عادة ما نسمع عن استخدام الأطباء الشرعيين للحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين « «DNA في إثبات نسب مولود أو استخدامه في الكشف عن الجرائم، ولكن ماذا لو لم تكن هناك متبقيات منه تسمح بإجراء الاختبارات. الأمل صار معقوداً الآن على ما يسمى بـ«الحمض النووي للميتوكوندريا»، أو الذي يعرف باسم «mtDNA»، الذي أوردت دراسة مرجعية أعدّها فريق بحثي من الجامعة الأميركية برأس الخيمة بالإمارات، ونشرت في العدد الأخير من دورية «MDPI»، مساهمته في كشف سرّ وفاة لويس السابع عشر، ابن الملك الفرنسي لويس السادس عشر، وإزالة الغموض الذي أحاط ببعض الجرائم التاريخية، بل استطاع أن يسهم في استعادة الصوت الأصلي لبيانو بيتهوفن.
واعتقد العلماء لوقت طويل أن الحمض النووي، وهو جُزيء يوجد داخل خلايا الكائنات الحية وكثير من الفيروسات، ويحتوي على المعلومات الوراثية الخاصة بها، لا يقطن إلا في مركز التحكم في الخلايا (النواة)، ولكن تم اكتشاف أن «الميتوكوندريا» الخاصة بالخلايا تمتلك هي الأخرى حمضاً نووياً مميزاً، إذ إنه يأتي من الأم فقط، على خلاف النوع الآخر الذي يأتي من الأب والأم.
والميتكوندريا هي مصنع الطاقة داخل الخلية، وتقوم بعملية تحويل الطاقة من المواد الغذائية إلى شكل يسمح للخلايا باستخدامها، وتحتوي كل خلية على مئات منها.
أحد القصص المهمة التي أوردتها الدراسة كانت تتعلق بالدور الذي لعبه الحمض النووي للميتوكوندريا في حلّ لغز اختفاء السيدة الكندية «دوتي كوكس» في عام 1943.
وجاء في تفاصيل تلك القصة أنه تم انتشال بقايا بشرية، بها جمجمة وعظام مكسورة، من موقع بناء في شارع دانفورث في مدينة تورونتو الكندية، عام 1995، وكشف تحليل الهيكل العظمي عن أنثى ربما ماتت في ظروف غير عادية منذ عدة عقود.
ومع استخدام تقنية إعادة بناء الوجه، ادّعى رجل يدعى رونالد كوكس أن الصورة تشبه إلى حد كبير صور والدته، دوتي كوكس، التي اختفت عام 1943. فكان الفيصل لحسم الأمر هو اختبار الحمض النووي للميتكوندريا، ليثبت صحة ادعائه، ويكتب فصل النهاية عام 1995 للغز اختفاء تلك السيدة «دوتي كوكس» قبل 52 عاماً.
حسم قضية لويس السابع عشر
ومن القصص الأخرى تلك التي تتعلق بوفاة لويس السابع عشر، ابن الملك لويس السادس عشر ملك فرنسا والملكة ماري أنطوانيت.
وعندما أعدم لويس السادس عشر في 21 يناير (كانون الثاني) 1793، خلال الفترة الوسطى من الثورة الفرنسية، تم سجن الابن لويس السابع عشر مع أفراد من العائلة المالكة في سجن تيمبل، وتم الإعلان رسمياً عن وفاته في 1795 متأثراً بمرض السل في سن العاشرة.
ورغم الإعلان رسمياً عن وفاته، ظهر كثير من الشائعات والنظريات، وقالت إحدى أقوى الأساطير إنه تم نقله أو تهريبه من فرنسا، وإن جسده قد تم استبداله فعلياً بجثة صبي آخر يبلغ من العمر 10 أعوام، وبعد عدة عقود، ادّعى كثير من الرجال أنهم أبناء لويس السابع عشر، أحدهم كارل ويلهيلم ناوندورف، الذي دُفن في هولندا. حتى أثبتت الأبحاث أن ادعاء ناوندورف لم يكن صحيحاً، لعدم تطابق الحمض النووي للميتوكوندريا.
بيانو بيتهوفن
ومن القصص الأكثر إثارة تلك التي تتعلق بالسعي نحو استعادة الصوت الأصلي لبيانو بيتهوفن باستخدام الحمض النووي للميتوكوندريا، وهو الأمر الذي بدا غريباً في عنوانه قبل أن تكشفه التفاصيل.
وذهبت الدراسة في التفاصيل إلى أن سيباستيان إيرارد، صانع البيانو الشهير، الذي أنتج أكثر من بيانو كبير للملحنين الكبار مثل بيتهوفن، كان يقوم بتغطية رأس مطرقة البيانو بالجلد للحصول على جودة صوت أفضل.
ولأن البيانو الخاص ببيتهوفن في متحف لينز في النمسا تعرض لتعديلات كثيرة أفقدته صوته الأصلي، سأل الباحثون عن السر خلف ذلك، فتوصلوا إلى أن السبب ربما يرجع إلى مشكلات في الجلد الذي يغطي المطرقة.
لم يكن البيانو الموجود في متحف النمسا متاحاً لمعرفة نوع هذا الجلد، ولكن بيانو شبيهاً صمّمه صانع البيانو إيرارد يوجد في متحف الموسيقى في باريس كان على حالته الأصلية، وهو ما سمح للباحثين بدراسة الجلد الذي يغطي مطرقة البيانو لمعرفة مصدره، ومن ثم سينطبق الأمر نفسه على بيانو بيتهوفن، لأن الصانع واحد.
كانت هناك احتمالات أن يكون مصدره أغنام أو ماعز أو ماشية أو خنزير، ولكن الدراسة تمت بالتعاون بين باحثين من الجامعة الأميركية في رأس الخيمة بالإمارات، وباحثين فرنسيين، أثبتت أن الجلود المستخدمة في البيانو كان مصدرها الماشية، وذلك باستخدام الحمض النووي للميتوكوندريا.
لماذا الحمض النووي للميتوكوندريا؟
هذه الأمثلة وغيرها من التي تم ذكرها في الدراسة لم يكن ليجدي معها إلا الحمض النووي للميتوكوندريا، كما يؤكد د. مكسيم ميرحب، من الجامعة الأميركية في رأس الخيمة بالإمارات، والباحث الرئيسي، في تصريحات خاصة عبر البريد الإلكتروني لـ«الشرق الأوسط».
وقال: «عندما يقول العلماء الحمض النووي، فإنهم يقصدون افتراضياً الحمض النووي الريبوزي الموجود في النواة، فهو أفضل خيار لبصمات الحمض النووي في الطب الشرعي... لكن الحمض النووي الخاص بالميتوكوندريا هو الأنسب للعينات القديمة، لأنه يوجد من 500 إلى 1000 من الميتوكوندريا في كل خلية، وبالتالي يوجد الآلاف من الحمض النووي للميتوكوندريا في خلايانا، لذا فإن استهدافها يتيح فرصة كبيرة للعثور عليها، ولا سيما العينات القديمة والمتدهورة».
ويوجد كثير من الألغاز التاريخية التي يتمنى د. مكسيم أن يساهم في حلّها باستخدام تلك الأداة، مضيفاً: «الألغاز التاريخية التي يتعين حلها كثيرة... لكن الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لي هي المومياوات المصرية، فإذا تم العثور على الحمض النووي للميتوكوندريا بنجاح في كثير منها، فإن الروابط العائلية بين المومياوات يمكن أن تكون واحدة من أهم الموضوعات».