مصر تودّع الفنان محمد نجم صاحب «عش المجانين»

الفنان محمد نجم
الفنان محمد نجم
TT

مصر تودّع الفنان محمد نجم صاحب «عش المجانين»

الفنان محمد نجم
الفنان محمد نجم

غيّب الموت، صباح أمس، الفنان المصري ونجم الكوميديا محمد نجم، عن عمر ناهز 75 سنة، بعد صراع مع المرض. وشُيّعت جنازة الفنان الرّاحل من أحد مساجد الجيزة (غرب القاهرة) عصر أمس، وسط حضور أفراد أسرته وبعض نجوم الوسط الفني. وأصيب نجم بجلطة دماغية نُقل على أثرها لأحد المستشفيات في الجيزة، وحُجز في العناية المركزة، وظلّ في غيبوبة لمدة تزيد عن أسبوعين، قبل أن تعلن نقابة المهن التمثيلية المصرية خبر وفاته في صباح أول أيام عيد الفطر المبارك بمصر.
واشتهر الفنان محمد نجم (محمد محمد علي عوض) المولود في قرية الغار، التابعة لمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، عام 1944، بتقديم الأدوار الكوميدية، خصوصاً في المسرح، الذي تفوّق فيه لدرجة أنّه أنشأ فرقة مسرحية ومسرحاً باسمه. وبدأ محمد نجم مسيرته الفنية في أوائل السبعينيات بأدوار صغيرة في السينما والتلفزيون، واستهل مشواره المسرحي بالعمل في «مسرح عبد المنعم مدبولي»، واحترف العمل في المسرح الكوميدي.
الناقد الفني، محمود عبد الشكور، قال لـ«الشرق الأوسط» إنّ «الفنان محمد نجم من المواهب المهمة التي ظهرت في بداية السبعينيات، ومن الفنانين المكافحين الذين أخلصوا للمسرح، لدرجة أنّه أنشأ مسرحاً وفرقة مسرحية باسمه، وهذا شيء نادر ومهم».
وأضاف عبد الشكور أنّ «نجم تأثر في بدايته الفنية بأسلوب الفنان الراحل عبد المنعم مدبولي من ناحية الحركة والأداء اللفظي، لكنّه بعد مرحلة معينة أصبح صاحب أداء متقن ومنضبط ومميز». ولفت إلى أنّه «ينتمي إلى مدرسة الارتجال، وهي مدرسة كبيرة ومهمة، تبرز موهبة الفنان مثلما حدث في مسرحية (عش المجانين)، عندما أطلق (الإفيه) الشهير (شفيق يا راجل)، الذي يُتداول حتى الآن بين المواطنين المصريين».
وأوضح عبد الشّكور أنّ «موهبة نجم لم تستغل بالشكل الأمثل لظروف خاصة تتعلّق بالكتابة والإنتاج، مثل مواهب فنية أخرى من أبناء جيله، فهو أعطى كل عمره للمسرح، وظلت فرقته مستمرة حتى فترة قليلة قبل وفاته». وتابع أنّ «نجم حاول الخروج من إطار الأدوار الثانية، وقدّم بطولات مسرحية جيدة في وقت ازدهار المسرح الكوميدي في مصر، ورغم ذلك كانت تجاربه السينمائية أقل تميزاً من أدواره المسرحية».
ومن أبرز مسرحيات الفنان الراحل التي قدمها في بداية مشواره المسرحي: «موزة و3 سكاكين» عام 1968، كما لعب أول بطولة مطلقة على المسرح من خلال مسرحية «حاجة تلخبط»، عام 1970. ومن مسرحياته التي أكسبته شهرة كبيرة في مصر والعالم العربي «عش المجانين»، و«البلدوزر»، و«اعقل يا مجنون»، و«عبده يتحدى رامبو»، و«النمر».
واهتم جمهور «السوشيال ميديا» في مصر، أمس، بخبر وفاة نجم، واحتل هاشتاغ «وفاة محمد نجم» المركز الأول على «ترند مصر» في موقع «تويتر»، وتفاعل معه العديد من المستخدمين الذين أشادوا بأعماله، مؤكدين أنّه كان يقدم نوعاً من الكوميديا الهادفة التي أسعدت الجماهير لفترات طويلة، واحتفوا بجملته الشهيرة «شفيق يا راجل»، التي كانت أشهر «إفيه» في مسرحية «عش المجانين»، وكانت أحد الأسباب الرئيسية في شهرة نجم.
وشارك نجم، خلال فترة السبعينيات، في أفلام سينمائية مثل «بين اللهب» من تأليف عبد المنعم الصاوي، وإخراج عبد المنعم شكري. وفي عام 1979، شارك نجم في فيلم «البنت كبرت»، في دور «سنوسي»، وفي عام 1976 شارك في فيلم «صانع النجوم»، من تأليف مجيد طلبة وإخراج محمد راضي. وفي عام 1976، شارك نجم في فيلم «مولد يا دنيا»، بطولة عفاف راضي ومحمود ياسين، ومن تأليف يوسف السباعي، وإخراج حسين كمال. وفي عام 1976، شارك في فيلم «قمر الزمان»، بطولة حسين فهمي ونجلاء فتحي، وكان من إخراج حسين الإمام. وفي عام 1975، شارك في فيلم «الكداب»، من بطولة محمود ياسين وميرفت أمين، إضافة إلى عدد آخر من الأفلام السينمائية. وكانت آخر أعماله الفنّية مسرحية «فتحية بيه» التي قدّمها العام الماضي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)