«القمر... رحلة عبر الزمن» في معرض بتورونتو الكندية

تمثال عملاق بعنوان «القمر» من تصميم الفنان البريطاني المعاصر لوك جيرام
تمثال عملاق بعنوان «القمر» من تصميم الفنان البريطاني المعاصر لوك جيرام
TT

«القمر... رحلة عبر الزمن» في معرض بتورونتو الكندية

تمثال عملاق بعنوان «القمر» من تصميم الفنان البريطاني المعاصر لوك جيرام
تمثال عملاق بعنوان «القمر» من تصميم الفنان البريطاني المعاصر لوك جيرام

كان هبوط مركبة الفضاء «أبولو 11» على سطح القمر في 20 يوليو (تموز) من عام 1969 حدثاً مفصلياً في تاريخ الإنسانية. ورغم ذلك، كان القمر قد استحوذ على اهتمام الثقافات والشعوب منذ فجر الحضارة الإنسانية. معرض «القمر... رحلة عبر الزمن» هو معرض رئيسي جديد تم افتتاحه منذ فترة في متحف الآغا خان في تورونتو بكندا، بهدف الإشادة بذلك السحر الأبدي للقمر، من خلال تسليط الضوء على الإلهام الذي يولده القمر لتحقيق النمو الروحي والاكتشاف العلمي والإبداع الفني.
وتعود المقتنيات التي يقدمها معرض «القمر... رحلة عبر الزمن» إلى فترات تاريخية مبكرة، تبدأ من مرحلة ما قبل الإسلام حتى يومنا هذا، وتغوص عميقاً في مفاهيم الدين والعلوم والفنون. وتشمل المعروضات مجموعة واسعة من القطع الأثرية القديمة، واللوحات المصغرة المهمة، والأدوات العلمية، والمخطوطات الإسلامية، والفنون المعاصرة. وتكشف هذه الأعمال الفنية مجتمعة عن الأدوار الكثيرة التي لعبها القمر عبر التاريخ، وبشكل خاص ضمن ثقافات العالم الإسلامي، سواء كوسيلة لقياس الوقت وتحديد الزمن، أو كمصدر للإلهام للشعراء والفنانين.
ويتم تنظيم المعرض ضمن 5 مناطق موضوعية رئيسية، وهي: القمر قديم، والقمر مدهش، والقمر هو المعرفة، والقمر هو الجمال، والقمر أبدي. ويجمع المعرض بين المقتنيات والمعروضات التاريخية والمعاصرة، ومجموعة من العروض الفنية والتفاعلية التي تدعو الزوار إلى التمعن وتخيل القمر بطرق جديدة وغير متوقعة، بالإضافة إلى الفرصة للوقوف على قطعة حقيقية من سطح القمر، حيث سيتمكن الزوار من رؤية تمثال عملاق مذهل بعنوان «القمر»، يربط بين الطابقين الأول والثاني من المتحف.
ويقدم التمثال الذي صممه الفنان البريطاني المعاصر لوك جيرام نموذجاً رائعاً للقمر بتضاريسه الدقيقة، بالاعتماد على الصور المفصلة الملتقطة من قبل «ناسا» لسطح القمر، ويبلغ قطره نحو 5 أمتار (للحصول على فكرة عن حجم هذا التمثال، تتطلب تغطيته وقوف 40 شخصاً بعضهم إلى جانب بعض)، وهو العمل الفني الأول من نوعه بهذا المقياس في كندا، حيث قام الفنان جيرام بعمل هذا التمثال الضخم بشكل خاص لمتحف الآغا خان في كندا. وبالإضافة إلى التمثال، يشمل العمل مقطوعة صوتية من تأليف الملحن دان جونز الحائز على جائزة «بافتا».
ومن بين المقتنيات البارزة الأخرى في المعرض قطعة من تمثال من العراق القديم تُظهر إله القمر (نانا)، حامي الإنسانية، وحارس الوقت، وحارس المستقبل، يرتدي تاجاً على شكل قرن يعلوه القمر، ولوحة من القرن السادس عشر لامرأة «على شكل وجه القمر»، ولوحة من القرن الثامن عشر، وتاج على شكل هلال يعود إلى القرن العشرين يعلو قبة مسجد في كابول بأفغانستان، ولوحة رقمية سريالية من القرن بعنوان «نشوة السماء السابعة» للفنان السوري المعاصر أيهم جبر، وتجمع بين التمثيل العلمي للقمر والمناظر الطبيعية الخيالية.
ويستمر معرض «القمر... رحلة عبر الزمن» حتى 18 أغسطس (آب) 2019، وسترافقه برامج فنية وثقافية ذات صلة، بما في ذلك نشاطات تدريب عملية خلال فترة الربيع للعائلات، وجولات معمقة ضمن المعرض، وحوارات، وورشات عمل، ومخيم صيفي للأطفال بعنوان «بعثة القمر»، وسلسلة من العروض لإلقاء الشعر بعنوان «قصيدة القمر».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!