نصف الأفلام جاءت إلى مهرجان تورنتو بحثا عن موزعين

أفلام تمزج الواقع بالخيال

لقطة من «إسكوبار: الجنة المفقودة»
لقطة من «إسكوبار: الجنة المفقودة»
TT

نصف الأفلام جاءت إلى مهرجان تورنتو بحثا عن موزعين

لقطة من «إسكوبار: الجنة المفقودة»
لقطة من «إسكوبار: الجنة المفقودة»

يدور كل شيء في مهرجان تورنتو حول اللحظة الآنية، ولا شيء عن تلك التي مرّت، إلا أنه بالإمكان لمن زار هذا المهرجان من قبل ملاحظة الخدود العميقة التي سادت العمل في السينما وحولها خلال السنوات العشرين الماضية.
فمثل كل مهرجان آخر، أصاب التغيير هذا المهرجان. بات أكبر وأضاف إلى مسؤولياته السابقة - التي كانت لم شمل الأفلام الجيّدة من كل أنحاء العالم وعرضها لجمهور متعطش معظمه كندي وأميركي جاء يتعرّف - مسؤوليات أخرى. في السابق، كان الجمهور هو الهدف. في مطلع التسعينات أخذت تتشكل بوادر السعي لكسب ود الشركات الأميركية الكبيرة، وفي السنوات الست الماضية تم لتورنتو كسب ذلك الود ضمن استراتيجية مفادها الاستحواذ على القمّة بين مهرجانات أميركا الشمالية.
لا يزال يعرض أفلاما فنية وغير تجارية للجمهور الباحث عن الفن والقيمة، لكنه يهتم أكثر بتوفير الجو المناسب للصناعة وأهلها. في السابق، كانت سيارات «الليموزين» الطويلة محصورة في دزينة من المهام، الآن تتجمّع أمام كل فندق درجة أولى طوال النهار مشغولة بنقل مستأجريها من اجتماع عمل إلى آخر.
في السابق، كنت لا تزال تجد فنادق تحط بها إذا لم تحجز مبكرا. الآن عليك أن تحجز للعام المقبل من الآن.
في الماضي عشرة حفلات ساهرة في الأيام العشرة التالية ليوم الافتتاح، الآن يبدو أن هناك عشرة حفلات ساهرة في كل يوم.
في أحدها وجدنا الممثل بينيثيو دل تورو جالسا مع رجلين في ركن يتحدثان بجدّية لا تناسب السهرة. لا تستطيع أن تدلف إلى هذه المجموعة لكي تقول «مرحبا»، لكنك تستطيع أن تلحظ أن بينيثيو هو الذي يميل إلى الصمت. لاحقا ما تعلم أن أحد الشخصين الآخرين هو الإيطالي أندريا دي ستيفانو الممثل الذي لعب دور أمير هامبورغ في فيلم «أمير هامبورغ» ودور الراهب في «حياة باي»، والذي انتقل إلى الإخراج عبر فيلم جديد من بطولة بينيثيو هو «إسكوبار: جنة مفقودة». الشخص الثالث أحد مسؤولي استوديو «يونيفرسال»، والاجتماع كان لبحث إمكانية شراء الشركة الكبيرة هذا الفيلم الجديد الصغير.
في مثل هذه المناسبات، مساعدة الممثلين لمخرجيهم أو منتجي أفلامهم في اجتماعات كهذه أمر مهم. لكن القرار في النهاية هو للحذر في مثل هذه الأيام. الفيلم الذي شوهد في اليوم التالي، لا بأس بمستواه فنيا وموضوعه مهم جدا، لكن على «يونيفرسال»، أو أي شركة أخرى، أن تنظر إليه من زاوية وحيدة: استرجاع ما ستدفعه في سبيل شراء حقوقه وفوق ذلك ربحا.
سيرة غير كاملة
الموضوع المهم يتعامل وسيرة حياة رئيس العصابة الكولومبية الذي دوّخ البوليس الأميركي والمكسيكي والكولومبي على حد سواء لسنوات عديدة بابلو إسكوبار. يؤدي الدور دل تورو نفسه، ومن قرأ ذلك التحقيق المثير والطويل على صفحات مجلة «ذا نيويوركر» الأسبوعية قبل ستة أشهر أو نحوها يدرك حماس السينمائيين لتحويل قصّة حياة إسكوبار إلى فيلم، علما بأن الفيلم المنجز الآن لم يُقتبس عن ذلك التحقيق، بل هو نتيجة مشروع بدأ في نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 2012 وانتهى تصويره قبل سنة وإعداده قبل ثلاثة أشهر.
