«روجو» يتحدث عن المختفين والحقبة الأرجنتينية «الحرجة»

عرض في مهرجانات عديدة آخرها «كارلوفي فاري»

المحامي وعائلته
المحامي وعائلته
TT

«روجو» يتحدث عن المختفين والحقبة الأرجنتينية «الحرجة»

المحامي وعائلته
المحامي وعائلته

من بين ما عرضه مهرجان كارلوفي فاري في دورته الأخيرة التي أسدلت ستارتها في السادس من هذا الشهر، فيلم جال، منذ سبتمبر (أيلول) الماضي مهرجانات عديدة. الفيلم من إنتاج أرجنتيني، برازيلي، ألماني، هولندي، فرنسي، بلجيكي، سويسري مشترك. ليس لضخامة إنتاجه بل لحاجة الأفلام المستقلة هذه الأيام (وأكثر مما مضى) للبحث عن مصادر تمويل، مما يتطلب، بطبيعة الحال، توسيع رقعة أسماء البلدان المشتركة في إنتاجه.
الفيلم هو «روجو»، وبالعربية «أحمر»، والعنوان يرد في مشهد كسوف للشمس يتحوّل المكان فيه إلى لون أحمر، وبدأ جولته على الشاشات العالمية بمهرجان تورونتو وانتقل منه إلى مهرجان سان سباستيان. عرضته بعد ذلك مهرجانات في ألمانيا وفرنسا وأوروغواي والبرازيل والبرتغال والسويد وصولاً إلى الهند والولايات المتحدة.
وقبل كارلوفي فاري سبح في مياه مهرجانات سان فرانسيسكو ومراكش وإسطنبول. وكل هذه الحركة لم تكن بلا جوائز للفيلم أو لمخرجه «بنجامين نايشتات» أو لممثله الأول «داريو غراندينتي». لكنها حركة مهرجاناتية وليست صالاتية بمعنى أن عروضه التجارية خارج المهرجانات بقيت محدودة ما بين فرنسا وإسبانيا والأرجنتين وأورغواي وهولندا.
«روجو» في واقعه هو اكتشاف لمحبي السينما البديلة عن السائد. ليس الفيلم المتكامل في شتى نواحيه أو عناصره، لكنه فيلم جيد ومهم في الوقت ذاته. والجودة والأهمية لا تتواكبان دوماً. فيلم «أبي فوق الشجرة» لحسين كمال فيلم مهم لكنه ليس جيداً. فيلم «شجرة الشنق» لدلمر ديفيز جيد لكنه ليس مهماً، بينما «شجرة الحياة» لترنس مالك جيد ومهم.
«روجو» هو من هذا النوع الأخير مع حفظ التفاوت. يدور لولبياً فينطلق من حادثة ليحكي عن أبعاد أخرى ومن زمن ليمضي صوب زمن آخر قبل أن يدركه الزمن السابق من جديد. هذه التداعيات مرصوفة بعناية وتحقق المراد منها، مما يجعل الفيلم مهمّـاً كونه يتحدث عما يغيب عن الصورة أكثر مما يتبدّى فيها.
يبدأ الفيلم بمشهد لن يبدو منتمياً إلى الحكاية إلا بعد حين. حال انتهائه نشاهد أحداثاً أخرى نتعرف فيها على شخوص ستحتل المقدمة وما يجاورها. لكن ذلك المشهد الأول مهم جداً وسيتبدى لاحقاً (بعد أكثر من نصف ساعة من الفيلم). فيه نرى مجموعة من الأشخاص يدخلون ويخرجون من منزل حاملين معهم، عند الخروج، ما استطاعوا الوصول إليه. هم ينهبونه بغياب أصحابه.
مباشرة بعد ذلك نتعرف على المحامي كلوديو (غراندينتي) الذي يعمل في نطاق المدينة التي يعيش فيها. رجل محاط باحترام المجتمع الذي يحيط به. متزوّج. مستقر. وهادئ الطباع حتى وسط ظروف خارجية عاتية. هنا لا بد من القول إن الأحداث التي اختارها الكاتب والمخرج نايشتات هي منتصف السبعينات والمكان هو الأرجنتين والأحداث العاصفة التي تحيط بكلوديو لا نراها إلا من خلال مفارقات قد تقع في أي زمن وفي أي مكان. لكن بما أن المخرج وضع حكايته في السبعينات، فإنه من الأهمية القصوى الاعتراف بالرابط بين الحدث وزمنه.
ففي منتصف سبعينات القرن الماضي، في الأرجنتين، استولى العسكر على الحكم وبدأت حملة اعتقالات وتصفيات بلغ عدد ضحاياها نحو 30 ألف شخص. لا يتعامل الفيلم مباشرة مع هذا الوضع، بل يتحدث عن وضع نشاهده في الدراما التي هي بمثابة مرآة. الأحداث الماثلة ليست بالتحديد انعكاسات لتلك التي وقعت بل أقرب إلى النظر إلى الذات بسببها.
أول ما يعبر عن ذلك المشهد الذي يجلس فيه كلوديو في مطعم مع زوجته (أندريا فريغيريو) وابنته (لورا غراندينتي، التي هي ابنة الممثل فعلياً) ليدخل بعض لحظات رجل (دييغو كريمنيسي) يطالب كلوديو بالتخلي عن طاولته. الطلب غريب لكن الرجل غريب بدوره.
