أميركا والعالم في ظل ترمب: تغير حاسم واختراقات كبرى

أحدث انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة في 2016 تغيرا حاسما في المشهد الدولي على الرغم من أن الرجل لم يعر القضايا الدولية أهمية تذكر في حملته الانتخابية باستثناء ما يتعلق من هذه القضايا بالاقتصاد الأميركي. ومع الانطلاق العملي لحملتي ترمب والمرشحين الديمقراطيين لرئاسيات 2020 يغدو توقع المسارات التي ستتخذها السياسات الخارجية الأميركية في الأعوام المقبلة من المسائل الملحة.
لا يتسم التغير الذي أدخله ترمب على السياسات الدولية بسوية واحدة ولا يسير في اتجاه واحد. وتغلب على قراراته ومواقفه الدولية الانتقائية وقصر النفس الدبلوماسي، على نحو ما ظهر في تعامله مع الملف السوري على سبيل المثال. فقد أمر مرتين بضرب مواقع القوات السورية بعد استخدامها الغازات الكيماوية، ثم طلب انسحاب الجنود الأميركيين المنتشرين في بعض المناطق السورية الحساسة قبل أن يتراجع عن قراره هذا ويكتفي بتقليص العدد. يضاف إلى ذلك أنه لم يهتم كثيرا بصياغة حل في سوريا تاركا المسألة لوزارة الخارجية ومستشار الأمن القومي وأجهزة الاستخبارات.
سمة ثانية اختصت بها السياسة الخارجية للإدارة الحالية هي السعي إلى تحقيق اختراقات في القضايا الكبرى على غرار محاولة ترمب في الملف الكوري. فهو الرئيس الأميركي الأول الذي يلتقي بزعيم كوري شمالي لإقناعه بوقف بيونغ يانغ برنامجها النووي، بعد شهور من توجيه الإهانات إلى رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون ووصفه بأنه «رجل الصاروخ الصغير». ولم يكن مفاجئا للكثير من المراقبين أن تمنى القمة الثانية بين كيم وترمب بفشل ذريع بعد رفض الكوريين الشماليين وقف برنامجهم قبل رفع العقوبات المفروضة عليهم. وبذلك ظهرت الحدود التي يمكن أن تبلغها لعبة إلقاء الأوزان الثقيلة في حلبة مصارعة معقدة ومليئة بالألغام والمفاجآت.
ميزة ثالثة للعمل الدبلوماسي في إدارة ترمب هي الإصرار على الظهور بمظهر المدافع المستميت عن مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية. وهنا تبرز مقاربتان: الأولى هي التي لجأ إليها مع الجارين الشمالي والجنوبي للولايات المتحدة اللذين تربطهما بها «اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية» المعروفة اختصارا باسم «نافتا». فقد أعلن الرئيس الأميركي رغبته في استبدال الاتفاقية التي رآها مجحفة بحق الولايات المتحدة. وبعد مفاوضات شائكة ومعقدة أعلن ترمب العام الماضي أنه حقق نصرا كبيرا لبلاده من خلال التوصل إلى اتفاق يحمل اسم «اتفاق الولايات المتحدة - كندا - المكسيك» الذي لم يقر في الهيئات التشريعية للبلدان الثلاثة بعد. وقد رأى عدد من المراقبين الاقتصاديين أن الفوارق بين الاتفاقيتين ضئيلة للغاية وأن الأمر لم يكن يستحق الضجة التي أثارها ترمب لا عند فرضه إعادة التفاوض ولا عند تهليله لنصر صغير.
أما المقاربة الثانية فأكثر جدية وخطرا بكثير وتتناول اختلال ميزان المدفوعات الأميركية مع الصين لمصلحة الأخيرة. وكان هذا موضوعا مفضلا لدى ترمب أثناء حملته الانتخابية. وبالفعل، اتخذ الرئيس بعيد وصوله إلى البيت الأبيض سلسلة من الخطوات ترقى إلى مستوى الحرب التجارية ردت عليها الصين بما يوازيها ويكافئها. أدخل الصراع التجاري المذكور الاقتصاد العالمي في حالة من الترقب والتوتر، وسط تبادل للعقوبات والإجراءات الانتقامية. ولم يتمكن أي من الطرفين من تحقيق انتصار واضح بعد، وهو ما يرشح هذه المواجهة للاستمرار في الفترة الرئاسية المقبلة سواء فاز ترمب أو لم يفز بسبب عمق الآثار التي تتركها الحرب التجارية الحالية على الجانبين. ولا مفر من القول إن الميزان التجاري المختل بين الولايات المتحدة والصين ليس السبب الوحيد للخلاف. ذلك أن الولايات المتحدة تعارض معارضة صريحة مشروع «الحزام والطريق» الصيني وترى فيه تحديا سافرا لنفوذها الاقتصادي أولا والسياسي ثانيا في مختلف أرجاء العالم.
الميزة الرابعة لسياسة ترمب الخارجية، هي العداء الشديد لكل ما يذكّر بالرئيس السابق باراك أوباما. فإضافة إلى حملته القاسية على أبرز إنجاز داخلي لأوباما، أي قانون الرعاية الصحية العامة أو «ميدكير» («أوباما كير» في تسمية شائعة)، والإصرار على إلغائه ثم الفشل في ذلك أمام الهيئة التشريعية، هناك الموقف المعادي لما اعتبره أوباما إنجازه الخارجي الأهم وهو الاتفاق النووي مع إيران. ألغى الرئيس الأميركي الاتفاق للكثير من الأسباب، منها عدم اشتراط وقف التمدد الإيراني الخارجي كبند من بنوده، وتأكيد إسرائيل الملح على أن إيران ظلت تشكل تهديدا نوويا لها بعد التوقيع، وأخيرا إظهار ضعف أوباما كرئيس كان يطمح إلى احتلال موقعه كزعيم تاريخي للولايات المتحدة إلى جانب رؤسائها الكبار بعدما جنب العالم مخاطر حرب نووية في الشرق الأوسط.
البعد الشخصي يؤدي في سياسات ترمب دورا لا يقل أهمية عن الأبعاد الجيوسياسية أو الاقتصادية. الجانب الثاني من هذا السلوك هو التأكيد الدائم على الانحياز لإسرائيل، في المسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، على ما يفهم من التزامه بوعده نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة وتأييد ضم إسرائيل للجولان السوري وإطلاقه خطة سلام كبيرة في الشرق الأوسط يأمل أن تنهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتكون درة إنجازاته الخارجية بعد فشل المغامرة الكورية.
لكن ينبغي هنا الانتباه إلى أن الرئيس الأميركي، وخلافا للرؤساء الجمهوريين السابقين، ليس تدخليا بل يميل إلى سياسات الانعزال ويؤمن بضرورة عدم التورط في حروب جديدة في بلدان بعيدة. وهذا ما بدا واضحا في امتناعه عن المباشرة برد عسكري ضد إيران بعد إسقاطها طائرة أميركية من دون طيار قبل أيام. وإذا جُمعت هذه الميزات إلى بعضها يمكن تلمس المبادئ العامة للسياسات الأميركية في الأعوام المقبلة إذا كتب لترمب الفوز بولاية ثانية.