«حرب باردة» وسير شخصية... صراع الفنان الملتزم مع مصيره الغامض

أعمال تنتصر أو تخيب أمل أبطالها

«حرب باردة»
«حرب باردة»
TT

«حرب باردة» وسير شخصية... صراع الفنان الملتزم مع مصيره الغامض

«حرب باردة»
«حرب باردة»

يُتيح فيلم بافيو بافليوكوفسكي الجديد «حرب باردة»، الذي ما زال يعرض بنجاح نوعي في عواصم أوروبية في الوقت الراهن، النظر إلى الوضع المستجد لمثقفين وفنانين يواجهون وضعاً سياسياً يتحكم في مصائرهم.
على غراره، سبق وأن قدّمت السينما أفلاماً عديدة (أحصيت منها 26 فيلماً ما بين منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم)، تتمحور حول موقف الفنان من ظروف قاهرة تحيط به أو يتعرض لها بحكم وضعه المتميّز في المجتمع. ويتمدد المشهد ليضم كتاباً أو حتى أناس عاديين وجدوا أنفسهم في هذا الوضع غير الاعتيادي حيث عليهم الاختيار بين الولاء للنظام أو التعرّض لغضبته. الموقف المحايد يصبح غير آمن وقد ينتهي بعواقب وخيمة.
- قصة حب
«حرب باردة» ينطلق من زاوية خاصّة به لكنها تؤدي إلى ما سبق قوله. هو فيلم ذاتي وإن ليس بيوغرافياً استمدّ المخرج البولندي بافليوكوفسكي بعض ملاحظاته من حياة والديه التي يصفها في حديث له: «أكثر الشخصيات التي التقيتها في حياتي دراماتيكياً. كلاهما قوي، رائع لكنهما كانا كارثة كثنائي». لا يسرد المخرج قصة حياتهما بل يستوحي معالم من تلك الحياة ويطويها تحت مسار درامي مختلف، جاعلاً من الموسيقى جوهر لا العلاقة وحدها بل الفيلم بذاته.
يبدأ بافليوكوفسكي فيلمه أساساً بالغناء والموسيقى الفولكلورية البولندية مقدماً شخصيتين تقومان، سنة 1949. بتسجيل أصوات غنائية بحثاً عن مواهب تُضم إلى حفل جوّال. إنهما إرينا (أغاتا كيوليشا) وفيكتور (توماش كوت). إحدى المغنيات هي شابة اسمها زولا (يوانا كوليغ) التي تأسر اهتمام فيكتور فينتخبها رغم معارضة زميلته. زولا وفيكتور يتحوّلان إلى عشيقين قبل أن يقرر فيكتور الهجرة مودعاً الحياة في بولندا الستالينية هارباً إلى فرنسا حيث الحرية والرقي الفردي الطموح. تلحق زولا به ويتحابان من جديد.
لكن في حين وجد فيكتور نفسه مرتاحاً في موطنه الجديد تقرر زولا العودة إلى حيث تشعر بانتمائها. كانت سابقاً ما شغلت بالها بسؤال حول ماذا ستكون عليه هويتها الشخصية إذا ما تركت وطنها إلى آخر. يفتقدها فيكتور ويلحق بها ويودع السجن مباشرة كونه كان تخلى عن وطنه الأول. هذا قبل أن يتدخل بعض معارفه لدى السلطات فيتم الإفراج عنه. حين خروجه يجد أن زولا ما زالت بانتظاره. يتزوّجان في كنيسة وينتهي الفيلم بهما وهما يأملان في حياة أفضل.
يسرد بافليكوفسكي حكايته هذه على مدى عقدين كافيين للتأكيد على أواصر حب بين شخصيتين صعبتي المراس. كل منهما يحتاج للآخر والآخر يرفض أن يتم تطويعه. لكن الحب ينتصر في النهاية. في الخلفية تكمن الفترة التي سميت بـ«الحرب الباردة» وبعض من برودتها تتوارد في تلك العلاقة بين فيكتور وزولا. إنه صراع قوي بين شخصيتين عاشقتين لكن كل منهما لديه شخصية بمفهوم مختلف وقوي. لكن هذا المرمى السياسي يبقى منضوياً تحت جناح الدراما المساقة بحدتها وجمالياتها.
يضم هذا الصراع مسألة الانتماء طارحاً السؤال عبر فيكتور: ألا يحق للفنان اختيار المكان الملائم لطموحاته؟ في المقابل تكاد شخصية زولا تطرح سؤالاً مواجهاً: «ألا يحق للفنان التمسك بوطنه والبقاء فيه رغم مغريات الطموح الخارجي؟».
للبت في هذا الشأن يميل المخرج إلى دفع قصّة الحب بينهما إلى الأمام. إنه الحب الذي سيقرر مستقبل بطليه. هي لا تريد البقاء في باريس. تترك. هو يلحق بها لأنه يحبها.
- الفنان الرافض
