الشرق الأوسط و«الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية

من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017
من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017
TT

الشرق الأوسط و«الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية

من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017
من لقاء بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2017

تناقش صفحة قضايا موضوع الصعود الصيني السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية، وانعكاس ذلك على المنافسة الواضحة مع القوة الأميركية في كثير من الساحات والمجالات، ومنها ما يهمنا في منطقة الشرق الأوسط. ويلقي الخبير الأميركي ديفيد بولوك ضوءاً على تأثير التوترات التجارية بين أميركا والصين على الشرق الأوسط، من ناحية تقليص نمو معظم اقتصادات المنطقة.
ناحية أخرى يتناولها الخبيران في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن دان أربيل وديفيد غوردون تتناول انعكاسات التعاون المتقدم بين إسرائيل والصين في المجالات التقنية والتجارية على العلاقات الإسرائيلية - الأميركية.

لا يعتبر الخلاف الاقتصادي الكبير المشتعل اليوم بين الولايات المتحدة والصين حرباً بالمعنى الحقيقي، ولا حتى حرباً اقتصادية، وإنما يمثل بصورة جوهرية تصعيداً لسلسلة من التعريفات العقابية، أو الضرائب التي بدأت كل دولة في فرضها على الواردات القادمة من الأخرى. وكانت خطوة البداية من نصيب الولايات المتحدة، والتي فرضت تعريفات جديدة وصلت إلى 25 في المائة على واردات صينية شتى بقيمة تقدر بمئات المليارات من الدولارات. وبعد ذلك، انتقمت الصين بالأسلوب نفسه. واليوم يهدد الجانبان باتخاذ مزيد من الخطوات في هذه الدائرة المفرغة.
بصورة عامة، يلحق هذا النوع من المنافسة السلبية الضرر باقتصاد كلا الطرفين، لأن الضرائب الجديدة تجعل الواردات أعلى سعراً، وبالتالي يضطر المستهلكون لسداد أسعار أعلى وشراء سلع أقل. ويترتب على ذلك تراجع في مجمل الحركة التجارية، ويتراجع معها النمو الاقتصادي في كلا البلدين. ولذلك يقول الكثير من الخبراء إن الحروب التجارية ليس فيها طرف فائز، وإنما خاسرون فقط ـ وإن كان من الممكن أن يتكبد أحد الطرفين خسارة أفدح عن الآخر. مثلاً، تعاني بالفعل الصادرات الزراعية الأميركية للصين، إحدى السلع الكبرى، بالفعل من ضرر بالغ جراء ما يدور بين البلدين. وبسبب ذلك وجد الرئيس ترمب نفسه مضطراً لتخصيص مليارات إضافية من الموازنة الحكومية لـ«إنقاذ» المزارعين المتضررين من موجة الزيادات الأخيرة في التعريفات المتبادلة بين البلدين.
لماذا أقدم ترمب إذن على هذه الحرب التجارية مع الصين؟ في الجزء الأكبر منها، يبدو ذلك محاولة لممارسة ضغوط على الصين لإصلاح بعض سياساتها الاقتصادية المهمة: التجسس الصناعي وسرقة الملكية الفكرية والنقل القسري للتكنولوجيا والإعانات الحكومية الضخمة لصناعات منتقاة وفرض قيود صارمة على الشركات الأجنبية في قطاعات جوهرية بعينها... وغيرها. ويتفق الكثير من المراقبين الأميركيين، ومن بينهم حتى بعض أقسى منتقدي ترمب من الليبراليين، أمثال الكاتب الشهير في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، على أن الصين تغش في التزاماتها في هذه المجالات أمام منظمة التجارة الدولية التي انضمت إليها منذ نحو عشرين عاماً.
ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه التعريفات الجديدة ستكون فعالة في تحسين سجل الصين. إلا أنه حتى ولو لم تكن فعالة، تبقى هناك فرصة معقولة أن تتوقف الولايات المتحدة عن تصعيد هذه الدائرة لمستوى أكبر، كي تتجنب وقوع أضرار اقتصادية متبادلة أكبر. في الواقع ينصح بعض كبار صانعي السياسات الأميركيين الآن بالتحلي بحذر أكبر في هذا الشأن. وأعتقد أن الولايات المتحدة والصين ستتوصلان قريباً إلى سبل للتوصل لاتفاقات، بدلاً من الاستمرار في التصعيد ومواجهة تكاليف أكبر وأطول أمداً.
ما تنبغي الإشارة إليه هنا أن أي رئيس أميركي يملك سلطة قانونية وعملية كبيرة لفرض تعريفات وسياسات تجارية دولية أخرى. وتعتمد هذه السلطة الشخصية للرئيس على القوانين الأميركية القائمة، مثل قانون السلطات الاقتصادية الدولية الطارئة والعديد من القوانين المشابهة الأخرى. ويتمثل الاختلاف الموجود اليوم في أن ترمب يبدو حريصاً للغاية على ممارسة هذه السلطة على نحو قوي ومفاجئ. وخلال مناقشات جرت بيني وبين مسؤولين وخبراء صينيين حول هذا الأمر، سواء في الصين أو واشنطن أو الشرق الأوسط، فوجئت باهتمامهم الشديد بأسلوب صنع القرار الذي يتبعه الرئيس الأميركي الحالي والذي يتسم بالقوة ويتعذر التنبؤ به ـ بما في ذلك حقيقة أنه أحياناً يغير رأيه فجأة، حتى بخصوص القضايا الحساسة والمثيرة للجدل.
