قنبلة نكهات في وصفات بقايا الطعام

كعكة من بقايا الخبز، مكوناتها بسيطة جداً وطعمها يطابق السينامون رولز، إلا أنها تستغرق عُشر الوقت والجهد.
بقايا خضراوات من سيقان القرنبيط وقمع الفلفل الحلو تتحول إلى حساءٍ مغذٍ منعش، وأرز بائت يجد طريقه إلى المَسلوعة (طبق فلسطيني يتكون من عدس وأرز)، وأفكار أخرى تغرّد خارج السرب بأطباق جديدة من بقايا الطعام، لتُصنّف ضمن أطباق شعبية شهيرة على غرار البايلا الإسبانية.
سوسن أبو فرحة، صاحبة واحدة من أفضل مدونات الطعام في الشرق الأوسط (Chef in disguise)، راق لها أن تتحدى قواعد الرياضيات، وتبتكر أطباقاً من بقايا الطعام، وفقاً لمبدأ وصفة واحدة تعطي وجبتين. وبنظرة سريعة، يبدو حساء الخرشوف خاصتها شهياً، بعد أن استخدمت بقايا الخضراوات التي جمعتها في الفريزر لعمل مرق الخضراوات الغني بالفوائد والنكهات، ثم أضافت بقايا البطاطا المسلوقة التي تبقت من اليوم السابق لتكثيف الحساء، بدلاً من الكريمة.
ولا تتقاعس عن تقطيع الفواكه غير الحلوة، لتخبزها مع خليط «الكرميل» في الفرن. وإن كان لديها خضراوات «ورقيات» على وشك الذبول، فإن مَفن العجة خِيار مُوفّق.
سوسن واحدة ممن تجاوبوا مع مبادرة «غذّوا أحلامهم» التي أطلقها برنامج الأغذية العالمي في رمضان الماضي، سعياً للقضاء على الجوع، مما راق لكثيرين من المهتمين بالطهي؛ أن يُجنبوا أنفسهم الهدر وتأنيب الضمير، في إطار فكرة مفادها: «ليستمر الطفل في الحلم، عليه أن يشبع أولاً».
وتبدي مصورة الطعام الفلسطينية ارتياحاً إزاء المبادرة التي أطلقتها هذا العام مؤسسات إعلامية كبرى مثل «إم بي سي الأمل»، وشركات أخذت على عاتقها نشر الفكرة على أوسع نطاق، فتواصلت مع صناع محتوى من كل أنحاء العالم طلباً للمساعدة في نشر الأفكار والوصفات والنصائح.
تقول سوسن لـ«الشرق الأوسط»: «حقاً إنه مجهود رائع، نأمل أن تحتذي به سائر الشركات والهيئات الإعلامية، ليصبح نهج حياة، وليس مجرد موسم عابر. الاهتمام بتدوير الطعام يتزايد بشكل ملحوظ، وتظهر فيه اللمسة الإنسانية. ومع ذلك، ما زال بعيداً بعض الشيء عن مركز الأضواء».
وحظيت سوسن في طفولتها بأمٍ تمتلك الحكمة في إدارة موارد مطبخها، حين كانت تبذل جهدها في تفريز بقايا الطعام المطبوخ أو توزيعه على المحتاجين، ناهيك عن تحويل بقايا الفواكه إلى مربيات لذيذة أو عصائر منعشة، فيما تستغل بقايا الخضراوات مثل نقر الكوسا في تحضير المتبل، وغيرها من الأطباق التي قد تكون محببة أكثر من الطبق الأصلي، وفق قولها.
سألت سوسن عن السبب المباشر الذي حفزّها للبحث عن أفكار ووصفات لإعادة استخدام بقايا الطعام، فقالت بابتسامة لطيفة: «منذ زمن بعيد، أحاول ما استطعت تقليل الهدر في الغذاء، لكن ما حرّكني بالدرجة الأولى حملة أطلقتها منظمة الغذاء العالمي قبل عدة سنوات، تناولت خلالها أرقاماً مرعبة لهدر الطعام».
