رسائل الشاعر الروسي ماياكوفسكي إلى الإيطالية للمرة الأولى

ضمت 416 رسالة متبادلة بين الشاعر وحبيبته ليلي بريك

ليلي بريك
ليلي بريك
TT

رسائل الشاعر الروسي ماياكوفسكي إلى الإيطالية للمرة الأولى

ليلي بريك
ليلي بريك

في أحد أيام صيف 1915، توسلت «ليلي بريك» إلى شقيقتها «إلزاكاخان» أن تمتنع عن دعوة «فلاديمير ماياكوفسكي» لقراءة قصائده أمامهم، إذ كانت الأولى وزوجها «أوسيب لريك» يحملان انطباعاً سيئاً عن الشاعر المستقبلي، بعد أن استمعا إليه في مناسبة سابقة يلقي قصائده في حفل من تلك الاحتفالات الاستفزازية المجافية للذوق السائد، نظم على شرف الشاعر الرمزي «كوستانطين» إثر عودته من المنفى. ورغم توسلات شقيقتها، أصرت إلزا على تحقيق رغبتها بالاستماع إلى الشاعر وهو يلقي قصائده المتفجرة. وهكذا، لم يمانع ماياكوفسكي، وراح يقرأ لهم مقاطع من قصيدته الطويلة الشهيرة «غيمة في سروال». المكان كان شقة «ليلي وزوجها أوسيب» في بيتروغراد، وبدا عليه انشغال البال، وبصوت خفيض قال: «هل تعتقدون أنها أمراض الملاريا؟ لقد حصل كل شيء».
دون أن ينظر إلى أحد، أو يغير موضعه، انطلق يلقي قصائده الصاخبة، منتزعاً حماساً غير معهود، حتى من «ليلي» و«أوسيب»، فهذا ما انتظراه طويلاً، ولم يتحقق إلا هذه المرة، كانا يحلمان بمثل هذا الإلقاء والتعبيرية الثرية. فقبل هذا اللقاء، بدت لهما قصيدته خلواً من أي معنى. وفجأة، يظهر لهما الشخص المناسب؛ طريقة الإلقاء المثيرة، والموضوع الشيق. كانت الحرب في ذروة انفجارها صيف 1915، و«ليلي» لم تتجاوز الرابعة والعشرين، أما ماياكوفسكي فيصغرها بسنتين. يأتي هذا الاسترجاع لقصة حب الشاعر المستقبلي ماياكوفسكي ضمن رسائله الأخيرة إلى «ليلي بريك» بين سنوات 1915 - 1930، وقد صدرت هذه الأيام بلغات أوروبية متعددة، ومنها اللغة الإيطالية. بدت لنا رسائل غير عادية ونحن نطلع عليها بين صفحات الكتاب الإيطالي الذي ضم 416 رسالة متبادلة بين الشاعر وعشيقته الجديدة التي التقاها لأول مرة في عام 1915، ذلك العام الذي يؤرخ لبداية تلك المراسلات، أحياناً بلغة البرقيات، وأحياناً أخرى تكتب بلغة متهكمة استفزازية، كالرسالة التالية:
«عزيزتي ليسكا، عزيزي أوسكا، أقبلكم في بداية الرسالة وليس في نهايتها كما اعتدنا، لا أعرف كم هي الساعة الآن! ما الجديد عندكم؟ أفراد سعداء أقاموا في ذلك الريف الساحر الذي كنتم أول من سماه، والذي تحرثه العصابات الناهبة وهي تردد جملتها المعتادة: ليليا أبدأ ليليا... أمس، كنت ألقي للجمهور بعضاً من قصائدي، أحسسنا جميعاً بامتلاء ثمل، لا للنقود للأسف، وإنما بأصدقاء طيبين، ولم تبدأ الأمسية كالمعتاد بـ(أعزائي المواطنين)، إنما ابتدأت بـ(أعزائي إبرام فاسيلفيك، وإلزا وليف... إلخ). أطفالي الطيبين، اكتبوا... استمعوا... أقبلكم».
قصة الحب هذه، كما عكستها الرسائل، وكما كانت في الواقع، كانت عشقاً كبيراً. وقبل كل شيء، قطعت «ليلي» كل علاقة جسدية مع زوجها «أوسيب» ابتداء من 1915، وإن ظلت رفيقته وصديقة حياته. ومن جانب آخر، نمت صداقة بين الرجلين، يغذيها اعتماد متبادل، زاد تصلبه في الجانب السياسي والفني. وقد أصبح «أوسيب» و«ليلي» هما الناشر الوحيد لأعمال ماياكوفسكي، بعد امتناع الناشرين الآخرين عن نشر القصيدة الشهيرة «قصيدة في سروال». وفي هذا التاريخ، يدعى ماياكوفسكي لحمل السلاح، وقد نجح في الانضمام إلى الوحدة ذاتها التي كان يخدم فيها كل من «ليلي وأوسيب». وفي هذه الأجواء، وجد الشاعر نفسه في ذروة الهيام التي تمناها بلا توقف، وفي الوقت نفسه كانت رياح الثورة السوفياتية تشق طريقها وسط دوي مدافع الحرب.