الفارق بين المادّة المنشورة عن حياة بابلو إسكوبار في أشهرها الأخيرة متنكرا ومتنقلا بين المخابئ ومتسللا في أنفاق تحت الأرض، وبين الفيلم، أن الأخير يعمد إلى تقديم شخصية مستقاة من الخيال لشاب (جوش هشتنسون) تقوده الظروف للتعرّف على «الزعيم بين كل زعماء المخدّرات في أميركا اللاتينية» إسكوبار. هذا منهج كان اعتمده المخرج كيفن ماكدونالد سنة 2006 عندما عمد وكتّابه البريطانيون (بيتر مورغان أحدهم) إلى خلق شخصية مستقلة هي شخصية الطبيب نيكولاس (أداها جيمس ماكفوي) الذي يجد نفسه وجها لوجه أمام الرئيس الأوغندي عيدي أمين (فورست ويتيكر) في فيلم «آخر ملوك اسكوتلندا». الحكاية بالتالي دارت حول ذلك الطبيب في حين تم تحييد شخصية عيدي أمين لدور شبه مساند ولو أنه نال عنه أوسكار أفضل ممثل في العام التالي.
هنا أحد أبطال «لعبة الجوع»، هشتنسون، هو ذلك الشخص الذي عبره يتطرّق الفيلم إلى شخصية إسكوبار.
هذه السيرة غير الكاملة التي تؤلّف المشاهد الخيالية بينما تسوق من حين لآخر بعض خيوط الواقع، ليست الوحيدة مما يمكن اعتباره، ولو إلى حد، أفلام سيرة. لعل أكثر هذه الأفلام سعيا للالتصاق بالحقيقة فيلم هندي شهد اهتماما لا بأس به كونه يدور حول الملاكمة الهندية ماري كوم التي، كما يكتشف امرؤ مثلي لم يسمع بها قبلا، فازت في بضع مباريات دولية. تؤديها بريانكا شوبرا تحت إدارة المخرج أومونغ كومار.
فيلم هندي آخر دعم الحضور السينمائي القادم من نيودلهي هو «مارغريتا.. بقشّة» (Margarita‪,‬ With a Straw) الذي يدور حول طالبة نابغة اسمها كالكي تركت جامعة دلهي وأمت نيويورك بحثا عن مستقبل يناسب طموحاتها.
وفي صفوف المدارس يجول الفيلم الفرنسي «هذه أرضي» بين المدارس الفلسطينية والإسرائيلية باحثا عن «الحقيقة» في «ادعاء» كل طرف أن هذه الأرض هي أرضي أنا. إنه فيلم تسجيلي لتمارا إردي التي تأخذ على عاتقها القيام بتصوير زياراتها لست مدارس موزعة على جانبي الجدار الفاصل لتنجز فيلما مثيرا للاهتمام لكنه ليس خارقا للتصوّر.
فيلمان من كوريا (الجنوبية بالطبع إذ لا أثر سينمائيا لكوريا الأخرى على الخارطة) يثيران الاهتمام: «عربة» هو رابع فيلم للمخرج بو جي وونغ وله نزعة عمّالية، إذ يدور حول عدد من الموظفين والعمّال في محل كبير يتحدون معا بعدما واجه بعضهم الإقالة لأسباب اقتصادية.
الفيلم الثاني هو «براءة قرمزية» ليمي فيل سونغ، أحد الواعدين من الجيل الجديد (شأنه في ذلك شأن المخرج الكوري الآخر) وهو اقتبس فيلمه عن رواية كلاسيكية حول بروفسور في الجامعة تبدأ مشاكله عندما يضعف بصره لدرجة العمى. بذلك لا يواجه مشاكل بدنية لم يعتد عليها من قبل، بل يصبح أكثر تسلّطا عندما تقع في حبّه فتاة اعتقدت أنها ستكون سندا له.
نوافذ معرفة
الواقع أن الأفلام والحكايات تتعدد وهي موزّعة (حتى مساء اليوم حين ينتهي المهرجان) على نحو عشرين صالة بمعدّل يقترب من 27 فيلما كل يوم. هي أفلام كثيرة نصفها على الأقل جاء يبحث عن فرص توزيع، ونصف هذا النصف وجد ما جاء يبحث عنه. لكن إذا ما عاينا الناحية الفنيّـة، فإن هذه الكثرة لم تنجب أعمالا خارقة المواصفات. اكتشافات تتعدّى المحيط المباشر لبعض الأفلام وتلهب أنفاس المعنيين على شتى جوانب الحدث جمهورا ونقادا وسينمائيين.
أكثر من ذلك، فإن الكثير من المثقفين والهواة يعتبرون أن الأفلام الجماهيرية الكبيرة ليست السبب الذي من أجله يشترون البطاقات ويقفون في الصفوف الطويلة ويحضرون الأفلام. هذه الآتية من هوليوود وجوارها يستطيعون انتظارها لحين عرضها التجاري القادم بلا ريب.
منطق صحيح لمن يعتبر السينما نافذة للمعرفة وليست بابا للترفيه. لكن على الجانب الآخر من هذا الاعتبار تبقى حقيقة أن المواضيع التي تطرحها الأفلام الهوليوودية هي التي يقبل عليها القسم الأكبر من المشاهدين طوال السنة.