وتشعر بمرارة إزاء ذهاب ثلث الطعام المنتج في العالم إلى حاويات القمامة بسبب سوء في التقدير والتخزين، واستهتار من أفراد المجتمع، قائلة: «صدمتني الأرقام، وعاهدت نفسي أن أتغير وأقدم ما أستطيع لأساعد الآخرين ليتغيروا أيضاً». ومن واقع تجربتها، تؤكد أن الوصفة إذا حُضرّت بإتقان وعناية، ودُرست نكهاتها بشكل جيد، فإن أياً كان لن يُعرف أنها حُضرّت من بقايا الأكل، وستكون صاحبتها وفرّت على نفسها الوقت والمال، وحفظت النعمة.
وتخبرنا سوسن أن أول خطوة لمواجهة مشكلة الهدر تكمن في تقليل الزوائد، بحيث نُحضّر ما نحتاج إليه، ونكتفي بما يمكن تناوله، دون مبالغة.
وعن أفضل نصيحة جرّبتها وكانت ذات جدوى، تحكي لنا: «ليضع كل منا ورقة في مطبخه، ويدّون فيها كل طعام يُلقى في القمامة، على مدار أسبوعين، مما سيفتح أعيننا على مواطن الخلل، لنفحص إذا ما كنا نرمي كثيراً من الورقيات، وحينها يتعين علينا تقليل شرائها، أو استهلاكها سريعاً عندما نشتريها. وإن تبين أننا نرمي كثيراً من بقايا الطعام المطبوخ، فهذا يعني أننا نطبخ كميات أكبر مما يجب، وعندئذ لا بد من الترشيد».
«هذا النوع من الأطباق، د. سوسن، هل يتطلب مهارات خاصة؟»... سألت طبيبة الأسنان التي جعلت من الطعام فناً ساحراً، بغية الحفاظ على التراث الفلسطيني، فكان جوابها: «يحتاج بطبيعة الحال إلى ذكاء في اختيار المكونات والنكهات وطريقة التحضير، إلا أنه لا يستدعي مخيلة خارقة».
وتوضح مقصدها: «لا شك أن الخبرة تساعد في اختيار النكهات، وطريقة الطهي الأنسب لكل نوعٍ من بقايا الطعام. وبما أننا في عصرٍ تتوفر فيه المعلومات بسهولة، على هواتفنا أو حواسيبنا، فإنه يبقى على عاتقنا البحث عن المكون المتبقي لدينا، وستجد ربة البيت كثيراً من الأفكار والوصفات المجربة؛ كل ما علينا فعله هو حسن الاختيار».
وحول دور مدوني الطعام في هذا الصدد، تذكر: «نحاول أن نعطي القراء والمتابعين كثيراً من الخيارات والأفكار، فثمة مكونات يكون التعامل معها أسهل من غيرها، ولا يلزم أحياناً سوى أن نغير الطريقة التي سنستخدم فيها المكون الذي لدينا؛ بقايا الخبز - على سبيل المثال - قد تتحول إلى بقسماط (قرشلة)، أو بودنغ بالقرفة والحليب، أو مقرمشات بالزعتر، أو خبز محمص بالثوم والجبن؛ المطلوب أن نفكر خارج الصندوق».
«رز بحليب» تلتقط مصورة الطعام البارعة لهذا الطبق صورة فاتحة للشهية، ويمكنكم تحضيره من بقايا الأرز، حتى أن الطريقة - حسب خبرتها - أسهل بكثير مما لو كان نيئاً، وتقول في ذلك: «بقايا الرز تتعرض لبعض الجفاف في أثناء حفظها في الثلاجة، ولو أننا استخدمناها لتحضير الرز بحليب سيعيد الحليب للرز حيويته ورطوبته المفقودة، ثم نضيف نكهات مثل الماء زهر وقليل من السكر، وأتحدى إن تمكن متذوقو الطبق من تمييزه عن طبق حُضّر من دون استخدام البقايا».
أتوقف قليلاً عند مقادير شوربة البندورة المشوية مع العسل، ويخطر لي أن أسألها إذا ما كانت مبادرات من هذا النوع ترتبط بأوقاتٍ محددة، مثل شهر رمضان، وما تلبث أن تخبو؛ تفكر للحظة ثم تقول: «عن نفسي، سأستمر بنَفس أطول؛ أشعر بارتياح لما أجده من تجاوب كبير من قبل المتابعين. كثير منهم كانوا يحتاجون إلى دفعة في الاتجاه الصحيح، توقظ فيهم الإحساس بأهمية النعمة التي يهدرونها».
