«ذيب».. حكاية بدوية اردنية تستحق أن تروى

مشهد من «ذيب»
مشهد من «ذيب»
TT

«ذيب».. حكاية بدوية اردنية تستحق أن تروى

مشهد من «ذيب»
مشهد من «ذيب»

«ذيب» هو فيلم عربي روائي طويل آخر في المسابقة بعد «فيلا توما» لسهى عراف ومثله يستحق الإعجاب. لكن في حين أن أسباب الإعجاب في ذلك الفيلم الفلسطيني - الإسرائيلي محددة بنطاقه الاجتماعي من ناحية وبمنوال تنفيذه الفني من ناحية ثانية، يأتي «ذيب» للأردني ناجي أبو نوار بما يثير الإعجاب من ناحية ثالثة؛ إنه الفيلم العربي الروائي الأول الذي يتناول حكاية بدوية كاملة تدور في رحاها البيئي ومكانها الطبيعي ناطقة بلغة ممثليها الذين لم يسبق لهم أن غادروا الصحراء الأردنية، فما البال بالنزول في البندقية؟
المخرج كان قلقا قبل وصول فريق ممثليه، وأخبرني في حفل أقامته شركة «فورتسيمو» التي تشرف على ترويجه وتوزيعه، قائلا: «لا أخفيك قلقي من صدمة الحضارات التي ستتأتي حين يحط ممثلو الفيلم في أرض المطار. هؤلاء لم يغادروا ربوعهم البيئية ولا مرة في حياتهم، ولم يركبوا سوى الخيل والجمال، وما طلبناه منهم هو ركوب السيارة والطائرة واليخت وصولا إلى هذا الجو المختلف تماما عن أجوائهم وثقافاتهم».
أبو نوار ليس من بينهم. أردني الأب ولد في لندن وعاش فيها حتى بلغ العاشرة من العمر ثم نزح والعائلة إلى عمان وانتقل ما بين العاصمتين. قبل سنوات قليلة شارك في ورشة عمل وفرها مهرجان صندانس في عمان، وانصرف بعدها لكتابة سيناريو هذا الفيلم: «3 سنوات وأنا أسعى لتدبير التمويل الكافي لهذا العمل. إيماني به استولى على حياتي. وذلك لأنني لم أرد أن أخوض العمل السينمائي به فحسب، بل أردت خوض العمل بفيلم مختلف تدور أحداثه في البيئة الحقيقية ومن دون أن تدخل من أي نوع».
أبو نوار أشاع في أحاديثه أن الفيلم هو «أول وسترن عربي» وإلى حد يمكن الموافقة على ذلك، لكن الأكثر أهمية هو أنه من صميم البيئة العربية ما يجعله «فيلم إيسترن» أكثر منه فيلم وسترن. يقول: «أحب سينما الوسترن الأميركية. أحب أفلام جون فورد وسام بكنباه، وفي الحقيقة هناك مشاهد نفذتها وحين شاهدت الفيلم كاملا اكتشفت ذلك الخيط بينها وبين بعض أفلام بكنباه».
حكاية الفيلم تقع في الزمن العثماني أيضا شأنه شأن «القطع» للمخرج الأكبر باعا فاتح أكين. نتعرف على الصبي «ذيب» في الواحة التي تعيش فيها قبيلته في صحارى الأردن. ذات ليلة يصل رجل من قبيلة أخرى ومعه بريطاني. ترحب بهما القبيلة وتنحر الغنم ثم تستمع إلى السبب وراء الزيارة؛ البريطاني عسكري في مهمة، والرجلان بحاجة إلى دليل. شقيق ذيب حسان دليل جيد وهذا يوافق على مساعدتهما في بلوغ مقصدهما. يلحق ذيب بشقيقه ويفرض على القافلة حضورها. الأجنبي يحمل صندوقا يثير فضول الصبي والتوتر يسود هؤلاء عندما يحاول ذيب معرفة ما في الصندوق فينهره البريطاني بعنف، مما يثير حسان فينبري للدفاع عن شقيقه. لكن ما ينتظر الجميع إثر ذلك هو أكثر أهمية؛ مجموعة من قطاع الطرق تهاجم القافلة. البدوي المصاحب والبريطاني يسقطان قتيلين، وحسان يأخذ شقيقه إلى الصخور المرتفعة، ويبليان بلاء حسنا في الدفاع عن نفسيهما. لكن في صبيحة اليوم التالي يسقط حسان برصاصة أحدهم. باقي الفيلم (بعد نحو ثلث ساعة من بدايته) هو عن كيف بقي ذيب على قيد الحياة، وكيف ساعد جريحا على البقاء حيا واصطحبه إلى النقطة العسكرية التي كان البريطاني يريد تسليم الصندوق إليها.
«ذيب» جميل الصورة لونا، كما تصويرا. القول بأن التصوير في الصحراء العربي متعب مردود عليه في أفلام سابقة مثل «لورنس العرب» و«الرسالة»، لكنه يتجدد هنا بفعل مدير تصوير جاهز للتأقلم هو وولفغانغ تايلر. سيناريو أبو نوار يعمد إلى الغموض والتشويق، لكنه لا يخون المنحى الرصدي والتأملي للأحداث لصالح إيقاع متسارع أو فيلم مغامرات عادي.
أبو نوار يعترف بأن صنع هذا الفيلم لم يكن سهلا: «هذا كان ثالث أو رابع مشاريعي التي حاولت إنتاجها. ذهبت بهذا المشروع تحديدا إلى أكثر من جهة، ثم قررت أنه إذا ما أردت تحقيقه، فإن علي أن لا أنتظر أحدا. وفي النهاية أتممناه».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».