سبيلبيرغ ضد مالك... ومالك ضد الحرب

تنافسا على الجوائز واختلفا في النظرة

من «الخيط الأحمر النحيف»
من «الخيط الأحمر النحيف»
TT

سبيلبيرغ ضد مالك... ومالك ضد الحرب

من «الخيط الأحمر النحيف»
من «الخيط الأحمر النحيف»

فيلم ترنس مالك الجديد «حياة خفية» يأتي بعد 20 سنة على دخول فيلمه الأسبق «الخيط الأحمر النحيف» (The Thin Red Line) سباق الأوسكار في سبعة أقسام وخروجه منه بلا جائزة واحدة. في العام ذاته، 1998. دخل ستيفن سبيلبيرغ السباق نفسه في أحد عشر قسماً وخرج بخمس جوائز. الرابط بين الفيلمين هما أنهما ينتميان إلى السينما الحربية. لكن هذا الانتماء الواحد يخفي تباعداً شاسعاً بين الفيلمين كما بين مفهوم كل من المخرجين مالك وسبيلبيرغ حيال الحياة وحيال الحرب وحيال مفهوم كل منهما للسينما ولغتها.
- محوران
مع وجود فيلم مالك الجديد «حياة خفية» كأحد إنتاجات هذه السنة يمكن مد «خيط أحمر نحيف» بين الفيلم السابق وبين هذا الفيلم هو كناية عن خروجهما من عقل وإبداع سينمائي يعرف أنه ليس أداة هوليوودية لإنجاز أفلام للربح، بل هو في الميدان لتحقيق أعمال فنية يؤمن بها بمواضيع روحانية يعيشها.
كلا الفيلمين، «حياة خفية» و«الخيط الأحمر النحيف» يدوران في سياق الحرب العالمية الثانية. وكلاهما عن رفض للحرب ولو اختلف مداره عن الآخر. في «حياة خفية» هو عن رفض بطله فرانز (أوغست ديل) بالانخراط في الحرب لأي جانب كان. بما أنه نمساوي، والنمسا منضمة للتحالف النازي بكل ما لديها من عزم، فإن رفضه غير مقبول ويؤدي به إلى السجن بعيداً عن زوجته وبناته والريف الجميل الذي يعيش فيه.
مالك يستخدم المحورين لرصف طريقه المعادي للحرب. عبر حكاية وِت في «الخط الأحمر النحيف» وعبر حكاية فريتز في «حياة خفية» لكن في الوقت الذي تشكل فيه حكاية فريتز المحور الأساسي (والوحيد) لهذا الفيلم فإن ورودها في «الخط الأحمر النحيف» هو جزء من نظرة شاملة للحرب مشغولة بأسلوب مالك البصري الفريد ذاته الذي ميّـز كل أعماله العشرة حتى الآن.
هذا النوع من المفاهيم ليس وطنياً. لا «الخيط الأحمر النحيف» يناصر الجهد الحربي الأميركي في ماليزيا المحتلة من قبل الجيش الياباني في مطلع الأربعينات، ولا «حياة خفية» يؤازر الحرب الدائرة خلف الشاشة في أوروبا الفترة ذاتها.
هذا المفهوم الإنساني الشامل (متعدد الشخصيات والحكايات في الفيلم الأسبق) يختلف كلياً عن المفهوم الذي ورد في فيلم ستيفن سبيلبيرغ «إنقاذ المجند رايان» (Saving Private Ryan).
- أتون المعارك
تم عرض «إنقاذ المجند رايان» قبل دخوله مسابقات الأوسكار بستة أشهر (في الحادي والعشرين من يوليو (تموز)، 1998) وذلك في عرض خاص في إحدى صالات وستوود فيلاج في لوس أنجليس (تقليد حفل الافتتاح في تلك الصالة ما زال جارياً). بعد ذلك شارك في مهرجان فينيسيا ولاحقاً في حفنة من المهرجانات المساندة كون الاهتمام الأساسي لصانعيه (شركة أمبلين التي يملكها سبيلبيرغ وشركة يونيفرسال الموزعة) هي إنجاز ربح وفير استناداً إلى اسم المخرج كما إلى حقيقة أن «إنقاذ المجند رايان» كان أول فيلم ينتمي إلى سينما الحرب (War Films) منذ خفوت النوع في السبعينات (عملياً بتحفة فرنسيس فورد كوبولا Apocalypse Now سنة 1979) والأول منذ الخمسينات الذي شهدت إنتاج معظم الأفلام التي دارت حول الحرب العالمية ذاتها، وليس حول الحرب الفييتنامية كما حال فيلم كوبولا.
وبالفعل أنجز «إنقاذ المجند رايان» أضعاف تكلفته التي بلغت 70 مليون دولار إذ جمع حول العالم أقل من نصف مليار دولار بقليل (تحديداً 482 مليوناً). وكان عملاً لاهباً بين مشاهديه… فصل البداية وحده (هبوط زوارق القوات الأميركية على ساحل النورماندي في السادس من يونيو (حزيران) ، 1944) يفي بغايات عديدة.