وهذه كانت كثيرة هذا العام، قليل منها ورد في التقارير السابقة. غالبها توالى خلال الأيام العشرة الماضية مثل يوم ماطر عليك فيه أن تخرج من البيت ومن دون مظلة واقية.
لدينا «المُوازي» (The Equalizer) لأنطوان فوكوا، وبطولة دنزل واشنطن، المأخوذ عن المسلسل التلفزيوني الذي قام ببطولته الممثل (الأبيض) إدوارد وودوورد في الثمانينات: «تحرّي» يعمل بشروطه الخاصة ويحقق العدالة في نهاية كل شوط. هذا اللقاء بين المخرج وبطله هو الثاني من بعد فيلمهما «يوم التدريب» الذي شارك إثان هوك في بطولته.
في الجو البوليسي ذاته شاهدنا «الفرنسي» لسيدريك جيمينيز المأخوذ من وقائع حقيقية حول سعي البوليس الفرنسي للإيقاع بعصابة من المافيا في مارسيليا. جان دوجاردان («الفنان») قاد البطولة. اللافت أن هذا العنوان الإنجليزي للفيلم هو «الاتصال» (The Connection)، وانطلاقا من ذلك ومن موضوع الفيلم وموقع أحداثه يبدو أن الغاية كانت الاستفادة من الدرب الذي شقّه فيلم «الاتصال الفرنسي» لويليام فردكن (1971) أو من الجزء الثاني (الذي تقع أحداثه في مارسيليا فعلا) الذي حققه جون فرانكنهايمر بعد ثلاث سنوات على إنتاج الأول.
فيلم فرنسي آخر شهد اهتماما ملحوظا هو «الصديقة الجديدة» للمخرج الذي لا يتوقّف عن العمل إلا ليبدأ من جديد فرنسوا أوزون. وفي «البوابة» للمخضرم ريغيه فارنييه عودة إلى حكايات الفرنسي في الشؤون الشرق جنوب آسيوية كما الحال في أبرز عملين له «إندونيسيا» و«شرق - غرب».
جبران رسوم متحركة
وفي مقابل الفيلم الأميركي «قتل جيّد» الذي استعرضناه سابقا هناك «كذبة جيّدة» الذي يحاذي، مثل ذلك الفيلم، الأشواك السياسية، لكنه ينجح في اجتيازها على عكس فيلم أندرو نيكول المذكور. الفيلم الجديد من بطولة ريز ويذرسبون ومن إخراج الكندي فيليب فالارديو الذي سرق الاهتمام قبل ثلاث سنوات عندما أخرج «مسيو لازار» عن المعلّم الجزائري الذي جيء به للتدريس ليكتشف الطلاب، بعدما تعلّق بعضهم به، أنه لاجئ والسلطات تطلبه لكي تعيده إلى بلاده.
الفيلم الجديد يدور حول امرأة تقرر أن تنقذ مستقبل أربعة أطفال سودانيين التقطتهم خلال رحلة إنسانية لها. لكن هذا الفيلم لم يكن الفيلم الأكثر استئثارا من بين جديد الممثلة ويذرسبون. قبله بأيام شهدنا العرض العالمي الأول لفيلم «البرية» (Wild) للمخرج الذي قدّم في العام الماضي «دالاس بايرز كلوب» جان مارك فاليه.
الفيلم الجديد يتمحور حول الممثلة ويذرسبون في دور امرأة تقرر القيام برحلة تمتد لأكثر من ألف ميل (من حدود المكسيك إلى جبال ولاية أوريغون) لعلها تجد في العزلة والوحدة وشقاء الرحلة جوابا عن أسئلة حياتها المتكاثرة بعد فشل زواجها وتعرّضها لمحطات حياة قاسية.
يبرز من الماضي فيلم شون بن «إلى البرية» (Into the Wild). لجانب العنوان المتشابه هناك تلك الرحلة الكبيرة في الطبيعة التي لا تكن، على هذه الشاكلة، سوى العداء لشخص أعزل من التجربة. المختلف هو أن إميل هيرش كان مناسبا ليمثل شخصية الشاب الذي ينطلق غير لاوٍ على شيء معرض نفسه للتهلكة، في حين أن المرء عليه أن يتغاضى عن أن ويذرسبون أكبر سنّا من الشخصية التي تقوم بتمثيلها. كلاهما، من ناحية أخرى مقتبس عن حدث حقيقي منشور في حقل المغامرات الواقعية.
أخيرا، ولن يكون آخرا، ها هي سلمى حايك تنجز ما كان سبق لها أن قدّمت جزءا يسيرا منه في «كان»: «النبي لخليل جبران» الذي أنتجته بتمويل كندي، أميركي، فرنسي، لبناني، قطري كفيلم أنيميشن مع صوت ليام نيسون قارئا لأشعار الأديب اللبناني الذي لا يذكر التاريخ أنه اكترث للسينما يوما.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)