جدة تتألق في موسمها الصيفي وتستضيف مزادها الفني الأول

وزارة الثقافة السعودية و«كريستيز» في المزاد الخيري «الفن للبلد»

زوار أمام عمل الفنان راشد الشعشعي
زوار أمام عمل الفنان راشد الشعشعي
TT

جدة تتألق في موسمها الصيفي وتستضيف مزادها الفني الأول

زوار أمام عمل الفنان راشد الشعشعي
زوار أمام عمل الفنان راشد الشعشعي

جدة ووسطها التاريخي المعروف بـ«البلد» تعيش حالة من النشاط الواضح، بحضور كثيف يتحدى الطقس الحار. تمتلئ الطرق الضيقة المتعرجة بزوار البلد التاريخية التي تكتسي بالألوان الملونة التي تضيئ مبانيها العتيقة. وفي عربات «غو كارت» ينطلق زوار معرض مزاد كريستيز الخيري «الفن للبلد» من أمام مبنى عتيق كان مقراً للقنصلية الإنجليزية في القرن الماضي متجهين للمعرض. ينشغل الركاب على الطريق بتصوير المباني القديمة بنوافذها الخشبية المميزة «الرواشين» وتتوقف العربات في ساحة صغيرة أمام أشهر بيوت جدة التاريخية، وهو «بيت نصيف»، حيث يقام المزاد اليوم الأربعاء.
البيت يرحب بزواره كعادته دائماً وعبر درجاته الحجرية الواسعة نعبر للداخل حيث تعرض أكثر من 40 لوحة فنية لفنانين من السعودية ومن خارجها، تبرع بها أصحابها الفنانون أو من يقتنونها ليخصص ريعها لبناء متحف البلد في جدة التاريخية.
الحضور كثيف للمعرض، ولكنه كان أكثر خلال اليومين الماضيين، حيث كان مفتوحاً للجمهور، يقول مايكل جيها رئيس مجلس إدارة «كريستيز» الذي كان واقفاً في وسط المعرض: «سعيد جداً بهذا العرض، العدد الكثيف من الزوار كان مدهشاً». أما هالة خياط الخبيرة الفنية بـ«كريستيز» فتأخذ على عاتقها التجول معي عبر اللوحات التي امتدت على طابقين.
تشير خياط للعرض وتقول: «سعيدين جداً بوجودنا هنا في جدة. للمرة الأولى تقوم (كريستيز) بالتعاون مع وزارة الثقافة السعودية لتنظيم هذا المزاد الخيري وستحضر مزايدة أميركية (أوكشنيير) لإدارة المزاد من أميركا».
- جولة فنية بطعم التاريخ
من الأعمال الموجودة لفنانين عرب تشير الخبيرة للوحة الفنان سمير صايغ، «واو»، وهي من فنون الخط العربي وإلى جانبها نرى لوحة بها ثنائية بين اللونين الأبيض والأسود تحمل عنوان «صراع»، وهي تعبر عن ثنائية التغيير في المنطقة العربية. اللوحة لفنان شاب سوري من اللاجئين للبنان واسمه عقيل.
تعلق على عمل للفنان السعودي راشد الشعشعي: «أجد عمله من أجمل الأعمال يتميز بالتنفيذ المتقن جداً، العمل له طبقات متعددة من التركيب والمعنى أيضاً. من بعيد كأننا نرى لوحة إسلامية بالأقواس والزجاج الملون ولكن عند الاقتراب نجد أن ما نعتقد أنه تشابكات من الحديد المشغول بجمال مميز، نرى أن الفنان استخدم عنصراً لا يمكن توقعه، وهو مجموعة من السلال البلاستيك التي تستخدم في عرض الخضراوات والفواكه في «السوبر ماركت»، وفي الخلفية الألوان التي نظنها زجاجاً ملوناً ما هي إلا أغلفة منتجات تجارية من المشروبات والمأكولات، تقول إن العمل يمثل «تعليقاً على التسليع والاستهلاك، وكأنما الفنان يعبر عن تأثير الاستهلاك الغربي على الثقافة المحلية».