هذا الوضع تناوله المخرج والممثل البريطاني رَف فاينس في فيلمه الأخير «غراب أبيض» سارداً حكاية بطله رودولف نورييف مع نظامه الروسي في السبعينات. راقص الباليه الشهير لا يهمه الحزب ولا السياسة برمتها، لكنه يعلم أن الغرب هو ملجأ آمن بالنسبة إليه إذا ما أصر على التنعم بحريته الفنية.
الفيلم، بذلك، هو سرد بيوغرافي مُنتخب المحطات لسنوات من حياة الراقص المعروف انتهاء بطلبه اللجوء السياسي في فرنسا في الستينات التي جاء لزيارتها. للوصول إلى تحقيق الذات، كان على رودولف (كما قام به أوليغ أوفنكو) بمعرفة ذاته أولاً. وهناك مشاهد استرجاعية وجيزة في الفيلم لحياته صغيراً تحت سطوة أب صارم تتقاطع مع الجزء الأكبر من الأحداث وهي التي تدور في نصفها الأول داخل روسيا عندما أخذ يشق طريقه في دراسة الباليه فارضاً أسلوبه الخاص، وتدور، في نصفها الثاني، حول وصوله إلى باريس ضمن فرقة روسية محتفى بها وقراره البقاء في العاصمة الفرنسية التي تشع ثقافة وحرية ومساواة.
ثلث الساعة الأخيرة كاريكاتيرية إلى حد ولو أنها لا تقصد ذلك، لكن في مواجهة تهديد الفريق الأمني الروسي لرودولف إذا ما عزم طلب اللجوء السياسي يقرر رودولف أن هذا بالتحديد ما يود القيام به. وعليه، وبعض مشاهد توتر تعلو وتهبط حسب مونتاج تقليدي، ينتهي الفيلم بالراقص المعروف وقد اصطحبه البوليس الفرنسي صوب الأمان والمستقبل.
سيرة حياة أخرى لفنان آخر لمعت في سماء مهرجان تورونتو قبل ثلاث سنوات بعنوان «ما وراء الصورة» (Afterimage) للمخرج البولندي أندريه فايدا.
هذا الفيلم الذي يسرد حياة الرسّام البولندي فلاديسلاف سترزمنسكي نموذج رائع لفيلم على الفنان فيه اختيار الجهة التي سينحاز إليها: جهة نفسه أو تلك المناوئة لها. هو أيضاً الفيلم الأخير لمخرجه الذي توفي في العام ذاته عن تسعين سنة قدّم فيها عدداً كبيراً من الأفلام الشائكة حتى خلال الحكم الشيوعي لوطنه.
ينتمي الفيلم إلى تلك المجموعة من الأعمال التي حققها المخرج منذ «رجل من رخام» سنة 1977. نبش فايدا في التاريخ البولندي كما لم يفعل مخرج آخر غيره وسواء اختار «البيوغرافي» كنوع أو وقف وراء أحداث متخيلة إلا أنه دائماً ما عكس رغبته في نزع أقنعة التاريخ وتصحيح الرؤية صوبه. فيلم «بعد الصورة» هو مضي في الطريق ذاته.
هذه المرّة يفحص سيرة حياة الرسام المنتمي إلى «الفن الطليعي» فلادسلاف سترزمنكي (يؤديه بوغوسلاف ليندا) الذي له باع كبير في تعميم نظرية «أونيزم» التكعيبية وتدريسها والذي وجد نفسه مضطهداً من قِـبل المسؤولين فطرد من وظيفته ومن مشغله وحرم من المعونات الاجتماعية ثم مات فقيراً معدماً. في حين لا تأتي السير المنشورة عنه بالكثير مما يرد في الفيلم إلا أنه لا بد من تصديق ما نراه حتى ولو أضاف الكاتب البهارات الضرورية. سيناريو أندريه مولارجيك يبقى مبدئياً وقائماً على فكرة الفنان ضد النظام.
- وجها النزاع
فكرة جيدة بلا ريب، لكن المجري استيفان شابو كان أبرع في معالجة الموضوع نفسه على نحو أكثر تأثيراً وجاذبية في فيلمه «مافيستو» (1981). في ذلك الفيلم أيضاً تعرض لوضع يخص ممثلاً مسرحياً (كلوس ماريا براندور) الذي لم يكن يمانع عطاء النظام النازي الذي بدأ يرعاه ويساعده على بلورة طموحاته داخل بلاده إلى أن أجبر نفسه على النظر إلى أزمته الداخلية الناتجة عن إلقاء القبض على أحد أصدقائه اليهود والبدء بالنظر إلى علاقته العاطفية مع فتاة سمراء.
يستند الفيلم إلى رواية كلاوس مان (عاش ما بين 1906 و1949 ومات منتحراً) ويبرز النقطة المحورية التي تواجه بطله هندريك هوفغن وهو الذي ظن أن في مقدوره إيقاف زحف السلطة فوق جسده ليكتشف أنه لم يعد يستطيع استكمال طموحاته الفنية إلا إذا ما وافق على المزيد من التنازلات الذاتية.
