يثير اهتمامه ومن خلال هذين العنصرين أنجز عددا قليلا نسبيا من الأفلام (14 فيلما) آخرها سنة 2002 (هو «قصاقيص العشاق»). من ذلك التاريخ وإلى وفاته وجد نفسه يعيش في عزلة بعيدا عن ساحاته الفنية. كان اضطر لعملية قطع ساقه بعدما أفسد خلاياها السكّـري، ثم عانى من المرض ورحل وهو على هذا النحو، لكن الرحيل الحقيقي بدأ، كما حال مبدعين آخرين كثيرين، قبل أن يقطف الموت أنفاسه.



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».