الآن ولأن الولايات المتحدة والصين أكبر اقتصادين في العالم (وإن كانت الولايات المتحدة لا تزال أكبر بكثير، وأكثر ثراءً بكثير بالنسبة للفرد)، ولأنهما شريكان تجاريان مهمان لبعضهما البعض، فإن انكماش التجارة بينهما لن يضر اقتصاد البلدين فقط، وإنما الاقتصاد العالمي ككل. ولذلك تميل أسواق الأسهم حول العالم، على سبيل المثال، إلى التراجع لدى ورود أنباء عن مزيد من التوترات التجارية الأميركية ـ الصينية، وترتفع عندما تهدأ التوترات.
وينقلنا هذا أخيراً لتأثير هذه التوترات التجارية على الشرق الأوسط. إذا استمرت «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين، وتسببت بالتالي في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي أو حتى حالة ركود عالمي، فإن هذا سيؤدي بصورة شبه مؤكدة إلى تقليص نمو معظم اقتصاديات الشرق الأوسط هي الأخرى. من أبرز الأسباب وراء ذلك أن أسعار النفط تميل في الغالب إلى الارتباط المباشر بالإمكانات الاقتصادية العالمية. وعندما تنكمش هذه الإمكانات، تميل أسعار النفط نحو الانخفاض هي الأخرى ـ ويعتمد الكثير من اقتصاديات الشرق الأوسط على عائدات النفط، وبالتالي ستتعرض لأضرار مضاعفة. ومن المحتمل أن يشكل ذلك النتيجة الأهم على المنطقة لما يجري من مد وجزر في العلاقات الاقتصادية الأميركية - الصينية.
ومن المحتمل أن تتعرض المنطقة لبعض التداعيات الأخرى، حتى وإن كانت بصورة غير مباشرة. وربما تبدأ الولايات المتحدة والصين في التطلع نحو مناطق أخرى بخلاف بعضهما البعض بحثاً عن أسواق جديدة ومداخلات اقتصادية وفرص استثمارية. وإلى حد معين، من الممكن أن يؤدي ذلك لإعادة توجيه بعض النشاطات الاقتصادية الأجنبية نحو عدد من المواقع المختارة في الشرق الأوسط. مثلاً، يمكن أن تزيد الصين بدرجة كبيرة من نشاطات البناء وعدد من النشاطات الاقتصادية الأخرى في دول عربية تتسم بعدد كبير من السكان وأسعار منخفضة نسبياً، مثل مصر. وربما تتحرك شركات أميركية في اتجاهات مشابهة.
في هذا الإطار، تتمثل نقطة بالغة الأهمية في أن دول الشرق الأوسط لن تضطر في معظم الأحوال إلى الاختيار بين بناء روابط قوية مع إما الصين أو الولايات المتحدة ـ على خلاف الحال مثلاً فيما يتعلق بالعقوبات الحالية التي تجبرها على الاختيار بين الولايات المتحدة وإيران. وبالتالي فإن ازدياد الاهتمام الصيني والأميركي بالفرص التجارية في الشرق الأوسط ربما يقلص الأضرار الاقتصادية الأوسع الناجمة عن «الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية. ومع ذلك تبقى هناك مجالات حيوية قليلة ربما سيتعين على دول الشرق الأوسط خلالها الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، خاصة إذا استمرت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين في التردي. من بين هذه المجالات القطاع الأمني وما يرتبط به من تجارة واستثمارات ـ سواء أسلحة أو تكنولوجيا سيبرية أو مواد خام حساسة. ومن بين الأمثلة في هذا الجانب الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا الاتصال عن بعد من شركة «هواوي» الصينية، وبيع معدات عسكرية أميركية متقاعدة. وإذا تفاقم الصدع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، فإن اهتمام كل منهما ربما يتزايد بتقييد سوق صادرات مثل هذه السلع الحساسة، وحرمان الأخرى منها. في هذه الحالة، ستتعرض دول الشرق الأوسط لضغوط أكبر من أي وقت مضى كي تتخذ قرارات صعبة تجاه هذه الخيارات الحيوية، التي تتميز بطابع جيوسياسي لا يقل أهمية عن الطابع الاقتصادي لها.
وبذلك فإنه بصورة عامة من المحتمل أن تترك «الحرب التجارية» الأميركية ـ الصينية تأثيراً محدوداً أو غير مباشر على الشرق الأوسط. ويتعين على صانعي السياسات في الشرق الأوسط البحث عن تسوية ما لهذه التوترات التجارية القائمة بين العملاقين الاقتصاديين البعيدين. ومن شأن ذلك خدمة مصالح اقتصاديات الشرق الأوسط، بجانب الاقتصادين الأميركي والصيني.

* خبير في معهد واشنطن
لسياسات الشرق الأدنى



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.