معاذ الآلوسي... النبيل البغدادي

أَحبّ العمارة وتولّه بها مثلما يتيه العاشق حباً بمعشوقته

معاذ الآلوسي
معاذ الآلوسي
TT

معاذ الآلوسي... النبيل البغدادي

معاذ الآلوسي
معاذ الآلوسي

يحار المرء حتى ليكاد يتلبّسه الإعياء في محاولته توصيف المعمار الأمهر معاذ الآلوسي: ما هو؟ ومن هو؟ إنه بحقّ كينونة دينامية تستعصي على التوصيف محدّد السمات؛ فما هو بمعمار عراقي وحسب، ولا هو محض مؤرّخ وموثّق لتاريخ العمارة البغدادية، ولا هو كاتب مدقّق في حفريات الحياة البغدادية بتفاصيلها السوسيولوجية والأنثروبولوجية الغنية المشتبكة، ولا هو ذلك الحكّاء الذي تلين له أعقد المرويات المهنية والشعبية لتغدو محببة مطواعة. إنّه كلّ هؤلاء وأكثر من هؤلاء. هو معاذ الآلوسي، النبيل البغدادي الذي يمثل روح الأرستقراطية البغدادية عفيفة النفس بكلّ بهائها وسخائها وروحها السمحة المشرقة.
لِمَ تُعدّ الممارسة المعمارية لدينا بعيدة الصلة عن الممارسات الثقافية العامة وروح الحياة المؤثرة في الذائقة الجمعية؟ كان هذا واحداً من التساؤلات التي لطالما شغلتني منذ بواكير اهتماماتي الثقافية -والمعمارية منها بخاصة- وقد انتهيتُ بعد تفكّر طويل إلى القناعة التالية:
يبدو لي أنّ منظومة تعليم العمارة لدينا تكرّس نمطاً من الهرمية الطبقية التعليمية الموهومة التي تعمل بدورها على تكريس أنماط من الأنساق الثقافية التي تأبى الاستجابة لروح العصر ومتغيراته الثورية، وبموجب هذه الرؤية الهرمية تبدو الممارسة المعمارية نوعاً من الطقوسيات الكهنوتية المقفلة في إطار جماعة نخبوية من الأثرياء المحظوظين الذين مسّتهم بركات آلهة العمارة، تلك الآلهة التي ستجعل منهم كائنات متفرّدة تتسيّد الأعالي الوظيفية المهيمنة في المجتمع. وربّما أسهم في إشاعة هذا التصوّر كونُ أوائل المعماريين متحدّرين من عوائل ثرية ذات نفوذ مالي و- أو سياسي فاعل؛ ولمّا كان شكل الثراء في بلداننا غير الخالقة ولا المطوّرة للتقنيات الحديثة يتمظهر في شكل الملكيات العقارية -أرضاً ومنشآت مشيّدة- فسيكون من الطبيعي نشوء ميلٍ تلقائي لتلك العوائل إلى جعل أبنائها ينكبّون على دراسة كلّ ما له علاقة بالتطوير العقاري بقصد تعظيم الفائدة المجتناة من الملكيات العقارية وتحقيق أقصى العوائد منها؛ في حين أنّ العمارة الغربية تطوّرت في مسارات موازية للتطوّر الحاصل في الرؤية الثقافية التي تسعى لتعظيم الارتقاء بالوضع البشري، ولعلّ مصداق هذا القول يكمن في حقيقة أنّ أعاظم المعماريين -الأوروبيين بخاصة- إنّما كانوا من المثقفين الطلائعيين الذين شغلتهم هموم الإنسان ومكابداته قبل أي شيء آخر.
إنّ مَنْ سبق له أن قرأ للناقد الثقافي والمعماري تشارلس جينكس -على سبيل المثال فحسب- سيرى أنّ كتاباته أقرب إلى كتابات النقّاد الثقافيين المعروفين (أمثال تيري إيغلتون وبل أشكروفت)؛ بل حتى إنّ مفرداته واشتغالاته المعرفية إنّما هي المفردات والاشتغالات ذاتها الشائعة في أدبيات الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد الإنسانية... إلخ وليست اشتغالات نخبوية تسعى لخدمة جماعة منغلقة على ذاتها وبعيدة عن الهمّ الإنساني ومتطلّبات الارتقاء بالأوضاع البشرية.
هنا تكمن المأثرة العظمى لمعمارنا الآلوسي؛ فهو لم ينكفئ في لجّة المدرسة المعمارية الأكاديمية العراقية، ولم يتخذ العمارة مرقاة تكفل ارتقاءه على أعالي المناصب الوظيفية المهيمنة؛ بل هو أحبّ العمارة وتولّه بها مثلما يتيه العاشق حباً بمعشوقته وعلى طريقة المتصوفة، ويحكي لنا الرجل في كتابه «نوستوس: حكاية شارع في بغداد» عن الظروف الغريبة التي جعلته جوّاباً منذ يفاعته يطلب الدراسة والعمل في أصقاع بعيدة؛ فكان أنْ شدّ رحاله إلى إسطنبول ليدرس العمارة فيها، ثمّ ليعود بعد هذا إلى بغداد وينطلق منها في رحلة جديدة نحو أوروبا التي كانت لمّا تزل تشهد حومة من العمل الخلاق لمعالجة آثار التخريب الناجم عن الحرب العالمية الثانية.
أسهمت أجواء الدراسة والعمل (فضلاً عن الخبرات غير التقليدية التي تحصّلها الآلوسي مبكراً في حياته) في جعله شخصية إنسانية غير منمّطة تتعالى على الأنساق البيروقراطية المتكلسة وتطمح للعمل والفعل والإنجاز بعيداً عن الأجواء المكتبية وعالم الدسائس التي يحفل بها القطاع الحكومي.

