توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية

بعد فوز اليمين المحافظ بقيادة ميتسوتاكيس «الابن» في الانتخابات العامة

توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية
TT

توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية

توارث السلطة ديمقراطياً... على الطريقة اليونانية

ما أتى فوز زعيم المعارضة المحافظة كيرياكوس ميتسوتاكيس برئاسة الوزراء في اليونان بمحض المصادفة، بل هو أقرب إلى عودة البلاد إلى توارث العائلات السياسية الثلاث الأبرز السلطة «ديمقراطياً»، ذلك أنه تناوبت على حكم بلاد الإغريق لعقود ثلاث عائلات بارزة فينيزيلوس - ميتسوتاكيس وكارامنليس وباباندريو.
العائلات الثلاث هيمنت على مقاليد الحكم في اليونان عبر صناديق الاقتراع. ويقول المراقبون بأن فترة أربع سنوات ونصف السنة كانت كافية لأخذ اليونان بعيداً عن حكم العائلات، إذ استيقظ الشعب اليوناني بداية عام 2015 على اعتلاء اليساريين الراديكاليين، بزعامة الشاب المهندس أليكسيس تسيبراس (41 سنة) ليغدو أصغر رئيس وزراء للبلاد. وهذا بجانب كونه ابن عائلة متوسطة بعيدة عن العائلات التي ذكرناها. غير أن الأمور لم تسر تماماً كما اشتهى تسيبراس وحزبه «سيريزا» (التحالف اليساري)، وعاد الناخبون للمراهنة على المحافظين عندما صوتوا بغالبية مطلقة لفرد آخر من أعرق العائلات السياسية اليونانية.
تمخّضت نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت 7 يوليو (تموز) 2019 عمّا كان متوقعاً منذ فترة غير قصيرة، باستثناء هزيمة أقصى اليمين. ذلك أن استطلاعات الرأي رجّحت فوز حزب «الديمقراطية الجديدة» بزعامة كيرياكوس ميتسوتاكيس (51 سنة). وبالفعل، فاز بفارق يزيد عن 8 نقاط مئوية، وبسرعة شكّل زعيم الحزب الفائز حكومته الجديدة، التي تقلدت مهامها فوراً بعد الإعلان عن تشكيلها.
النتيجة كانت ضربة موجعة لـ«سيريزا» اليساري الراديكالي بقيادة رئيس الوزراء السابق تسيبراس الذي حاز على 86 مقعداً في البرلمان من أصل 300 مقعد، مقابل حصول «الديمقراطية الجديدة» على 158 مقعداً. ولقد حلّت «حركة التغيير» (تحالف «باسوك الاشتراكي» مع حركة «كيديسو» الديمقراطيين الاشتراكيين) بزعامة فوفي جينيماتا في المركز الثالث محققا 22 مقعداً، ثم الحزب الشيوعي بقيادة ديميتريس كوتسوباس 15 مقعدا، فـ«الحل اليوناني» (اليمين القومي) بزعامة الصحافي كيرياكوس فولوبولوس 10 مقاعد، وحزب «اليوم 25» (اليسار) بزعامة يانيس فاروفاكيس وزير المالية الأسبق 9 مقاعد. وكان لافتاً جداً خروج حزب «الفجر الذهبي» (اليمين المتطرف) من البرلمان، وعجزه عن الحصول على نسبة 3 في المائة المطلوبة للتمثيل البرلماني، رغم أنه كان ثالث حزب في البرلمان لعدة دورات سابقة، وأيضا دخول حزبين جديدين هما حزب «اليوم 25» وحزب «الحل اليوناني».