في الواقع، إننا هنا أمام مراسلات خاصة كان الجمهور يجهلها آنذاك، تروي جوانب من حياة الشاعر في مرحلة استثنائية حبلى برياح التغيير؛ إنها رسائل تؤرخ لانقلابات كبرى في حياة الشاعر ذاته: عواطفه النارية، وشهواته الغريبة، ومساهماته في حمى الصراع آنذاك، وفي روسياه تلك. ها هي واحدة من تلك الرسائل التي بثها ماياكوفسكي في شتاء 1917 من موسكو إلى بيتروغراد يبدأها هكذا:
«إلى العزيزة ليلك...خلفت ورائي كل عقوبات الروح الفتية المتلهفة في الخطوة القصيرة التي تعقب العمل... كم أنا سعيد لذلك النجاح الذي حققته مع الشاعر (دوديما كامينسكيف) في تحويل أنظار موسكو إلى (مقهى الشعراء)، حين نجحنا في تقديم كثير من الأمسيات الشعرية فوق خشبة المسرح الصغير في هذا المقهى وسط جمهور رائع، نبدأ مع أمسيتنا بشتائم وإهانات مقصودة، وننتهي بتقاسم ما نحصل عليه من نقود معاً. إن المستقبلية تلاقي قبول الجمهور».
وفي فترة لاحقة، يقع أول انفصال استمر لستة أشهر بين ماياكوفسكي (الذي يغادر بيتوغراد إلى موسكو بعد خلافه مع البلاشفة في مجال الثقافة) وبين ليلي التي تبقى مع «أوسيب» في بيتوغراد، وتكتب له في ربيع 1918، أي بعد هذه القطيعة: «جروي العزيز، أقبلك، ولقد حفظت على الذاكرة قصيدتك (الإنسان). الليلة الماضية، رأيتك في الحلم، وبقيت أراك طيلة الليل، وجدتك تعيش مع امرأة شديدة الغيرة، وكنت خائفاً أن تحدثها عني. ألا تستحي! بي شوق عارم لرؤيتك، لا تنسني... ليلي».
ولم يستطع أن ينساها، ولقد أعجبته كلمة الدلع التي خصته بها. فيجيبها: «عزيزتي العذبة لحد القرف ليلكي... من اليوم فصاعداً، سوف لن أسمح لأحد أن يجعلني أقرأ قليلاً... ليس لي من مشاعر سوى قراءة رسائلك. لا أدري إن كان هذا مناسباً لثقافتي، لكنني على يقين من نشوتي، إذ توجب أن تعتبريني جروك الصغير، ففي هذه الحالة لا أحسدك؛ إن جروك هذا لا قيمة له، ثمة الأضلاع الناتئة، والشعر الكث، وإلى جانب العين المحمرة ثمة الأذن الطويلة. ويؤكد الطبيعيون أن الجراء تنتهي هكذا، بهذه القسوة حين تجد نفسها تحت رحمة الأيادي الغريبة التي لا يحبونها... رغبتي الأكثر اضطراماً في هذا العالم هي أن أصل إليك، وإذا ما ذهبت إلى مكان ما ولم تلتقيني، فلست سوى شريرة، اكتبي أيتها الطفلة... قبلاتي لحلاوتك، لعذوبتك، لشطارتك... في رسالتي هذه لم أبعث قبلاتي وتحياتي لأحد سواك، فهي عبارة عن رسالة خاصة تقع في نطاق (إليك ليلي)، تغمرني بهجة عارمة لأنني وضعت إهدائي إليك على أول صفحات كتاب (الإنسان)».
وبالمناسبة، فإن هذه المجموعة الشعرية المعنونة بـ«الإنسان» تضم أفكار ماياكوفسكي عن الانتحار الذي يمزج بينه وبين فكرة المتفائل الأكثر إفراطاً في سبيل المستقبل بطريقة غريبة حقاً. ورغم التغييرات الإيجابية في حياته، خصوصاً الجانب الخاص فيها آنذاك، يقرر ماياكوفسكي في عام 1922 الانفصال عن «ليلي»، إذ لم يعد أي شيء كما كان، حيث انغمر الاثنان بعلاقات عاطفية كثيرة وأكثر تنوعاً، وعانيا من صراعات جديدة غير محتملة. وتبدو من خلال هذه الرسائل الخاصة جوانب كثيرة ظلت خفية عن معرفة القارئ في حياة أحد كبار شعراء القرن الماضي، الذي انتهى تلك النهاية الفاجعة، حيث مات منتحراً.
ومن المناسب في الختام أن ننهي الحديث عن هذه الرسائل بخاتمة المقال المعروف الذي كتبه «رومان جاكوبسن» عام 1930، في أعقاب انتحار ماياكوفسكي مباشرة، ويتحدث فيه عن عظمة صديقه الشاعر وسبب رحيله:
«لقد رمينا بأنفسنا في شراهة لا حدود لها نحو المستقبل، كي نستبقي لنا شيئاً من الماضي. كانت روابط الأزمنة تنحل. هكذا عشنا المستقبل بكل ثرائه، فكرنا فيه كثيراً، وفيه آمّنا كثيراً، وهكذا لم تبق لنا هنيهة معاصرة تكفي جوعنا. أضعنا الإحساس بالحاضر، نحن الشهود والمشاركون في انعطافات علمية واجتماعية وغيرها كانت من القوة بحيث بدت وكأنها صواعق كارثية، في حين استمرت الحياة اليومية تجرجر أذيالها وراء كل هذا».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