صوّره سبيلبيرغ (رابع تعاون بينه وبين مدير تصويره المفضل يانوش كامينسكي) بواقعية: الزوارق تقترب من الشاطئ. تواجه بنيران قوية. تُصاب بعض الزوارق مباشرة ويتطاير منها بعض الجنود. في حالات أخرى يهبط الجنود من تلك الناقلات الصغيرة فيسقط بعضهم بعد خطوات قليلة ويصل بعضهم إلى رمال الشاطئ. يحتمي كابتن ميلر ورجال فرقته خلف بعض الصخور وما زالت القنابل تنهال عليهم قبل أن يبدأ هجوم القوات الأميركية لاحتلال المرتفعات ودحر المدافعين الألمان. كل هذا وسط فوضى القتال وتتطاير الأشلاء والصراخ والكاميرا المصاحبة للحركة في «تراكينغ شوتس» ممنهجة ببراعة.
يوظف سبيلبيرغ هنا صراع التضاد بين المواقف جميعاً: النازي واليهودي. الألماني والأميركي وما يُستخرج من هذا التضاد.
لكن الفيلم ليس معادياً للحرب مطلقاً (وليس معها بالشكل المباشر أيضاً). هو عن وقعها على الجنود والبذل الكبير للقوات الأميركية التي تحارب في سبيل مثل عليا ومحقة. هذا ما يؤدي بالفيلم للعب دور وطني معادٍ لكل من «سفر الرؤيا» لكوبولا و«الخط الأحمر النحيف» لمالك ومعهما «سترة معدنية كاملة» لستانلي كوبريك.
- واقعية مختلفة
ربح «إنقاذ المجند رايان» السباق الجماهيري إذ كان انتشر وحصد الإيرادات قبل أشهر من وصول فيلم مالك إلى العروض التجارية في الشهر الأخير من العام ذاته. والاستقبال التجاري لفيلم مالك لم يكن حافلاً. فيلمه تكلف قرابة 52 مليون دولار وحصد 98 مليون دولار. لكن هذا لا يحجب حقائق كثيرة وهي أن تصوير المعارك في «الخيط الأحمر النحيف» الذي قام به جون تول لم يكن منصباً على تجسيد المعارك بل تصوير الحالات الإنسانية التي يمر بها للجنود. غير رفض المجند وِت الحرب ومحاولته الفرار من الجبهة، هناك الأسئلة الشاغلة ذهن السيرجنت ولش (شون بن) والوضع العاطفي الصعب حين يخسر بل (بن تشابلن) زوجته التي تخبره بأنها تريد الانفصال عنه. ثم هناك الكابتن ستاروس (إلياس كوتياس) الذي يرفض التضحية بجنوده في مهمّـة تبدو له انتحارية.
هذه الشكوك كلها تواجه اليقين الشامل الذي نجده في الأفلام الحربية الأميركية عموماً وفي فيلم سبيلبيرغ.
في منحى التصوير، جهد كامينسكي يتساوى مع جهد جون تول في الجهد المبذول لنقل رحى المعارك. لكن جون تول أمهر في تحقيق لُحمة واحدة ما بين التصوير وصياغة المخرج لفنه البصري ككل. لا تتوقف «ألبانافلكس» المحمولة عن المواكبة، لكنها - على عكس تصوير كامينسكي، ليست استعراضية وبذلك هي مفصولة. لكن كلا الفيلمين ينشدان في الوقت ذاته الواقعية ويختلفان في كيفية تحقيقها. في فيلم سبيلبيرغ هي واقعية فحسب. في فيلم مالك هي واقعية شعرية.
ذات الاختلاف حين ننظر إلى عمل كل مخرج: مالك يبحث في داخل شخصياته. يريد أن يعكس ما تشعر به حيال كل شيء تمر به. سبيلبيرغ يقصد عرض الحدث الماثل مسنداً إلى الشخصية التي تنخرط به. بذلك سبيلبيرغ يسرد الحدث. مالك يغوص في مسبباته ومشاعر شخصياته. وهذا ما ساد كل أفلامه قبل «الخيط…» وحتى اليوم.
مالك يوحي ويعرض الأفكار والمفاهيم بسيمفونية بصرية أخاذة. سبيلبيرغ يؤمن (كما الحال في كل أفلامه) بالانفعال العاطفي. حين قيام جندي ألماني بغرز السكين في صدر الأميركي، فإن الغاية هي إدانة الأول والحزن على مصير الثاني. المشاهد المتوترة والعصيبة بأسرها تخضع لذلك الانفعال العاطفي وتقسيم الشخصيات بين خيرة بالكامل وشريرة بالكامل تبعاً لمفهوم سياسي سائد لا يختلف عليه اثنان لكنه لا يمثل الواقع أيضاً. بينما لدى مالك تلك الشخصيات التي تتدرج في ألوان مكنوناتها الداخلية: هناك البطولية وهناك الخائفة وهناك المتمردة وهناك المنصاعة. البانوراما يزيدها قيمة وجود ممثلين يستطيعون تجسيد المطلوب جيداً: شون بن، وأدريان برودي، وجيم كافييزل، وجورج كلوني، وجون كوزاك، وودي هارلسون إلياس كوتياس ونك نولتي.
خرج «إنقاذ المجند رايان» بخمسة أوسكارات فيما لم يفز فيلم مالك بأي أوسكار, لكنه تغلب على «إنقاذ المجند رايان» في جوائز «جمعية المصوّرين الأميركية». كذلك نال الفيلم جائزة الدب الذهبي (الأولى) في مهرجان برلين قبل 20 سنة.


