مارغريت دوراس... وعودة إلى هستيريا «التدمير»

الكتاب الذي أرّقها وشلّ قدرتها على التأليف

مارغريت دوراس
مارغريت دوراس
TT

مارغريت دوراس... وعودة إلى هستيريا «التدمير»

مارغريت دوراس
مارغريت دوراس

عودة للقارئ العربي إلى الأديبة الفرنسية مارغريت دوراس مع صدور ترجمة لروايتها المعروفة «التدمير» مصحوبة، في كتاب واحد، بقصة قصيرة جميلة هي «الرجل الجالس في الرواق». وإن كان الكتاب الصادر عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت، يحمل اسم الرواية الأولى، فإن المقدمة التي كتبتها مديرة الدار الدكتورة عزة طويل، تشرح من خلالها أن النصين يلتقيان في روحهما التي هي في النهاية تعكس أسلوب دوراس وهواجسها التي شكلت خطها الأدبي، وانشغالاتها التي كان أبرزها «الحب» و«الرغبة». وهما محور العملين معاً وقلبهما.
دوراس الأديبة والمخرجة التي تمردت إلى درجة اعتبار الثورة غير كافية ولا بد من تحطيم كل شيء والبدء من نقطة الصفر من أجل الخلاص، كتبت روايتها «التدمير» مباشرة بعد ثورة مايو (أيار) 1968 الشهيرة في فرنسا. الرواية تقوم على وجود 4 شخصيات؛ رجلان وامرأتان، بملامح ضبابية وحركة محدودة في المكان. الجميع يلتقون في فندق، كل منهم كأنه يعيش في عالمه الخاص، منغلق على رغباته وتمنياته وأسراره، تتكشف الدواخل عبر الصفحات. المرأتان إليزابيث وإليسا، والرجلان هما شتاين وماكس تور، المثقفان الذي يسعى ثانيهما لأن يصبح كاتباً. هناك أيضاً ابنة إليزابيث وزوجها؛ لكن حضورهما عابر ولا يأتيان لزيارتها سوى يوم الأحد. إليزابيث منهارة لأنها فقدت جنينها وتعيش على ابتلاع الأدوية، وإليسا تعيش بين شتاين وماكس تور؛ متزوجة من الثاني، لكنهما عشيقين متوازيين في رحلة بحثها عن حاجاتها. المشهد يتبدل تدريجياً، تبدأ علاقة وثيقة بين السيدتين اللتين تشعران بأن بينهما شبهاً شديداً، ثم مع تقليب الصفحات يبدو أن شيئاً ما ينمو بين إليزابيث والرجلين. هكذا تزداد اللوحة ضبابية مع تبدل المشاعر وانقلاب الأحاسيس دون أن ينضج أي شيء يحسّن من مستوى الرؤية. مَن يرغب في مَن؟ ومن يحب من؟ تلك هي الأسئلة التي تبقى عالقة.
على طريقتها؛ تكتب دوراس هذه الرواية التي قد تصلح أن تكون فيلماً سينمائياً، وهو ما أنجزته دوراس بالفعل بصفتها مخرجة، لكن فيلمها واجه انتقادات لبرودة مشاهده، أو لأنه نص وضع ليكون مسرحية؛ إذ إن الحوارات والجمل القصيرة المختزلة تؤهله ليوضع على المسرح، خصوصاً أن المؤلفة ألحقت النص بتوجيهاتها حول الديكور وهيئة الممثلين، وباقي التفاصيل اللازمة، بما في ذلك موسيقى باخ؛ وبالتحديد معزوفة «الفوغة» رقم «15» التي يجب أن ينتهي بها المشهد الأخير.
في المقدمة؛ تقول الدكتورة طويل إن صعوبة ترجمة دوراس التي عملت عليها بنفسها، استدعت معونة مجموعة من المحررين، ذلك لعمق المعاني، واكتساب كل كلمة ومكانها من الجملة أهمية في النص. ورغم كل الجهود التي بذلت؛ تقول المترجمة - الناشرة، في كلمتها، فإنه «يبقى أسلوب دوراس أرقى من أي ترجمة أو قراءة».
