لم يضاه حرارة باريس في الأسبوع الماضي، سوى غليانها بالأفكار والإبداع. فقد كانت تحتفل بموسم الـ«هوت كوتور» الذي عودنا أن يتبارى فيه مصممو أكبر بيوت الأزياء والمصممون المستقلون على حد سواء، في استعراض إمكانياتهم الفنية وخصب خيالهم. فهو موسم اختبار الأفكار الجديدة والتقنيات الحديثة التي يتم ترويضها بشكل كبير في موسم الأزياء الجاهزة فيما بعد. بالنسبة للمرأة فإنه يعني تحفا تدغدغ كل الحواس، وبالنسبة للمصممين فرصة لإطلاق العنان لخيالهم دون حسيب أو رقيب، إلى حد ما، لأنه حتى في الحالات التي لا يستطيعون فيها أن يشطحوا بأفكارهم، خوفا أن تفلت منهم زمام الأمور ويخسروا بعض الزبونات، فإنهم على الأقل يُحلقون بخيالهم إلى وجهات تعبق بالتاريخ والسحر والغموض يغرفون من كنوزها ويستكشفون أسرارها لينسجوها لنا، كل بطريقته. إيلي صعب وستيفان رولان مثلا سافرا بنا إلى الصين، فيما أخذنا زهير مراد إلى المغرب وغيرهم كُثر. لكن هناك أيضا من بقي متشبثا بإرثه معتمدا على أرشيفه لنسج خيوط تربط الماضي بالمستقبل، كما هو الحال بالنسبة لـ«ديور» و«شانيل» و«فالنتينو» على سبيل المثال.
الخلاصة أنه كان أسبوعا حافلا أعادنا إلى الزمن الجميل، حين كان موسم الهوت كوتور مختبرا لطرح أفكار قد تكون غريبة في بعض الأحيان، لكنها دائما ممتعة تفتح جدالات فنية أو اجتماعية. وليس أدل على هذا من عرض «ديور». فمصممة الدار ماريا غراتزيا تشيوري، تبنت القضية النسوية منذ التحاقها بها في عام 2016؛ الأمر الذي أكسبها ولاء المرأة من جهة، ووساما شرفيا رفيع المستوى من مارلين سكيابا، وزيرة الدولة للمساواة بين الجنسين، تسلمته في حفل كبير في أول يوم من الأسبوع، أي في اليوم نفسه الذي قدمت فيه تشكيلتها للخريف والشتاء المقبلين. في خطابها، أشادت الوزيرة بشجاعة المصممة الإيطالية في تناول قضايا حساسة بطريقة راقية، ومساهمتها القيمة في مجال الموضة. وبالفعل، ما نجحت فيه المصممة أنها طوعت الموضة لصالح المرأة، بحيث لم تُعد للدار أنوثتها كما أرساها المؤسس في عام 1947 فحسب، بل جعلتها دارا ناشطة نسوية أيضا، من خلال مطالبتها بالمساواة تارة، وبتمكين المرأة تارة. كل هذا مررته عبر شعارات تكتبها على «تي - شيرتات» تقدر بمئات الدولارات ومع ذلك تتلقفها الفتيات في كل أنحاء العالم بنهم. وسواء كان توجهها نابعا من قناعة شخصية أو كان حركة تسويقية ذكية، فإنها حققت المعادلة الصعبة بين التجاري والإبداعي. غير أن تشيوري في تشكيلتها لخريف وشتاء 2020 أكدت ما هو أكثر من ذلك: ثقة بالنفس أكثر من المعتاد انعكست على تشكيلة، يمكن القول إنها من أقوى وأجمل ما قدمته حتى الآن للدار. كل قطعة كانت بمثابة أداة للتعبير عن النفس. فالـ«هوت كوتير» حسب رأيها «خيار شخصي وخاص للغاية» لكون كل قطعة تُفصل على المقاس وبتصميم فريد غير متاح للجميع. لم تحتج إلى عدة ألوان لتوصل رسالتها هاته. اكتفت باللون الأسود لأنه «قريب جدا من نفسي» كما صرحت، ولأنه أيضا يعود بنا إلى أساسيات الدار في الخمسينات من القرن الماضي. اختفى اللون الرمادي الذي يميز مقر الدار الرئيسي والأيقوني في «30 أفينو مونتين» الذي كان مسرح العرض وتناثرت في أرجائه، بالمقابل، الزهور المتفتحة الأمر الذي خلق خلفية مثالية لأزياء غلب الأسود على نسبة 90 في المائة أو أكثر منها. كل هذا ساهم في أن يُضفي عليها غموضا دراميا افتقدته الدار في السنوات الأخيرة. هذه المرة لم تظهر الشعارات سوى في قطعة واحدة كتبت عليها «هل الملابس عصرية؟». سؤال كان عنوان كُتيب طرحه الفنان والكاتب والمعماري برنار رودوفسكي في عام 1944، قبل ثلاث سنوات فقط من إطلاق كريستيان ديور ما أصبح يُعرف بـ«ذي نيو لوك»، وتزامنا مع افتتاح أول معرض خاص بالموضة في متحف «موما»، وتناول فيه الكاتب علاقة البنايات بالموضة.
