النساء... والسلطة

خُرافة الرجل المتوحش والمرأة المُسالمة

النساء والسلطة
النساء والسلطة
TT

النساء... والسلطة

النساء والسلطة
النساء والسلطة

يزداد التحاق النساء يوماً بعد يوم بالعمل السياسيّ، ولم يعد مستهجناً ولا مستغرباً أن تجد منهنّ رئيسات وزراء، ونائبات مشرّعات، ورئيسات بلديّات، وقائدات أحزاب سياسيّة، بل ووزيرات دفاع وخارجيّة، ليس في الغرب فحسب، بل في كثير من دول العالم الثالث. وفي الدّولة الأعظم، فإن قائمة الترشيح لخوض الانتخابات الرئاسيّة المقبلة، في مواجهة الرئيس دونالد ترمب، تضم عّدة نساء، بعد أن كانت الوزيرة هيلاري كلينتون منافسة جادة له في الصراع على الوصول إلى البيت الأبيض بالدورة السابقة.
وتَنْظر بعض الناشطات النسويّات بعين الرضا الشديد إلى هذي الظاهرة، معتبرات أن زيادة نسبة النساء في أجهزة الحكم والسلطة مدعاة للتفاؤل بمستقبل أفضل للبشريّة عموماً، بزعم قدرتهن المميزّة على بناء العلاقات والتفاوض الفعال، وميلهن كأمهات وزوجات وحبيبات إلى السلم وتجنّب الصراعات، أقلّه مقارنة برفاقهن الرجال الذين ينزعون بحكم طبيعتهم إلى المنافسة، والسعي لاكتساب النفوذ وممارسة الهيمنة، مما يجعلهم أقرب إلى التورط بالحروب والأنشطة العدوانيّة. وقد استعيدت هذه الفكرة إلى ساحة الجدل بين المثقفين مؤخراً، إثر تولي سيّدة منصب وزير دفاع المملكة المتحدة، ومن ثمّ الأداء الهزيل لرئيسة الوزراء فيها على نحو دفعها بالنتيجة إلى الاستقالة من منصبها، مما أثار مخاوف أن يستبدل بهما رجال قد ينحون في ظلّ تصاعد الشعوبيات عبر أوروبا برمتها إلى لعب أدوار صقوريّة في فضاءات السياسة الدوليّة.
وكان الكاتب الأميركي المعروف فرانسيس فوكوياما من أوائل الذين صبّوا الزيت على النار، عندما نشر مقالته الشهيرة «النساء وتطور سياسة العالم»، عدد سبتمبر (أيلول) - أكتوبر (تشرين الأول) 1998، في مجلة «فورين أفيرز» الواسعة التأثير بأوساط النخب الأميركية، التي اعتبر فيها أن طبيعة البشر تجعل من النساء أقدر في العمل السياسي على بناء السلم والتفاهم، بينما يحتاج الرجال بحكم تكوينهم إلى المنافسة والصراع، وبناء هيكليات للقوة والهيمنة، ومضى إلى درجة الدعوة لتسليم النساء مناصب أكثر لإدارة العلاقات الداخليّة بين الولايات والإدارات المختلفة، على أن تترك المناصب التي تتعامل مع الشؤون الخارجية إلى الرجال، بوصفهم الأقدر على مواجهة أعداء الإمبراطورية بالقوة الحاسمة والعنف، إن تطلب الأمر ذلك.
فوكوياما، المعروف بقراءاته المتطرفة للظواهر الاجتماعية، بداية من نظريته الأثيرة في نهاية التاريخ، وانتهاء بتحليله الملتبس لمسألة الهويات، كان قد غرف في مقالته من دراسات كثيرة حول قرود الشمبانزي التي قام بها عدة خبراء مشهورين، والتي تظهر الفروق الجندريّة ذاتها في السلوك السياسي بين الإناث والذكور، لا سيما أن هذه الفصيلة من الثدييات هي الوحيدة تقريباً (إلى جانب البشر) القادرة على تنفيذ أعمال عنف وقتل واسعة ضد المنافسين من النوع ذاته. وهو قد استبق الانتقادات بذكر مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة التي شنت حروباً عبر البحار، ومارست قمعاً عنيفاً بحق مواطنيها، بوصفها استثناء يؤكد القاعدة، وأنها في الحقيقة تجاوزت طبيعتها كأنثى، وتقمصت أطباع الرجال، لتهزمهم في ملعبهم ولعبتهم الأثيرة.