الفنان التونسي الشهير نجا مهداوي يجاور الشعشعي بلوحة مميزة، تقول هالة خياط: «نجا يعمل بيده دائماً، له تكنيك في الكتابة بالخط العربي، ولكن المنتج النهائي لا يمكن قراءته، هو يريد من المشاهد أن يرى فقط جماليات الخط». أعمال مهداوي تتميز بجماليات عالية جداً تجذب المتفرج للألوان والتعرجات والثنيات لخطوط متقاطعة ومتعانقة وبأطراف متطايرة كأنما هي مجموعة من الخيوط الملونة التي تنتظم فيما بينها لتكون شكلاً بديعاً بكل المقاييس.
إلى جانب عمل مهداوي هناك عمل للفنانة السعودية مها الملوح من بدايات أعمالها التي استخدمت فيها الأشعة لتماثل أجهزة الأشعة في المطارات التي تمسح مقتنيات المسافرين واستخدمت مها المفردات البسيطة في الحياة اليومية، فهناك الألعاب والأمشاط و«المكحلة» التقليدية للنساء في السعودية تحديداً، تشير هالة خياط إلى أن ذلك يعبر عن معاناة المسافرين العرب مع التنميط في المطارات الغربية حيث ارتبطت صورة المواطن العربي بالإرهاب.
من عمل مها الملوح نمضي لعمل آخر للفنان السعودي عبد الناصر الغارم الذي اشتهر باستخدام الأختام الرسمية لتكوين أعمال فنية تتناول أفكاراً مثل البيروقراطية والالتزام، وربما عمله هنا أصبح علامة معروفة تعبر عن الفنان بشكل كبير جداً وعمله هنا هو بعنوان «الختم - إن شاء الله». ترى هالة خياط أن العمل يعبر عن البيروقراطية في الدول العربية، وتعليق من الفنان على ذلك بعبارة «قليل من الالتزام».
هناك عمل آخر للفنان معاذ العوفي «التشهد الأخير» عن المساجد المهجورة في الصحراء، أما الفنان أحمد عنقاوي، الذي يركز على الأشكال الهندسية وتقاطعاتها، وخصوصاً في فن الخشب المستخدم في الحرف القديمة لصناعة النوافذ والأبواب الخشبية في مباني جدة ومكة القديمة، تشير هالة خياط إلى أن الفنان استخدم مهارته في تشكيل الخشب في تقديم «لانهائية من الاحتمالات» في عمله الفني.
- رواد الحركة التشكيلية
العرض يترامى بأعمال لفنانين من الرواد في الحركة التشكيلية السعودية أمثال عبد الحليم رضوي وعبد الله حماس وعبد الله الشيخ وطه الصبان وعبد الرحمن السليمان. ولفنانين من العالم العربي مثل أسامة بعلبكي وعمل بديع التشكيل والتنفيذ يصور منظراً من بيروت يتميز بضربات الفرشاة السخية والألوان التي توحي بفترة ما بعد غروب الشمس.
أما لوحة الأمير بدر بن عبد المحسن - أول مرة تعرض لوحه له - اسمها: «إلى أين» أشخاص منظورها من أعلى وكأننا نراها أعلى منا ونرى آثار أقدامهم، تطرح اللوحة تساؤلات وجودية هامة.
من أعمال الرائد عبد الحليم الرضوي تعلق هالة خياط على لوحة «دون عنوان 2»: «الفنان دائماً يعبر عن المدن ومبانيها، لا نعرف أين هذه المدينة ولكن هناك مآذن ومبانٍ في الخلفية، قد تكون في جدة أو المدينة، هناك عناصر إسلامية موجودة تجذبنا للوحة، إضافة إلى عبارات دينية مثل التشهد.