وكانت دوراس قد قالت إنها عانت كثيراً بعد أن أنجزت هذا الكتاب الذي لم يحتج وقتاً لكتابته، لكنه استغرق عاماً لاختماره، وتسبب لها بمعاناة في العودة إلى الكتابة، لشدة ما انغمست في موضوع «التدمير». وحين تكتب دوراس عن التدمير؛ فإنما تذهب من خلال أبطالها لتصور تدمير الطبقات الاجتماعية والبنى المؤسساتية، والذهنية القائمة، كما الحواجز داخل الذات الإنسانية. هي التي انتمت إلى الحزب الشيوعي، وكانت لها أفكارها السياسية التي تختبئ في خلفيات نصوصها الأدبية. وفي روايتها المترجمة حديثاً تبدو واضحة فكرتها حول أن الثورة لا يمكن أن تتحقق بنضال خارجي؛ وإنما بإعادة النظر في الحياة الداخلية الذاتية التي يمارسها الفرد مع ذاته. فقد آمنت دوراس دائماً بأن التغيير الفعلي يحدث حين يختلي الإنسان بنفسه ويعيد تقييم دواخله. لذلك فإن رواية «التدمير»، كما روايات أخرى لها، لا تقوم على أحداث كتلك المألوفة في الروايات الكلاسيكية، بل هي عملية متابعة لتحولات تحدث في ذهن أبطالها، تؤدي إلى تحولات خارجية. أي إنها تسير تماماً عكس ما نراه في النصوص الأدبية التقليدية. وما يسري على «التدمير»، نجده أيضاً في النص الثاني الذي يبدأ به الكتاب: «الرجل الجالس في الرواق»؛ حيث إن المرأة التي تصف دوراس أوضاعها الجسدية، تكاد في الوقت نفسه تقدم خريطة لمشاعرها التي تختلج في داخلها. والعلاقة الثنائية التي تربط هذه المرأة بالرجل من خلال مشهد شديد الحسية تصفه لنا، تؤدي بنا في النهاية إلى فهم عميق لطبيعة الرغبة التي تربطهما من دون حاجة لأن نعرف اسميهما، أو مهنتيهما أو طبقتيهما الاجتماعيتين. والقصة بمجملها هي هذا المشهد للقاء بين اثنين، تكتبه الأديبة بأسلوبها القادر على وصف صورة خارجية هي انعكاس للحالة الذهنية التي تعيشها الشخصيات.
ودوراس من جيل الروائيين المجددين في منتصف القرن الماضي في فرنسا، مثل ألان روب غرييه، وميشال بوتور، وجان ريكاردو، ونتالي ساروت، وكلود سيمون، الذين حققوا كتابة مختلفة في لغتها كما في أسلوبها السردي، وهذا منعكس في الجمل المكتنزة لدوراس، وفي تحررها من فكرة البطل والإطار الزمني للحدث، أو حتى تجاوز الأحداث بمعناها المعتاد بوصفها جوهراً في العمل.
دوراس التي رحلت منذ أكثر من عقدين، وعاشت أكثر من 80 سنة لا تزال تفتن الفرنسيين؛ هي التي كانت شاعرة وأديبة روائية ومسرحية وكاتبة سيناريو، ومخرجة سينمائية، بوجوهها الفنية وانخراطها العضوي في قضايا زمنها، ونضالها من أجل رؤية مختلفة تعجبنا أو تزعجنا وتضجرنا. لكنها تبقى في سيرتها كما في أعمالها نموذجاً لامرأة استثنائية تركت بصمات لا تشبه غيرها. واستكمال ترجمتها إلى العربية بعد روايتها الشهيرة «العاشق» و«هيروشيما حبيبي» ونصوص أخرى، منها «مرض الموت» عن «دار المطبوعات للتوزيع والنشر أيضاً» وبالجدية التي قامت بها، لهو مما يسد ثغرة في المكتبة العربية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.