ليس أفضل الخيارات
لم يكن ميتسوتاكيس أفضل الخيارات المتاحة أمام الناخبين، وفق تقارير إعلامية محلية، لكن سياسات التقشف الصارمة التي واصل سلفه اليساري تسيبراس تبنيها، مُخلفاً وعوداً بإلغائها، شكلت منعطفاً حاسما في المسار السياسي للرجلين. فاليونانيون الذين أحبطهم إخلاف تسيبراس بتعهداته، وأرهقتهم السياسات التقشفية أتت على مقدرتهم الشرائية، واستدعت دعماً ماليا من دول في الاتحاد الأوروبي في 3 مناسبات، أرادوا معاقبة رئيس الوزراء السابق عبر التصويت لصالح ميتسوتاكيس. بمعنى آخر ربما جاء اختيار الناخب لحزب «الديمقراطية الجديدة» ليس حباً فيه بقدر ما هو رفض لحزب «سيريزا».
كيرياكوس ميتسوتاكيس، من جهته، بدا مدركا تماماً دوافع الناخبين، فلعب على هذا الوتر متعهداً خلال حملته بإلغاء التقشف، وإنعاش الاقتصاد بما يوفر فرص عمل، ويزيد من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ومن منطلق إدراكه أن تحدّره من عائلة عريقة قد يمنح المجال للتشكيك في كفاءته بالمنصب، دأب على تكرار القول «احكموا علي من خلال سيرتي الذاتية وليس اسمي»، كما تعهد بألا يعيّن أي فرد من عائلته في حكومته، مدافعاً عن الكفاءة كمعيار للتعيينات.
لقد تجوّل كيرياكوس في الشوارع واختلط بالمواطنين، واقترب من مشاغلهم. وهكذا ملأ الفجوة التي أحدثها سلفه، ومسح أي انطباع سلبي سابق عنه، فامتدت أيادي الناخبين تدون اسمه بصناديق الاقتراع، لتفوضه بتقلد منصب يأملون في أن يكون بداية لنقطة تغيير حقيقي بأوضاعهم. وبالنهاية حصل على غالبية لم يحظ بها أي حزب سياسي في اليونان لأكثر من عشر سنوات مضت.
في المقابل، لعل أهم الأسباب وراء هزيمة تسيبراس، رغم الإنجازات التي حققها خلال السنوات الماضية، هي نفسها تلك الإنجازات نفسها. ذلك أن الإنجاز الأول الذي حققه تسيبراس هو العمل بجدية وإخراج البلاد من الأزمة المالية. لكنه كي يتمكن من ذلك، أقرّ إجراءات تقشفية صارمة... وقادت سياسات حكومته إلى التضييق على الطبقة الوسطى، فتعاملت معها باعتبارها من طبقة الأغنياء وحمّلتها أعباءً تسببت في إفقارها. وهو ما أغضب قطاعاً واسعاً من الشعب سرعان ما أدار ظهره لتسيبراس.
أما الإنجاز الثاني، فهو التوقيع على اتفاقية «بريسبا» لحل الخلاف المزمن (نحو ثلاثين سنة) بين اليونان وجارتها الشمالية مقدونيا حول مسألة اسم «مقدونيا». فلقد أدى هذا التطوّر إلى اعتبار نسبة لا بأس بها من اليونانيين تسيبراس وقادة حزبه «خونة»، لأن قطاعاً كبيراً من الشعب رفض بعناد أن تضمن اسم الدولة الجارة كلمة «مقدونيا» التي يصرون على أنه اسم تراثي يخص الشعب اليوناني وحده.
مع هذا، رغم هزيمة حزب «سيريزا» (أو ائتلاف اليسار)، فإنه استطاع أن يحافظ على نسبة جيدة تزيد عن 30 في المائة، ما يتيح له قيادة معارضة شديدة وفعالة داخل البرلمان، تجعل منه العامل الحاسم الذي سيقف بحزم أمام الحزب الحاكم.