وكان جواب رودوفسكي عن سؤاله، أن الموضة ليست مجرد عملية إبداع بل أسلوب حياة. طبعا انتقد كيف تتغير بشكل سريع ولا تبقى على حال، إلا أنه أيضا اعترف بأن التصميم الجيد لا يعترف بزمن. المصممة الإيطالية فهمت وجهة نظره وأعجبت بها، إلى حد أنها تعاملت مع هذه التشكيلة من زاوية أنثروبولوجية أيضا، لكن بنظرة أكثر إيجابية ترد للموضة اعتبارها.
كانت إجابتها عن سؤاله أكثر تفاؤلا. فالموضة تعكس عصرها حتى عندما تعود إلى الماضي تتلمس رومانسيته وتحن إلى بريقه وألوانه البسيطة مثل الأسود. فالمرأة اليوم أصبح لها رأي مستقل ولا تحتاج إلى الخضوع لإملاءات غيرها حتى تفرض نفسها، بل تحتاج إلى خيارات متنوعة تعكس ذوقها وشخصيتها. لهذا كانت هناك كثير من القطع التي تقطر أنوثة وتلعب على نوع من الإثارة بشكل راق وجديد على المصممة، ظهر في الجوارب المخرمة أو المصنوعة من الدانتيل، والخصور المحددة، كما في التنورات المنسدلة على الجسم في استدارة محسوبة تُبرز ضمور الخصر. تشكيلة تقول باللون الأسود إن الأنوثة لا تتعارض مع المعاصرة، وإن للمرأة الحق في أن تختار ما يروق لها. كانت هناك أيضا لمسة معمارية في كثير من القطع، قد تعود إلى تأثير رودوفسكي عليها، أو إلى السيد كريستيان ديور نفسه. فهو الآخر كان يعشق الهندسة إلى حد أنه كان من الممكن أن يمتهنها لولا أن خطفه عالم الأزياء منها.
لهذا تشير المصممة إلى أن الأسود قد يكون لونها المفضل الذي تعتمده كثيرا على المستوى الشخصي، إلا أنها لم تتبنه في هذه التشكيلة لهذا السبب، بل لأنه أفضل وسيلة لتسليط الضوء على الأحجام والخطوط الهندسية. فكل قطعة كانت تحتفل بفن العمارة من خلال نحت جسد المرأة، سواء تعلق الأمر بالفساتين أو التنورات السخية التي تستحضر حقبة الخمسينات من القرن الماضي، أو جاكيت الدار الأيقوني «ذي بار جاكيت» أو المعاطف المفصلة على الجسم بأكتاف ناعمة، مؤكدة رأي رودوفسكي بأن كلا من فن العمارة والموضة يقوم على توازن الأحجام.