وتحدثني سوسن بحماس أن الدارس لمطبخ أي حضارة سيجد أطباقاً كثيرة على هذه الشاكلة، مما يدل على مدى تأّصل فكرة حفظ النعمة، أو تقليل الهدر. وحسب رأيها، فإن السبب يكمن في «أن أجدادنا كانوا مزارعين بسطاء، ولم يكن من السهل حصولهم على الطعام أو المكونات المختلفة، مما أعطاهم تقديراً عميقاً واحتراماً لها، إلا أن هذا التقدير مع الأسف أخذ في الاختفاء، فيما أفقدتنا الوفرة المفرطة لكل شيء هذا الاحترام لنعمة محروم منها مئات الملايين؛ إن توفر الطعام على أرفف المحال التجارية أفقده قيمته لدى الأغلب، ومنحهم الضوء الأخضر للهدر، دون وعي بالنتائج؛ وهذا أمر محزن».
وتأمل أن يصلح المجتمع العربي الخلل في علاقته مع الطعام بسبب انقطاع علاقته مع الأرض؛ كلماتها بدت محملة بالمسؤولية في هذا السياق، حيث قالت: «كثير من الأجيال الحالية لا يدركون مقدار التعب والجهد والحب والوقت الذي يحتاج إليه المحصول لينمو، ولا يعرفون شيئاً عن مدى الأذى والدمار الذي يطال النظام البيئي جراء النفايات».
عاتبة سوسن على «السوشيال ميديا»، إذ تنزعج من بعض صناع المحتوى الذين يعمدون إلى مجاراة تيار المباهاة والإسراف، ويجرّون متابعِيهم خلفهم «بدلاً من أن يحسنوا استغلال تأثيرهم على نحوٍ إيجابي لنشر الوعي، وإلهام الناس لتغيير سلوكهم»... وليت هؤلاء يُلقون بالاً لهذا اللوم!
وتطالب الشركات الكبرى المنتجة للأطعمة والجهات الرسمية بتضافر الجهود، وتنظيم حملات توعوية على مدار العام، بحيث تُرّوج بذكاء، بعيداً عن لغة الخطاب التقليدية الرتيبة، وأن تستبدل بها لغة أكثر تأثيراً وجاذبية، موضحة: «هناك كثير من صناع المحتوى المبدعين في عالمنا العربي. ولو مدت لهم المؤسسات الرسمية يدها، سيتمكن الجميع من تغيير لغة الخطاب، وربما يتغير هذا الحال المحزن».
ولا تنسى أن توجه رسالتها لوزارات التربية والتعليم: «الجيل الجديد جزء من المشكلة، إلا أننا بإمكاننا أن نجعله جزءاً من الحل».
وفي جولة خاطفة، لاحظنا أن ناشطين في الطهي العربي دخلوا في التحدي؛ منهم من استخدم بواقي أوزي الفريكة المفلفلة بالخضراوات واللحمة والمكسرات لتحضير كرات مقلية ومقرمشة، ومن ثمّ تقديمها بطبق فتة جديد، وهناك من قدّم لفائف الدجاج والبروكلي بالبف بيستري.
ومن محاسن «غذوا أحلامهم» أنها جددت من همة سوسن، عندما تبادلت العصف الذهني مع صُنّاع محتوى آخرين، بخصوص وصفات لاستثمار البقايا في إنتاج توليفة طيبة المذاق، مضيفة: «لاقت أفكار إعادة تدوير الطعام كثيراً من التجاوب، وأسعدني كم الرسائل التي حملت صوراً لأطباق جربها المتابعون الذين ابتهجوا بعثورهم على طرق جديدة لتقليل الهدر، ولا شك أني أيضاً تعلمت منهم الكثير».
وهكذا، عكست كثير من المشاركات حساً عالياً من الاهتمام والشغف بالفكرة، والإيمان بأهمية نشر الوعي بين عامة الناس بشأن التقليل من الهدر، تبعاً لسوسن.
وفي نهاية حديثها مع «الشرق الأوسط»، عبرت سوسن عن رغبتها في العمل بجدٍ أكبر يليق بنبل الهدف، موضحة: «في مدونتي، أكتب منذ زمن عن أفكار لإعادة استخدام ما تبقى من طعام، وقد أفردتُ لها سابقاً عدة مقالات، وها هو الوقت قد حان لجمعها في قسم أخصصّه لهذه الغاية، بحيث أضيف إليه ما يستجد من وصفات بشكل دوري».