«أنا ممثل فقط...» ردد كثيراً لنفسه وللآخرين محاولاً الفصل بين كيف يرى نفسه وكيف يريدونه أن يكون. لكن الفاصل كان يضيق كلما اضطر للخضوع حتى بات الفاصل بينه وبين مصيره مجرد وجهي نزاع في شخص واحد يسرع لاحتلال مواقع الرفض الأخيرة فيه.
واللعبة كانت لصالحه أو هكذا اعتقد. في البداية تم تعيينه مديراً للمسرح الذي كان يعمل فيه. هذا بعث في ذاته الكثير من الأمل بأنه سيستطيع الحفاظ على قدر من الاستقلالية. لا يريد أن يكون بيدقاً في يد النازيين لكنه لا يريد مناوأتهم أيضاً. أراد تحقيق هذا بالتأكيد على أن ما يقوم به هو في سبيل الفن أولاً وأنه سيستخدم منصبه الجديد لتقديم الأعمال التي يريدها وممارسة موهبته وفنه بعيداً عن أي علاقة بينه وبين السياسة. ما يحدث لاحقاً، هو أن هندريك يخسر كل شيء، بدءاً بالمسرح الذي أعطي له ثم سحب منه، وانتهاءً بذاته وحرية فنه. وفي مشهد أخير معبر تماماً عن نتيجة الصراع الذي خاضه وأخفق فيه، يقف في ساحة الأولمبيك، حيث سيقدم «هاملت» التي سعى إليها لسنين (إنما تحت راية ورعاية النازية الآن) ليردد في مرارة: «لكني أنا ممثل فقط... ماذا تريدون مني؟».
سؤال المخرج ستيفان شابو هو إذا ما كان على بطله أن يربح نفسه أو يخسرها لكن بطله أضعف من أن يتحمل تبعات هذا السؤال ويقرر الإقدام على مزيد من التنازلات.
- حكاية صحافي
بالعودة إلى إنتاجات أحدث يطالعنا الفيلم الروسي «دوفلاتوف» للمخرج أليكسي جرمان جونيور (والده مخرج أيضاً) وهو، بدوره من نوع السيرة كما حال «ما وراء الصورة» و«غراب أبيض»، إذ يدور حول الصحافي والروائي الروسي سيرغي دوفلاتوف الذي ولد لأم أرمنية وأب يهودي سنة 1941 وتوفي في نيويورك (بعدما هاجر إليها مع والدته في أواخر السبعينات) سنة 1990. امتهن الكتابة بعد الخدمة العسكرية ونشر مقالاته في عدد من الصحف داخل وخارج روسيا.
حسب فيلم جرمان وغالباً عن مصادر موثوقة، طرد دوفلاتوف من الصحيفة التي كان يعمل فيها بسبب مقالاته التي لم ترض الجهاز الأمني للنظام الشيوعي آنذاك. تقع الأحداث ذاتها في ستة أيام فقط (سنة 1971) نرى فيها دوفلاتوف ينتقل من صراع إلى آخر رافضاً أن تكون كتاباته بوقاً رسمياً. يتخذ المخرج جرمان بطله كمرآة للفترة الزمنية التي كانت فيها البلاد الروسية ما زالت تحت إبهام التعاليم الستالينية حتى بعد رحيله. دوفلاتوف، كما يؤديه جيداً الممثل الصربي ميران ماريتش، هو المشهد الأمامي وفي الخلفية أحوال يساريين غير شيوعيين لا يستطيعون فتح أفواههم خوفاً من المخابرات ومن يفعل يُـساق إلى الاعتقال وقد يموت على الطريق.
ينجز الفيلم نقداً يتعرض فيه لما كان يحدث لفئة واحدة من المواطنين عوض أن يوسع دائرته لتشمل كل الفئات الأخرى إذ كان التعسف والرفض والسجن مشاعاً بين فئات وطوائف متعددة. عدا هذه النقطة التي تبقى دخيلة، «دوفلاتوف» فيلم جيد السياق فيه لمسات شعرية، لكن لبنة الفيلم هي تقديم شخص فعلي رافض للهيمنة كحال فيلم البولندي أندريه فايدا الأخير Afterimage سنة 2016. ما سبق، وهو قليل من كثير، يوزع النهايات على أكثر من نحو.
بطلا «حرب باردة» يعاصران وجهاً الحياة على مدى سنوات طويلة وينتهيان معاً إنما بعد معاناة لا ينتصر فيها مبدأ على آخر بل يحل الزمن وحده الوضع السياسي حولهما.
«غراب أبيض» يختار الانتصار لحرية الفنان على النظام مستلهماً بذلك الواقع الذي شهدته حياة بطله. وفي حين يخسر بطل «مفيستو» نفسه لأنه كان أضعف من أن يقاوم النازيين، ينتصر «ما وراء الصورة» لبطله الرسّام المناوئ الذي يرفض التنازلات. أما حال الصحافي دوفلاتوف فتعبر عن الحل الوحيد الذي بقي أمامه وهو الهجرة. بذلك ربح نفسه من دون أن يخسر النظام ماء الوجه.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)