المعمار المحبّ للإنسان
يمثّل الآلوسي النموذج الرفيع للمعمار الإنساني الذي يرى في العمارة رافعة لتحسين ظروف البيئة الإنسانية بعيداً عن اتخاذها وسيلة لخدمة الأثرياء والمقتدرين مالياً فحسب، وهو إذ يمثّل هذه الروح المحبّة للإنسان أينما كان فهو بعيد كلّ البعد عن الانغمار في مظهريات فلكلورية اختزالية بل يسعى دوماً للارتقاء بمفردات العمارة البغدادية والحفاظ على الموروثات البغدادية (والعراقية بعامة) بطريقة أكاديمية منظّمة مستفيداً من تجربته الألمانية في العمل، والألمان -كما نعرف- ذوو باع طويل وخبرة معتّقة في هذا الميدان. كتب الآلوسي في أحد منشوراته الفيسبوكية الحديثة نصاً أجتزئ منه المقطع التالي:
«في بداية الثمانينات، انشغلت بمشاريع موازية لواجباتي في شارع حيفا. علّمني مشروع تطوير الكرخ، مع نخوة تأهيل مدينة الثورة، أن أتفحص موقع المهنة من الناس. الطرف الآخر من المهنة هم الناس العاديون. لا أحد غيرهم مَن يحتاج إلى سكن صحي، ومدارس مؤهلة ومنتجة، وخدمات سهلة. مهمّتنا توفير الحق المكتسب والأوّلي في السكن والمأكل. كلّما أتطلع إلى برج من أبراج دبي أحسب في رأسي كم داراً رخيصة الكلفة يوفّر هذا البرج أو ذاك لأولئك العراقيين الذين يسكنون المزابل أو في (حيانية) البصرة التي لا تصلح لسكن البشر، والآن في الموصل التي تتعفن تحت أنقاضها الجثث. لدينا عشرات المدارس المعمارية تخرّج معماريين، وهم الآن يروّجون للمرمر الإيطالي والألوكوبوند الألماني، وكريستال بوهيميا لسقوف صحون الأضرحة، ولأبراج زهوية...».
يوضّحُ هذا النصّ المختصر، وبأجلى صورة، المفاعيل الإنسانية التي تعترك في روح الآلوسي وتنغّص عليه هناءة العيش، إذ يرى بغداده التي أحبّ وهي تعيش وسط مباءة فضائحية من التخلّف والقهر وانعدام الإحساس بإنسانية الإنسان، كما يعيب في الوقت ذاته على هذا الفيض من المعماريين الذين ما عادوا يُلقون بالاً لأي عنصر إنساني أو فلسفي أو ثقافي في ممارستهم المهنية بقدر ما باتوا يروّجون لنمط من البيوتات القبيحة متعددة الطوابق تُبنى على مساحات ضئيلة من الأرض في مشهد بصري يلوّث الذائقة البغدادية ويتقطع معها في أقبح استعراض بصري يوظّف المنتجات البنائية المستوردة غالية الثمن. إنها حفلة تفاهة فاوستية تريد مقايضة الأصالة البغدادية العريقة بهياكل إنشائية تكسوها مواد تغليف باهظة الثمن.

حكّاء ماهر
يتفرّد الآلوسي بقدرته الحكائية الفذّة التي تجيد إعادة سرد الوقائع الحياتية -مهنية كانت أم غير مهنية- في نسق حكائي أخّاذ يمسك بعقل القارئ وروحه، وهو إذ يفعل هذا الأمر فإنه يكشف عن قدرة متأصلة فيه (أراها أقرب إلى موهبة سردية متميزة) في سرد الوقائع ومن ثمّ استخلاص الحكمة المكنوزة فيها عبر نسيج حكائي يجمع بساطة المحكيات التي تواتر على سردها العجائز مع عنفوان الفكر الجامح الكامن فيها، وأشهد -وأنا التي قضيت عمراً كاملاً مع السرد ومتاهاته- أنّ الأستاذ الآلوسي يستحقّ أن يكون حكّاءً من الدرجة الأولى وبأرقى النماذج الرفيعة من التجارب السردية المتداولة؛ فاللغة لديه تستحيل مركّباً مطواعاً يستجيب لذائقته البغدادية ولفكره الخصب البعيد عن الرطانات العقيم.
دأب الآلوسي على تسجيل سيرته الذاتية الفكرية - الحياتية - المهنية في كتب ثلاثة أخرجها تحت عناوين مثيرة لافتة –لا يغفل عن شرحها للقارئ- وقد جاءت حسب الترتيب التالي: «نوستوس: حكاية شارع في بغداد»، و«توبوس: حكاية زمان ومكان»، و«ذروموس: حكاية مهنة». أقول بكلّ ثقة إنّ تلك السيرة هي أجمل سيرة ذاتية لشخصية عراقية سبق لي أن قرأتها، وربما لا تضاهيها سوى السيرة الذاتية للراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا، وإن كانت تتمايز عنها في طبيعتها السيكولوجية؛ فالكاتب يبقى كاتباً ذا مميزات خاصة لا بد أن تختلف بالضرورة عن المميزات التي تسم الكاتب الذي يمارس مهنة غير الكتابة. معاذ الآلوسي أكبر من معمار أو كاتب أو أي توصيف مهني أو إبداعي.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.