نقف أمام عمل للفنان عبد الله الشلتي «الطواف حول الكعبة» وتقول هالة خياط: «التقنية هنا جميلة جداً». يعبر الفنان عن الطواف بنثرات من اللون الأبيض تصبح كتلاً من اللون الأبيض المتماوج تمضي سوياً في تناغم روحي ولوني بديع.
هناك أيضاً لوحة للفنان عبد الله حماس قد تكون امرأة من منطقة عسير بالقبعة الخصف التي تميز الزي التراثي للمنطقة.
- عبد الرحمن السليمان والتحسر على ما ضاع
في الطابق الثاني ألتقي الفنان السعودي عبد الرحمن السليمان من رواد الفن السعودي وعمل له في المزاد «أثر أندلسي» أسأله إن كان العمل مستوحى من الأندلس بالفعل وبالعمارة هناك؟ يقول بتواضع وهدوء محبب: «كنت في زيارة للأندلس وانتابني نوع من التحسر على ما ضاع منا»، أسأله إن كان يهتم بالعمارة ويقول: «أهتم بالمكان دائماً والمكان بإنسانه». يعبر السليمان في عمله على القضايا الإنسانية «بالإيجاز قدر الإمكان» حسب تعبيره. يجد السليمان أن الحديث عن أعماله أمر صعب: «أنا أسوأ من يتحدث عن أعماله» ويرى أن اللوحة «لا يمكن شرحها»، المشكلة بالنسبة له أن يواجه أسئلة في تفاصيل العمل ومقصده من العمل.
- راشد الشعشعي والنحت بالضوء
خلال الجولة ألتقي بالفنان راشد الشعشعي وأجدها فرصة لأسأله حول عمله المعروض هنا، يقول: «أستخدم الضوء من الخلف في أعمالي، أحاول أن أنحت فكرة الضوء مثل ما كان الفنانون المسلمون يفعلون في استخدام الضوء في دور العبادة باستخدام الزجاج المعشق. كأنهم كانوا ينحتون بالضوء ويغيرون في ألوانه لخلق حالة من الروحانية داخل المكان، هنا أستخدم السلال البلاستيكية المستخدمة في نقل الفواكه وبيعها، بالإضافة لصور من السوبر ماركت لسلع مختلفة ولكن التي استخدمتها هنا هي سلع للتجميل والمتعة». يشير الشعشعي للرموز المستخدمة في العمل ويقول: «هنا يمكنك رؤية رمزين لهما أهمية كبيرة، الأول هو القوس الإسلامي والثاني هو النجمة الثمانية عند الآشوريين والمستخدمة في الفن الإسلامي، «النجمة كانت رمزاً للأنثى، أتحدث عن حالة التسليع في ظل الرأسمالية والطبقية التي قد تخلق من الإنسان سلعة وخاصة الأنثى».
أسأله عن فكرة التسليع وربطها بالأنثى يقول: «إذا نظرنا للعمل فنحن كالواقف أمام ثلاجة في السوبر ماركت وعلى مستوى سوريالي نتخيل أننا أمام زجاج معشق في دار عبادة، حالة مزدوجة ما بين الروحانية التي تنبذ التسليع، في نفس الوقت الرأسمالية تجبرك على النزعة الاستهلاكية». تتدخل هالة خياط في خيط الحوار بقولها: «هناك حالة من الروحانية وعكسها». يضيف الشعشعي: «تماماً، على سبيل المثال في رمضان نجد البضائع في (السوبر ماركت) وقد اتخذت أشكالاً إسلامية وزخرفات، هم يستخدمون الصبغة الدينية لتسويق السلع». أترك العرض، وفي ذهني معانٍ وأفكار كثيرة من الأعمال المعروضة لأخرج للهواء الدافئ والزحام في باحة نصيف، بينما تحضر عربات «الغو كارت» المزيد من أفراد الجمهور المتعطشين لرؤية الأعمال الفنية ولتجربة جديدة تجمع ما بين جمال جدة التاريخية وما بين التعبيرات الفنية المستوحاة من حياة كل منا في هذا العصر.



التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
TT

التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)

كانت على الدوام فنانة، تتمدَّد كمَن يُراقب الكون، وتحلُم. ألحَّ شعورٌ بالانسلاخ عن العالم والبحث المرير عن شيء مفقود تُطارده ويهرُب. فضَّلت التشكيلية اللبنانية زينة الخليل العزلة. طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر: «مَن أنا وما معنى الحياة؟». تعجَّبت لانشغال رفاق الصفّ باللعب دون سيطرة الهَمّ. «لِمَ يلهون ولا ألهو؟»، تساءلت. تأمّلت من دون أن تدري ماهية التأمُّل، وفكَّرت في الوجود من دون علمها بأنها الفلسفة.

ولمَّا رسمت؛ فوجئت: «آه، إنني أرسم! لا أدري كيف ولكنني أرسم! أستطيع نقل الأشياء إلى الورق. ذلك يُشعرني ببهجة». الرسم ضمَّد جراح العقل. وجَّه طاقتها نحو شيء آخر غير البحث المُنهك عن شرح. ومن هنا بدأت.

من التأمُّل والتفكير في الوجود رسمت للمرة الأولى (زينة الخليل)

تُخبر الفنانة زينة الخليل المقيمة في لندن «الشرق الأوسط» أنّ نشأتها في أفريقيا أتاحت الوقت الكافي للتفكير. شدَّتها الطبيعة، وراحت تشعر برابط بين الجسد الإنساني والأرض. وبالصلة بين جبّارين: الروح والتراب. تقول: «عبر النجوم والأشجار، حدث اتصالي مع الوجود. بالتأمّل والرسم، كتبتُ الفصل الأول من حياتي».

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي (زينة الخليل)

عام 1994 عادت إلى لبنان. كانت مدافع الحرب الأهلية قد هدأت، مُتسبِّبةً بعطوب وبرك دم: «كنتُ في الـ18 حين شعرتُ بأنّ شيئاً يجرُّني للعودة ويقذفني نحو بلدي المُثقل. أتيتُ وحيدةً، وعائلتي في نيجيريا. اليوم أتفهّم عمق العلاقة بالأرض والطاقة. تلك التي لاحت في الطفولة ولم أستقرّ على تعريف لها. جسَّدها شعور تجاه صخرة أو شجرة أو ورقة تتساقط. الصوت الذي ناداني للعودة، سمعتُه جيداً. لم أقوَ على صدِّه. ورغم هواجس العيش على أرض هشَّمتها الحرب، اخترتُ المجيء».

طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر وألهمها الرسم (زينة الخليل)

الفنّ عند زينة الخليل ليس للنفس فقط، وإنما للآخرين. وفي وقت واجهت التجارب القاسية في بلد شهد عقدين من احتدام المعارك، شعرت، بكونها امرأة، بالاعتداء المستمرّ عليها. مسلّحون يتجوّلون ومظاهر تفلُّت. ذلك يفسِّر ميل أعمالها المُبكرة إلى «النسوية المُفرطة»: «أردتُ إيجاد مكاني بوصفي امرأة والنضال للشعور بالأمان. لم أجسِّد الحركة النسوية المألوفة التي شهدتها أوروبا وأميركا آنذاك. مواجهة الميليشيا والإحساس بالخطر الفردي جعلا نسويتي تتجاوز حيّزها. راحت أعمالي تنتقد الحرب والأسلحة. وضعتُ فنّي بمواجهة هذه الإشكالية: هل حقاً يحتاج الإنسان إلى سلاح لإثبات نفسه؟».

الرسم ضمَّد جراح العقل (زينة الخليل)

ولمحت مُحرِّك العنف ومؤجِّجه: «البشر والدول يتقاتلون حول الموارد والثروات. العناوين الأخرى، منها الأديان، ذريعة. أدخلتُ مادة البلاستيك في أعمالي لإدراكي قوة العلاقة بين المُستهلك والمعركة. البلاستيك مصنوع من النفط، والنفط يُشعل الحروب. تجرَّد الإنسان من الحسِّ وأصبح العالم مُجمَّعاً تجارياً ضخماً. بتبنّي (الكيتش) في الرسم، سجّلتُ موقفي ضدّ تغليب القوة والحلول السريعة على وَضع استراتيجيات السلام. طغى اللون الزهريّ على رسومي مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى. شكَّل فنّي محاكاة للعبة الباربي بصورتها النمطية وما مثّلته من سطحية وانعدام العمق».