أزمة داخل «سيريزا»
في سياق متصل، ثمة معلومات تفيد بوجود تململ داخل «سيريزا» وانتقادات صارمة لقيادة الحزب المتمثلة في تسيبراس بعد الهزيمة. والآن هناك مخاوف داخل الحزب من إعادة تركيبه وربما تغيير الاسم ومفاصل كثيرة فيه، فيتحول إلى حزب رئاسي تحت هيمنة مطلقة من تسيبراس. ثم هناك أيضاً استياء كبير في أوساط النواب السابقين الذين خسروا مقاعدهم خلال المعركة الانتخابية.
ولا شك، وتعني هزيمة «سيريزا» الكثير، وتعطي العديد من المؤشرات حول مستقبل اليونان ومستقبل أوروبا بشكل عام. ففي البداية كان كثيرون من يساريي اليونان وأوروبا مؤمنين بأن هناك طريقاً بديلاً ممكناً لمقاومة الرأسمالية. وكان «سيريزا» وقتها يحمل آيديولوجيا اليسار الراديكالي ويطرح خطاباً ضد «إذلال» اليونان بسبب ديونها من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد. لكن بعد أربع سنوات بهتت صورة الحزب البراقة، وبات مثالاً لما يحدث حينما يتخلى الراديكاليون عن راديكاليتهم، ويعترف تسيبراس بهذا. ويبرّره بأنه تخلى عن أفكاره في مقابل إنقاذ اليونان، ولو أنه دفع الثمن غاليا.
من الجانب الآخر، على رأس «الديمقراطية الجديدة» استعاد اليمين المحافظ الحكم في اليونان بزعامة كيرياكوس ميتسوتاكيس، رجل الأعمال الذي تعهد بأن أولوياته «إنهاض» اليونان وإحياء الاقتصاد بعد مرحلة مؤلمة عاشتها البلاد خلال عهد حكومة اليسار الراديكالي. ولقد وعد ميتسوتاكيس بتأمين وظائف «أفضل» من خلال النمو والاستثمار الأجنبي والاقتطاعات الضريبية وتذليل العقبات أمام الشركات ومجتمع الأعمال.
وحقاً، بعدما عاشت اليونان أزمة مالية طاحنة منذ عام 2010 احتاجت معها لدعم مالي من شركائها بالاتحاد الأوروبي ثلاث مرات، يتطلع ميتسوتاكيس إلى أن يعيد الازدهار للشعب بجعل الحياة أفضل من خلال فتح آفاق جديدة تساهم في تحقيق النمو وإعادة 400 ألف مهاجر إلى حضن اليونان. ولكن على رئيس الوزراء الجديد التحرك بسرعة لمعالجة مجموعة كبيرة من المشكلات الاقتصادية العالقة. ذلك أنه في حين يتوقع المستثمرون من ميتسوتاكيس إثبات أن سمعته الصديقة للأعمال ستدعم النمو، يرى مراقبون أنه سيحتاج إلى الوفاء بتعهداته لمعالجة القضايا الشائكة، بما في ذلك المالية الحكومية والقروض المتعثرة والبيروقراطية في ظل القيود المالية المشدّدة التي وضعها الدائنون على البلاد.
من جهة ثانية، مع أن ميتسوتاكيس ورث اقتصاداً في حالة تحسّن، وارتفاعاً في البورصة، ينبغي عليه ضمان أن تتمكن اليونان من جذب الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها، وخلق فرص عمل في وقت تتخلص من أزمة مالية استمرت أكثر من عقد من الزمن وأثرت على مستويات المعيشة. وكل هذا يأتي ذلك في الوقت الذي أكد ميتسوتاكيس «أن عبء المسؤولية ثقيل لكنني على وعي تام بالوضع في البلاد». وبالفعل، يخطط رئيس الوزراء الجديد، لسن تشريع سريع للتخفيضات الضريبية التي ستدخل حيز التنفيذ اعتباراً من عام 2020 لتحفيز النشاط الاقتصادي وإظهار المستثمرين أن اليونان تخلق بيئة أكثر أماناً للمستثمرين. ويبقى أن نرى كيف سيكون رد فعل الدائنين، بالنظر إلى أنهم يريدون حماية الإنجازات التي تحققت حتى الآن بشأن الأهداف المالية.
كذلك يسعى رئيس الوزراء الجديد إلى مضاعفة معدل النمو في اليونان إلى 4 في المائة عام 2020. ومن أجل تحقيق ذلك يحتاج إلى الاستثمارات، لإقناع المستثمرين أنه بإمكانهم الوثوق بالبلد مرة أخرى. ولذلك يرغب في المضي قدماً بالمشروع الاستثماري «إلينيكو» في أرض مطار أثينا السابق الذي طال انتظاره. إلا أن هذا لن يكون كافيا، إذ سيتوجب على الحكومة الجديدة التعامل مع الروتين والنظام القضائي البطيء والفساد، وكذلك تسريع عمليات الخصخصة، خاصة في قطاع الطاقة.
وأيضاً يسعى ميتسوتاكيس للسيطرة على مشاكل شركة الكهرباء العامة المسؤولة عن توليد ثلثي الطاقة، وإمداد كل البلاد تقريبا بالكهرباء، بعدما تساءل مدققو الحسابات في أبريل (نيسان) الماضي عن قدرة الشركة الحكومية على مواصلة عملياتها إثر خسارتها التي تجاوزت 500 مليون يورو خلال العام الماضي 2018. وللعلم، أعلن رئيس الوزراء اليوناني الجديد في أول اجتماع لحكومته عن خطط إصلاحات واسعة النطاق، وسلم الوزراء ملفات تتضمن المطلوب منهم خلال الفترة المقبلة. إذ قال ميتسوتاكيس في أول اجتماع لحكومته «نحن مستعدون للعمل الجاد ولقد بدأنا العمل بالفعل»، معلنا عن خطط لتنفيذ إصلاحات واسعة النطاق تشمل رقمنة أجهزة الدولة وخفض الضرائب لدفع عجلة الاقتصاد وتعزيز النمو وتوفير فرص العمل وإعادة الكرامة للشعب اليوناني الذي عانى سنوات طويلة تحت وطأة تدابير التقشف جراء الأزمة المالية. ثم أضاف – أمام أعضاء مجلس الوزراء - بعد يوم من أداء اليمين الدستورية وبعد ثلاثة أيام من كسب الانتخابات، أنه يريد أن تجذب الإصلاحات استثمارات وتزيد النمو الاقتصادي والتوظيف، لتحسن في النهاية جودة الحياة التي تدهورت خلال العقد الذي شهد الأزمة. وبحسب خطة رئيس الوزراء، يجب أن تقنع الإصلاحات الدائنين الدوليين بقبول شروط أقل شدة لسداد الديون الملتزمة بها أثينا.