وإذا كانت ماريا غراتزيا تشيوري قد ألقت بتحية، ولو غير مباشرة، إلى مؤسس الدار، فإن تحية فيرجيني فيار، مصممة «شانيل» الجديدة للمصمم الراحل كارل لاغرفيلد، كانت بالبنط العريض. حولت «لوغران باليه» إلى مكتبة ضخمة مكونة من ثلاثة طوابق يمكن الوصول إليها بواسطة سلالم حديدية، تحتضن كتبا لأدباء ومؤلفات لكبار المفكرين والفلاسفة من أمثال ستاندال وفلوبير وأفلاطون وأرسطو وهوميروس وغيرها من الأسماء القديمة والمعاصرة على حد سواء. كانت المكتبة إشارة إلى شغف المصمم الراحل بالكتب، إذ يقال إنه كان يمتلك الآلاف منها وكان قارئا نهما لها. خليفته فيرجيني ترجمت هذا الشغف، من زاوية ثقافية اعتمدت فيها على أحذية من دون كعوب وياقات عالية، بعضها يُعقد على شكل فيونكة، ونظارات للقراءة. لم تكن المرأة التي رسمتها طاغية الأنوثة أو مثيرة، من الناحية الحسية، بقدر ما كانت راقية وهادئة، قد تكون سكرتيرة تنفيذية أو سيدة أعمال أو محامية.
لكن من الخطأ القول إن فيارد تناست أو تجاهلت الآنسة غابرييل شانيل. فتيمة الكتب المرتبطة بكارل لاغرفيلد كانت مجرد جسر يربط بينها وبين المؤسسة التي كانت تؤمن مثل فيارد بأن الأناقة لا تتعارض مع الراحة والعقل والذكاء، وبأن الـ«هوت كوتور» يجب ألا تقتصر على مناسبات المساء والسهرة. في أول عرض لها في موسم الأزياء الراقية، لم تقم فيارد بثورة، بمعنى تغيير جذري لرموز الدار، ربما لأنها عملت مع لاغرفيلد لعقود، منذ 1997، إلى حد أنهما انصهرا معا وأصبح لهما الأسلوب والنظرة الفنية نفسهما. كان واضحا أنها ركزت على الاستمرارية، ولم تر داعيا لخض المتعارف عليه أو التشويش على وصفة ابتكرها المصمم الراحل وأكدت أنها ناجحة لثلاثة عقود تقريبا. الإضافة الجديدة أنك تشعر بأن هناك لمسة أكثر نعومة وخفة مقارنة بالمواسم الماضية. تفسير المصممة أنها تصورت «امرأة أنيقة من دون تكلف» وهو ما جسدته في انسيابية الخطوط من خلال بنطلونات واسعة تُذكرنا بتصاميم كوكو شانيل في الثلاثينات من القرن الماضي، والأحذية المنخفضة ومعاطف التويد الطويلة مع تخلص أغلبها من الصرامة. لكن رغم هذه النعومة التي تستشفها بين الخيوط والثنيات، فإن فيارد لم تتجرأ أن تخرج عن النص الذي تعودت عليه وأكدت السنوات أنه ناجح. فقد كانت هناك أيضا قطع مفصلة بياقات عالية، تحدد العنق وتؤطره، باللون الأبيض تبدو وكأنها تحية لكارل لاغرفيلد. وإذا كانت الأغنية التي تقول: «أريد فقط أن أكون امرأة» والتي رافقت جزءا من العرض، تلميحا أو رسالة لأي شيء أو حتى اختيارا لا شعوريا، فإن فيرجيني فيارد ربما تريد أن تضخ الدار بالمزيد من الأنوثة والنعومة، وهو أمر لن يُزعج زبونة الدار على الإطلاق.