بالطبع، فإن تحليلات فوكوياما - كما تفاؤل الناشطات النسويات - تبدو لدى مقابلتها بأحدث الأبحاث العلمية المتوفرة بهذا الشأن وكأنها أقرب للكسل الفكري والتمنيات أكثر منها معطيات يعتمد عليها في اتخاذ مواقف أو الوصول إلى استنتاجات يمكن الركون إليها لصوغ السياسات. فالتاريخ القريب وحده حافلٌ بأمثلة أخرى كثيرة عن تورط النساء الحاكمات في حروب وصراعات عنفية مسلحة، حيث تسجلّ ماري كابريولي، البروفسورة بجامعة مينيسوتا، عشرة كبرى منها في القرن العشرين، أدارتها أربعة من النساء، وعلى رأسهن غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل (1969 - 1974). هذا رغم تمثيلهن النسبي المحدود داخل كوادر الحكم والسلطة. وإذا وسعنا مروحة المطالعة التاريخية، فسنجد أن تلك السلوكيات العُنفية لدى نساء السلطة، التي لا تكاد تختلف عن سلوكيات الرجال، ليست مقتصرة على نساء مرحلة الحداثة، بل هي نموذج سائد أيضاً في تاريخ العائلات الأوروبية الحاكمة خلال العصور الوسطى. وتشير دراسة للبروفسور أوينديلرا ديوب، من جامعة شيكاغو، غطت حكم 193 ملكاً وملكة حكموا في أوروبا بين الأعوام 1480 و1913، إلى أن الملكات - وهنّ أقل من خمس العدد الكلّي للعينة موضع الدراسة - كنّ أكثر ميلاً بنسبة الثلث تقريباً لشن الحروب، وتزداد تلك النسبة بين النساء غير المتزوجات تحديداً اللائي ربما خشين من تصورهن هشات ضعيفات في نظر قيادات الدول الأخرى. لكنّ التعميمات لا تنفع أيضاً، إذ إن إيزابيلا ملكة ليون وقشتالة التي حكمت مع زوجها فرديناند الخامس سفكت من دماء البشر، وتسببت بآلام ومارست سياسات عنفية، لا تقلّ بدرجة عن مآثر هتلر أو ستالين أو شارون الدموية في القرن العشرين. ولذا فإن عالمة أنثروبولوجيا مرموقة مثل الدكتورة كاثرين بانتر - بريك، من جامعة ييل، ترى أن مسألة تولّي القيادة - وممارسة العنف المرتبط بها - مسألة معقدة، وأن تسطيح الأمور جندرياً سيجعل أحكامنا مبنيّة على أساس من التنميطات والأحكام المسبّقة التي لا أساس لها في التاريخ ولا البيولوجيا.
ولعل أفضل توصيف علمي - وفق دراسة التاريخ المدوّن - لعلائق النساء بالسلطة هو أنهن قادرات عموماً، وربما حتى أكثر شراسة من رفاقهن الرجال باتخاذ المواقف الحاسمة، سواء في مواجهة العنف وخوض الصراعات أو التفاوض لتحقيق السلام ووقف الاقتتال. ولذا فإن النسوية الرائدة جين بيثكي إليشتين كانت عالية الصوت بمواجهة رفيقاتها الحالمات بمجاهرتها بـ«أن ذلك الفصل التقليدي المزعوم بين الرجال بوصفهم مقاتلين بطبعهم ميالين إلى الحروب والنساء بوصفهن أرواحاً جميلة توّاقة للسلام أمر لا سند له من الواقع، عندما تشن النساء القائدات الحروب، ويدفع أثمانها القاسية الرجال».
ورغم أن ثمة عدد قليل من النسويات اللائي ما يزلن يعتقدن أن الفروق الجندريّة متأتية من التكوين الطبيعي للبشر، فإنّ أغلبيتهن الساحقة يشتركن اليوم - كما التيار الغالب في العلم الحديث - بفكرة أن النساء والرجال يولدون متطابقين سيكولوجياً، وإن اختلاف السلوكيات، لا سيما اللجوء إلى العنف، هو نتيجة معمار اجتماعي متراكم يشكل وعي الأفراد في إطار الثقافة المجتمعية السائدة. ولعل ذلك يسمح لنا بفهم أفضل لمسائل السياسة والعلاقات الدولية، بدلاً من التمرغ بأوحال التنميطات الفوكوياميّة الطابع، نسبة إلى فوكوياما إن جاز التعبير. فالسيّدة الحسناء بيني موردونت التي تتولى منصب وزيرة دفاع الحكومة البريطانية الحالية معروف عنها نزعتها إلى دعم استخدام العنف في إدارة العلاقات الدولية، وهي كثيراً ما جاهدت بينما كانت تمسك بمهام منصبها السابق، وزيرة للتعاون والعلاقات الدوليّة، لتقليص ميزانيّة وزارتها لمصلحة بند التسليح في ميزانيّة زميلها وزير الدفاع السابق. كما أن رئيستها - المُستقيلة تيريزا ماي - التي تبجحت خلال خطاب استقالتها بأنها ثانية رئيسة أنثى للوزراء ولن تكون الأخيرة قدمت نموذجاً لا يدانيه الرجال في العناد والتنافس وعدم القدرة على التفاوض خلال ثلاث سنوات عجاف متتالية، وأسقطت واحدة من دول العالم الكبرى في قلب أزمة سياسية خانقة لا يعرف أحد إلى الآن طريقاً آمناً للخروج منها.
قد نكون بحاجة إلى مزيد من النساء في كل مواقع القيادة والسلطة، فذلك يكفل توازن اتخاذ القرارات التي تنسحب آثارها بالمحصلة تساوياً بين النساء والرجال. أما مسألة أنهن عند توليهن الحكم ضمانة لغدٍ أكثر إشراقاً، فتلك أوهام من طراز «نهاية التاريخ»، قد تبيع كتباً كثيرة لكنها لا تصلح لإحلال السلام على هذا الكوكب.