رئيس الوزراء الجديد في سطور
> كيرياكوس ميتسوتاكيس، ولد في 4 مارس (آذار) عام 1968 في أثينا، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال، وهو نجل قسطنطين ميتسوتاكيس رئيس وزراء اليونان الأسبق من عام 1990 حتى عام 1993. كما أن شقيقته الكبرى هي دورا باكوياني وزيرة الخارجية السابقة وعمدة أثينا، وهو أيضا خال عمدة أثينا الجديد كوستاس باكويانيس (ابن دورا).
أنهى تعليمه الثانوي في «كلية أثينا» عام 1986 وهي مدرسة أميركية – يونانية خاصة راقية يدرس فيها أبناء النخبة في اليونان. ثم اتجه إلى الولايات المتحدة حيث درس السياسة والعلوم الاقتصادية وتخرّج ببكالوريوس آداب في الدراسات الاجتماعية من جامعة هارفارد عام 1990. ثم حاز على الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة ستانفورد عام 1993، ثم عاد إلى هارفارد وحصل منها على درجة الماجستير في إدارة الأعمال عام 1995.
انتخب كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيسا لحزب الديمقراطية الجديدة في الجولة الثانية في الانتخابات الحزبية يوم 10 يناير (كانون الثاني) 2016. وتولى حقيبة وزارة الإصلاح الإداري والحكومة الإلكترونية بين عامي 2013 و2015 في حكومة أندونيس ساماراس. وهو نائب عن الدائرة البرلمانية الثانية للعاصمة أثينا منذ عام 2004. وأعيد انتخابه في فبراير (شباط) 2015 للمرة الخامسة على التوالي بأربعة أضعاف الأصوات التي حاز عليها في الانتخابات الوطنية في مايو (أيار) 2012.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».