ستيفان رولان
كان المصمم هادئا قبل عرضه، وهو ما قد يستغربه أي متابع للأفلام الوثائقية عن الموضة. فالصورة المترسخة في البال عن الأجواء خلف الكواليس، هي صورة خلية نحل تضج بالحركة بحيث لا يمكنك أن تخطو أي خطوة قبل التأكد منها حتى لا تدوس على أحد. لكن ستيفان رولان فند هذه الصورة. كان مبتسما ومرتاحا، فيما كان هدوء تام يسود الركنين المخصصين للماكياج والبروفات في دار الأوبرا، مسرح العرض. المتابع لمسيرة هذا المصمم الفرنسي يعرف أن هدوءه لا ينبع فقط من خبرته الطويلة بل أيضا من راحة نفسية وثقة اكتسبتها مؤخرا وتستشفهما من حديثه وتفاؤله. ثقته بنفسه لم تكن يوما مشكلة، فقدراته الفنية لا يُعلى عليها، لكن ثقة الآخر به كانت دائما هي السؤال. والمقصود هنا الدعم المادي في وقت أصبح فيه من الصعب على المصممين المستقلين أن يقدموا عروضا ضخمة من دون تمويل، بعد أن التهمت المجموعات الكبيرة قسطا كبيرا من السوق وفرضت استراتيجيات من الصعب على الكل مجاراتها. لكن ستيفان، الذي كان دائما يسبح ضد التيار بأسلوبه المعماري، يؤكد أنه وجد ضالته مؤخرا في الفنان والمعماري الصيني المعروف سونغ دونغ. اكتشفا صدفة أن هناك قواسم كثيرة مشتركة بينهما، وكانت النتيجة تعاونهما مع بعض في الموسم الماضي حين قدم المصمم تشكيلة استلهمها من أعمال الفنان. هذه المرة تطور التعاون وتوسع بالمعنين المجازي والحرفي. فقد اصطحبه سونغ دونغ في رحلة إلى بلده الصين، وفتح له أبوابا لا تُفتح للجميع، اكتشف فيها حضارة عريقة تلفها كثير من الأسرار. يقول ستيفان في لقاء جانبي قبل عرضه، إنه انبهر بما رآه في المدينة القرمزية المحرّمة من قصور منيعة وتحف وآثار نادرة «لقد سمعت كثيرا عن الصين وزرتها من قبل، لكني هذه المرة اكتشفت جوانب خفية ما لم أكن أتصور وجودها، خصوصا أني دخلت أماكن غير مفتوحة للسائح العادي. هذه الزيارة زادت من انبهاري وألهمتني كثيرا». جسد المصمم هذا الانبهار في تشكيلة أطلق عليها عنوان «روح إمبراطورة صينية عصرية»، طبعتها الألوان القوية، التي تستحضر ألوان المجوهرات، مثل الأصفر والأحمر والأزرق إلى جانب الأبيض والأسود. طبعتها أيضا خطوط هندسية مأخوذة من فن العمارة الصينية، تظهر حينا في الموتيفات، وأحيانا في الأكتاف المقوسة التي كان يقطر بعضها بريقا بأحجار الكريستال. الجديد فيها غياب التصاميم المنحوتة، بزواياها المحسوبة، التي ميزته في المواسم الماضية، وحلت محلها انسيابية تستحضر الطبيعة الصينية وبيوتها التقليدية وبعض الأحجام الواسعة، المستوحاة من الكيمونو أضافت إليها لمساته الباريسية حداثة.
إيلي صعب
مثل ستيفان رولان، توجه المصمم إيلي صعب إلى الصين. وفيما ركز الأول على معالم الصين ومبانيها وتحفها في كل تفاصيله تقريبا، فإن إيلي دخل إلى قصورها وبلاطاتها، مؤكدا أن موسم «الهوت كوتير» يُقسم المصممين إلى فئتين. فئة تميل إلى استعراض الفنية أو تشطح بخيالها إلى عوالم فانتازيا لتبيعنا الحلم، وفئة تفهم زبوناتها وتخاطبهن بلغة يفهمنها ويتفاعلن معها بسهولة. إيلي صعب ينتمي إلى الفئة الثانية. فهو لا يحب الفذلكة وتعقيد الأمور، بقدر ما يصب كل طاقته في إضفاء الجمال والسحر مع رشة كبيرة من الحرفية على تصاميمه. ورغم ذلك فمن الظُلم القول إنه يستكين إلى المضمون أو يتقيد بالسيناريو الذي كتبه منذ زمن بعنوان الأنوثة والرومانسية، من دون تطويره. صحيح أن أساسياته لا تتغير إلا أن تفاصيلها تخضع دائما لعدة تطويرات تجعلها تبدو دائما مواكبة للعصر وتؤكد أنه يفهم المرأة بالفطرة. في تشكيلته هاته مثلا كانت هناك لمسات لم نعهدها في عروضه من قبل، من ناحية الأحجام والياقات العالية والبنطلونات الواسعة. كانت هناك أيضا لمسات مألوفة، والمقصود بالمألوف هنا كل ما هو مرغوب من قبل المرأة، فيما يخص الإثارة الراقية من خلال الفتحات المحسوبة التي خلقت توازنا مطلوبا.