المبارزة الواقعة هي بين محامٍ من اليمين الذي يحافظ على وضعه الاجتماعي المستقر في ظل الحكومة الجديدة والآخر الذي يبدو أنه سقط في الهامش الاجتماعي العريض أو حتى اعتلى الوضع الاجتماعي والسياسي الحاضر من دون ثقافة. والمحامي ينتصر من دون عراك بالأيدي. بمجرد تشريح الرجل علناً يزداد غضب ذاك ويخرج من المكان ناقماً على كل من فيه.
بعد خروج كلوديو من المطعم يكتشف أن الرجل ينتظره. جدال آخر يقع ثم يوجه الرجل مسدسه إلى جسده ويطلق النار بغية الانتحار. يأخذه كلوديو بسيارته إلى الصحراء حيث يتركه. يغيب عن المكان وتغيب صورة المكان أيضاً.
بعد ثلاثة أشهر نواجه نموذجاً آخر من نماذج القوّة التي يتمتع بها المحامي. في هذا المنعطف من الحكاية نجده يستمع إلى رجل يطالب بحقوقه المادية بعدما أعفي من وظيفته قصراً. كلوديو يستمع إليه ويعده وتستطيع أن تدرك أنه لا يهتم ليساعده. الرجل لا يعني له شيئاً فينصرف الرجل بكل ما يحمله من هموم. لكن المحامي سيطلبه لاحقاً ليعرض عليه ما يضطر ذلك الرجل لقبوله بسبب ضيقته المادية.
العرض بسيط: صديق لكلوديو يريد شراء ذلك المنزل المهجور الذي شاهدناه في مطلع الفيلم. ويريد شراءه بأبخس الأسعار، لكنه لا يستطيع شراءه مباشرة لأنه ليس للبيع. هو بحاجة لمن سيدّعي بأن المنزل له وسيبيعه. المحامي سيساعد صديقه على هذا الفعل والرجل العاطل عن العمل سيرضى لحاجته مع علمه بأنه يقوم بعمل خارج عن القانون.
في الفصل الأخير دخول شخص آخر على الخط. إنه تحر قادم من تشيلي اسمه سينكلير (ألفريدو كاسترو) الذي يحوم حول المحامي لمعرفة ما الذي حصل لذلك الرجل الذي تركه المحامي في الصحراء قبل ثلاثة أشهر. المواجهة صامتة. ليس أنها خالية من الحوار، لكنها خالية من المواجهة العنيفة. الطريقة التي يفرض بها التحري نفسه على حاضر المحامي تمثل تهديداً نتابعه من دون أن نلم بتفاصيله ما يناسب المعالجة اللغزية المختارة لهذا العمل منذ البداية.
اللافت أن التحري سينكلير شخصية تشيلية (التي تعرضت كذلك لاضطرابات الحكم في تلك الفترة). العلاقة مفتوحة هنا بين التحري والمحامي والرجل المغيّب. لكنها أكثر انفتاحاً على ما لا نراه من أحداث مما نراه. في الإطار ذاته هناك شخصيتان أميركيّتان تعملان لحساب «وكالة المخابرات الأميركية» ودورها في الفيلم - بصرف النظر عما نراها تقوم به - هو تأكيد العلاقة بين الانقلاب الذي وقع في الأرجنتين والسياسة الأميركية.
هناك دخول وخروج شخصيات ومواقف أخرى على المشاهد، إذا ما وصله هذا الفيلم، تحمّلها فهي تصب لصالح العمل ككل. لجانب أن معالجته تتم بعناصر اللغز البوليسي (الوصف رمزي ويُقصد به الأسئلة التي تطرحها الرواية الكلاسيكية في ذلك النوع من الأعمال) فإن ما يلعب كعنصر رئيسي في هذا الصدد هو قيام السيناريو على محورين متلازمين: يتحدث عن شخصيات نراها ويتحدث عن شخصيات اختفت. شخصيات قد لا نراها على الشاشة أساساً فأصحاب ذلك البيت مختفون (ربما ملقون في السجون أو لاجئون هرباً أو ربما تم قتلهم) أو ظهرت لفترة قليلة ثم اختفت مثل الرجل الذي واجه كلوديو في المطعم واختفت جثته. لا أحد سأل عنه حتى ذلك الحين. ما لا يختفي هو الماضي، إذ يعود بدورة جديدة ليطرح الأسئلة التي يحملها الفيلم إلينا.


مقالات ذات صلة

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)
سينما «موعد مع بُل بوت» (سي د.ب)

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم.

محمد رُضا‬ (لندن)
يوميات الشرق فيلم «الحريفة 2» اعتمد على البطولة الشبابية (الشركة المنتجة)

«الحريفة 2» ينعش إيرادات السينما المصرية في موسم «رأس السنة»

شهدت دور العرض السينمائي في مصر انتعاشة ملحوظة عبر إيرادات فيلم «الحريفة 2... الريمونتادا»، الذي يعرض بالتزامن مع قرب موسم «رأس السنة».

داليا ماهر (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)