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة (زينة الخليل)

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة. لسنوات واصلت الفنانة تبنّي هذا الأسلوب وبه عرفت. وباندلاع حرب 2006 في لبنان، تحوَّلت إلى تدوين الأحداث، وإنما الرغبة بمواصلة الرسم تأجَّجت: «دوري ناشطةً ومدوّنةً لم يُشبع نهمي. وذات يوم، عشتُ تجربة صوفية لا أملك شرحها. كأنني عدتُ إلى زينة في أفريقيا والرابط بين الوجود والإنسان. البعض يسمّيه النداء الروحي. فجأة، لم يعُد عالم المادة مهماً، وشعرتُ بحبل في داخلي يُقطَع. غمرني الشعور بألم الأرض، فلم أجد منزلاً لي. مسقطا أمي وأبي، كلاهما تألّم بتداعيات الحروب. سمعتُ نداء الأرض: (تعالي لنُشفى معاً!). كأنني كنتُ أتعرّف إلى وجعي من أوجاعها. كان نداء عميقاً. أمضيتُ الوقت في تلمُّس التراب. شعوري بأنني لستُ في منزل؛ لا أنتمي، ولا أعرف مَن أنا، جرَّ فنّي إلى مكان آخر. رسمتُ ولم أدرك ماذا أرسم. أجريتُ مراسم لشفاء الأرض، فأشعلتُ النار من أجلها ورفعتُ الصلاة. سألتُ الطاقة أن تتبدَّل. والأشياء العالقة في الكون أن تتّخذ مجراها. مثل مَن ماتوا بلا دفن لائق، وبلا جنازة ووداعات. طاقة هؤلاء ظلَّت عالقة. لم تحدُث المصالحة بعد الحرب. بزيارتي الأماكن حيث حلَّت مجازر، وإشعالي النار، حَدَث التواصل. كأنني أقول للموتى الذين أرسم أرواحهم بأنني هنا؛ أراكم وأعترف بكم. أنتم منسيّون بجميع الطرق. الدولة لم تعترف بكم، لم تُؤبَّنوا. أنا هنا لأراكم وأكون شاهدة. بهذا بنيتُ اتصالاً فريداً مع لبنان».

طغى اللون الزهريّ مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى (زينة الخليل)

أرادت لفنّها التصدّي للعنف، فوظَّفت رماد النار التي أقامتها للمراسم مادةً للرسم. أنجزت مجموعات بتلك المادة السوداء ومن الحبر. وبدل الفرشاة، فضَّلت الأقمشة. بالكوفية مثلاً، لمست وحدة الشعوب، فأدخلتها في لوحاتها: «كل حفل شفاء أردتُه لنفسي وللبنان وللشرق الأوسط والكون. غمّستُها بالحبر ورسمتُ بها لنحو 10 سنوات. في الهند، درستُ الروحانيات ولمستُ اختفائي. الرسوم تتحوّل انعكاساً لروحي، كما أنّ روحي تُغذّي فنّي، فيتكاملان تماماً».

وظَّفت رماد النار التي أقامتها لمراسم الشفاء مادةً للرسم (زينة الخليل)

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي. الألم أحياناً يختار المرء؛ يتعرّف إليه. ولا ينتظره. يُناديه ليخطَّ مساره. تقول: «بعد انفجار بيروت عام 2020، شاهدتُ الدخان والتصدُّع. سرتُ على شوارع يفترشها الزجاج. في تلك اللحظة، تجمَّد الزمن كأنه سينما. بحركة بطيئة، رأيتُ انهيار جانب ضخم من سقف منزل، ووجوهاً مُدمَّاة، وهلعاً. فكّرتُ أنها الحياة. كفَّ الوقت عن التحلّي بأي معنى. لمحتُ التقبّل المريع لفكرة أنّ العنف جزء من الوعي الإنساني. هنا شعرتُ بأنني فكرة تأتي وتعبُر. أو لحظة ونَفَس. جسدٌ مُعرَّض لانتهاء تاريخ الصلاحية، وجوهر واحد يُعبِّر عن نفسه بمليارات الطرق. فنّي إعلان للسلام الداخلي ولحقيقة أننا مُنتقلون. ألم الانسلاخ هو الأقسى. في موضع إحساسنا بالانفصال عن الكون، عن الهوية، وعن الفردية؛ تبدأ رحلة الشفاء».