مقالات ذات صلة

إيران: عيادة للصحة العقلية لعلاج النساء الرافضات للحجاب

شؤون إقليمية امرأتان تشربان الشاي في الهواء الطلق بمقهى شمال طهران (أ.ب)

إيران: عيادة للصحة العقلية لعلاج النساء الرافضات للحجاب

ستتلقى النساء الإيرانيات اللاتي يقاومن ارتداء الحجاب، العلاجَ في عيادة متخصصة للصحة العقلية في طهران.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا صورة جرى توزيعها في يناير 2024 لنساء وأطفال بمخيم زمزم للنازحين بالقرب من الفاشر شمال دارفور (رويترز)

شهادات «مروعة» لناجيات فررن من الحرب في السودان

نشرت «الأمم المتحدة»، الثلاثاء، سلسلة من شهادات «مروعة» لنساء وفتيات فررن من عمليات القتال بالسودان الذي يشهد حرباً منذ أكثر من عام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
آسيا صورة من معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس للتعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات (أ.ف.ب)

معرض صور في باريس يلقي نظرة على حال الأفغانيات

يتيح معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس التعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات، ومعاينة يأسهن وما ندر من أفراحهنّ.

«الشرق الأوسط» (باريس)
آسيا امرأة يابانية مرتدية الزي التقليدي «الكيمونو» تعبر طريقاً وسط العاصمة طوكيو (أ.ب)

نساء الريف الياباني يرفضن تحميلهنّ وزر التراجع الديموغرافي

يعتزم رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا إعادة تنشيط الريف الياباني الذي انعكست هجرة السكان سلباً عليه.

«الشرق الأوسط» (هيتاشي (اليابان))
الولايات المتحدة​ صورة للصحافية الأميركية - الإيرانية مسيح علي نجاد مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (صفحتها على موقع «إكس»)

واشنطن تتهم مسؤولاً في الحرس الثوري الإيراني بالتخطيط لاغتيال صحافية في نيويورك

وجّهت الولايات المتحدة اتهامات جديدة إلى مسؤول في الحرس الثوري الإيراني وآخرين بمحاولة خطف صحافية أميركية من أصل إيراني في نيويورك واغتيالها.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.