يقول إنه لم يستطع أن يقاوم جاذبية الصين. أثارته بعظمتها وحضارتها العریقة، لهذا وجد نفسه مندفعا نحوها ليغوص في حريرها وتطريزاتها وألوانها. هدفه كان لف المرأة بهالة من الغموض والسحر الشرقي، وهو ما برز في إطلالات بأكتاف عریضة تشبه أجنحة أو قببا، وطبعات تجريدية تُجسد أشكال نباتات أو كائنات من التراث الصیني. حتى التطريزات التي باتت لصيقة بأسلوبه، أخذت منحى صينيا وإن حرص على إضافة لمسته الخاصة والسخية.
فقد ظهرت هذه التطريزات في سترات واسعة تحددها أحزمة مستلهمة من حزام الـ«أوبي» العريض، ومعاطف على شكل كیمونو، بعضها بأكمام واسعة وطويلة إلى جانب «كابات» وفساتين، بل وحتى في بنطلونات واسعة. ولم تقل الألوان جمالا وقوة عن التصاميم.
فهي الأخرى جاءت غنية بالأحمر القاني والبنفسجي الغامق والذهبي تتراقص على أقمشة مثل المخمل والساتان والتافتا، مُزیّنة بالریش والتول.
لكن أكثر ما يُحسب لإيلي صعب في هذه التشكيلة أنه لم يغرف من رموز الصين بشكل حرفي، فجنب تصاميمه المظهر الفولكلوري وفي الوقت ذاته أعطى التصاميم الصينية التقليدية مثل الكيمونو وحزام الـ«أوبي» وغيرها بُعدا عصريا جديدا، وهو ما ستعتبره أي صينية احتراما لها ولثقافتها. لهذا ليس ببعيد أن نقول إن رحلته هاته قد تكون أيضا لفتة تسويقية ذكية لمخاطبة هذه الزبونة التي يشهد لها عالم الترف بالقوة حاليا. فالسوق الصينية من أهم الأسواق حاليا، وتضم شريحة لا تستهين بها الموضة، بل وتحسب لها ألف حساب، لكونها لا تعشق الـ«هوت كوتير» فحسب بل تمتلك الإمكانيات لاقتنائها، مع العلم أن هذه الشريحة تنطق اسم إيلي صعب بسهولة منذ سنوات.
«فالنتينو»
مسك ختام الأسبوع، كان عرض «فالنتينو». وكالعادة لم يخيب مصممها بيير باولو بكيولي الظن، بل رفع مستوى الأندروفين في الجسم بشكل غير مسبوق. بالنسبة للمصمم، كان العرض فُرصته ليُبرهن أمام أعيننا حبه للحرفية والأعمال اليدوية، وإيمانه بالجانب الإنساني في الوقت ذاته. وهذا ما عبر عنه في آخر العرض بمرافقته الأنامل الناعمة التي تعمل معه وتسهر على كل التفاصيل لتحية الجمهور. بعضهن، تعدين الخمسين من العمر، ركضن إلى مؤسس الدار فالنتينو غارافاني الذي كان جالسا في الصف الأمامي يعانقنه ويهنئنه. فهؤلاء عملن معه قبل أن يتقاعد ويسلم مقاليد الدار إلى مصممين شباب، آخرهم هو بيكيولي، الذي أثبت أنه خير خلف لخير سلف.