مقالات ذات صلة

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )

«يوم 13» يطارد «هارلي» في سباق إيرادات «الفطر السينمائي» بمصر

أحمد داود في لقطة من الفيلم
أحمد داود في لقطة من الفيلم
TT

«يوم 13» يطارد «هارلي» في سباق إيرادات «الفطر السينمائي» بمصر

أحمد داود في لقطة من الفيلم
أحمد داود في لقطة من الفيلم

حقق فيلم الرعب والإثارة «يوم 13» مفاجأة خلال الأيام الماضية في شباك التذاكر بمصر، حيث حصد أعلى إيراد يومي متفوقاً على فيلم «هارلي» لمحمد رمضان، الذي لا يزال محتفظاً بالمركز الأول في مجمل إيرادات أفلام موسم عيد الفطر محققاً ما يزيد على 30 مليون جنيه مصري حتى الآن (نحو مليون دولار أميركي)، بينما يطارده في سباق الإيرادات «يوم 13» الذي حقق إجمالي إيرادات تجاوزت 20 مليون جنيه حتى الآن.
ويعد «يوم 13» أول فيلم عربي بتقنية ثلاثية الأبعاد، وتدور أحداثه في إطار من الرعب والإثارة من خلال عز الدين (يؤدي دوره الفنان أحمد داود) الذي يعود من كندا بعد سنوات طويلة باحثاً عن أهله، ويفاجأ بعد عودته بالسمعة السيئة لقصر العائلة المهجور الذي تسكنه الأشباح، ومع إقامته في القصر يكتشف مغامرة غير متوقعة. الفيلم من تأليف وإخراج وائل عبد الله، وإنتاج وتوزيع شركته وشقيقه لؤي عبد الله «أوسكار»، ويؤدي بطولته إلى جانب أحمد داود كل من دينا الشربيني، وشريف منير، وأروى جودة، كما يضم عدداً من نجوم الشرف من بينهم محمود عبد المغني، وفرح، وأحمد زاهر، ومحمود حافظ، وجومانا مراد، ووضع موسيقاه هشام خرما.
وقال مخرج الفيلم وائل عبد الله في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه ليس متفاجئاً بالإيرادات التي حققها الفيلم، ولكنه كان متخوفاً من الموسم نفسه ألا يكون جيداً، قائلاً إن «إقبال الجمهور حطم مقولة إن جمهور العيد لا يقبل إلا على الأفلام الكوميدية، وإنه يسعى للتنوع ولوجود أفلام أخرى غير كوميدية، وإن الفيصل في ذلك جودة الفيلم، مؤكداً أن الفيلم احتل المركز الأول في الإيرادات اليومية منذ انتهاء أسبوع العيد».
وكشف عبد الله أن الفيلم استغرق عامين، خلاف فترات التوقف بسبب جائحة كورونا، وأنه تضمن أعمال غرافيك كبيرة، ثم بعد ذلك بدأ العمل على التقنية ثلاثية الأبعاد التي استغرق العمل عليها عشرة أشهر كاملة، مؤكداً أنه درس طويلاً هذه التقنية وأدرك عيوبها ومميزاتها، وسعى لتلافي الأخطاء التي ظهرت في أفلام أجنبية والاستفادة من تجارب سابقة فيها.
وواصل المخرج أنه كان يراهن على تقديم الفيلم بهذه التقنية، لا سيما أن أحداً في السينما العربية لم يقدم عليها رغم ظهورها بالسينما العالمية قبل أكثر من عشرين عاماً، موضحاً أسباب ذلك، ومن بينها ارتفاع تكلفتها والوقت الذي تتطلبه، لذا رأى أنه لن يقدم على هذه الخطوة سوى أحد صناع السينما إنتاجياً وتوزيعياً، مشيراً إلى أن «ميزانية الفيلم وصلت إلى 50 مليون جنيه، وأنه حقق حتى الآن إيرادات وصلت إلى 20 مليون جنيه».
ورغم عدم جاهزية بعض السينمات في مصر لاستقبال الأفلام ثلاثية الأبعاد، فقد قام المخرج بعمل نسخ «2 دي» لبعض دور العرض غير المجهزة، مؤكداً أن استقبال الجمهور في القاهرة وبعض المحافظات للفيلم لم يختلف، منوهاً إلى أن ذلك سيشجع كثيراً على تقديم أفلام بتقنية ثلاثية الأبعاد في السينما العربية.