هذا الجانب الإنساني عبر عنه المصمم أيضا باستعانته مرة أخرى بمجموعة من العارضات من أجناس وألوان وأشكال مختلفة، مفسرا أن المصور إيرفين بين، أو بالأحرى صورة التقطها في عام 1974 بعنوان «عوالم كثيرة في غرفة صغيرة» تحتفل بالتنوع الثقافي، هي التي ألهمته، وأشعلت اهتمامه هذا، مشددا على أن الجانب الإنساني لا يقتصر فقط على اختلاف الجغرافيا واللون. تجدر الإشارة إلى أن اهتمامه بالتنوع الإثني ليس جديدا عليه، إذ سبق له أن استعان في الموسم الماضي بـ45 سمراء من بين 65 عارضة شاركن في العرض.
هذه المرة شكلت السمراوات نصف العارضات، لكنه لم يقتصر على اللون، بل استعان أيضا بعارضات تجاوز بعضهن الأربعين من العمر بكثير، مثل العارضة السابقة لورين هاتون، 75 عاما، التي شاركت في العرض بفستان أخضر فوقه معطف رمادي وقفازات برتقالية مائلة للأحمر. لم يكن مظهرها نشازا أمام عارضات في عمر الزهور مثل الشقراء جيجي حديد أو السودانية الأصل أدوت أكيش، وهي تتهادى في فستان من التافتا بكشاكش بلون الزمرد استغرق صنعه 903 ساعات. الرسالة التي أوصلها المصمم لنا وهي أن الـ«هوت كوتير» ليست لامرأة بلون واحد أو جنسية محددة أو مقاييس معينة، رغم أنها تقوم على فكرة الشخصي والفريد. فكما قد تكون لامرأة من آسيا أو من أوروبا أو أميركا فقد تكون لامرأة من الشرق الأوسط أو أفريقيا. ما يجعلها خاصة وشخصية أنها مفصلة على مقاس امرأة واحدة لديها الإمكانيات لشرائها، أما في عالم بيير باولو بكيولي فإن هذا التفرد أو الـ«خاص» لم يُخرج المرأة العادية من اللعبة، بل أتاح لها الفرصة للاستمتاع بها كفن ولو للحظات، وهنا تكمن قوته وشاعريته.
انتهى العرض بتصفيقات حارة مصحوبة بدموع ساخنة. كانت شاعريته أكثر من تحمل البعض. كن يمسحن هذه الدموع وهن يُبررنها بالقول إنه عُملة نادرة في الوقت الحالي. وهن مُحقات إذا كانت الفكرة أنه لا أحد قبله نجح في أن يُضفي على الأحجام الضخمة والتصاميم الدرامية، هذه الواقعية المفعمة بالحداثة. فلا أحد يمكن أن يصف أحجامه بالمسرحية أو السريالية. فعلى المستوى التجاري أيضا أكد أنه يتمتع بلمسة ميداسية، بدليل أن كل قطعة يطرحها تؤجج الرغبة فيها.
السر في التفاصيل
> «هل لا تزال الهوت كوتور مهمة وضرورية مقارنةً بعدد زبوناتها التي تشير الأرقام إلى أنهن، في أحسن الحالات، لا يتعدين الألف في العالم أجمع؟». سؤال يطرحه المتشائمون في كل عام تقريباً. والجواب يكون دائماً أنها ضرورية كأي فنٍّ راقٍ.
الفرق أن المكان الطبيعي لأي قطعة تخرج من مشاغل باريس لهذا الأسبوع، هو خزانة امرأة تُقدرها وتعرف قيمتها عوض المتاحف، مع أن بعضها يجد طريقه إلى المتاحف أحياناً. المتحمسون لهذا القطاع متفائلون بأن عدد الزبونات في تزايد بفضل انفتاح أسواق نامية تحركها شريحة شابة تواقة لكل ما هو فريد. والفريد لا يعني فقط التصاميم الباذخة، بل أيضاً التفاصيل الدقيقة التي يمكن أن يستغرق تنفيذها آلاف الساعات. فهذه هي التي تُميزها وتُبرر أسعارها. وإذا كانت الزبونة الجديدة باتت تفرض رأيها وتطالب بالكثير، فإن المصممين كانوا مستعدين لطلباتها حسبما تؤكده عروض خريف 2019 وشتاء 2020.