مهرجان فينيسيا يسدل ستاره مع شخصيات السينما الألمانية والإيطالية الكلاسيكية

أفلام عن حياة أشخاص تتفاوت نوعا وقيمة.. ورحلة تركية تقطع القارات في دقيقتين

 «بازوليني»
«بازوليني»
TT

مهرجان فينيسيا يسدل ستاره مع شخصيات السينما الألمانية والإيطالية الكلاسيكية

 «بازوليني»
«بازوليني»

هل كانت شخصية نوسفيراتو مصاص الدماء، التي قام بتقديمها على الشاشة الألمانية الصامتة فردريك ولهلم مورناو في سنة 1922 في فيلم «نوسفيراتو» ترمز إلى هتلر الكامن في مستقبل ألمانيا آنذاك؟ وهل شخصية دكتور غاليغاري في «كابينة دكتور كاليغاري» لروبرت واين (1920) الرمز لشخصية الديكتاتور الطاغي ذاك؟ وتواصلا مع هذين السؤالين المطروحين في الفيلم التسجيلي «من كاليغاري إلى هتلر» لروديغر سوشلاند، هل عمدت السينما الألمانية الصامتة ومخرجوها ما بين 1918 و1933 إلى التنبؤ بقدوم زعيم نازي كبير يثير الهلع بين الأبرياء، ويحول هدوء الحياة إلى خوف مستعر؟
حسب ذلك الفيلم نعم. هاتان الشخصيتان ترمزان أكثر من غيرهما من شخصيات السينما الألمانية الكلاسيكية في ذلك الحين، إلى ما ينتظر ألمانيا في المستقبل المنظور. كانت ألمانيا خرجت من الحرب الأولى مجروحة ومهزومة، وكل ما تحتاج إليه هو تضميد جراحها، لكن حزبا قويا مضى لما هو أبعد؛ تجييش الحماسة الوطنية لصياغة مشروع جديد يفضي إلى ألمانيا عسكرية ترفض الهزيمة وتحضر لحرب جديدة تفرض فيها عنصرها الخاص على سواه، وتحتل لتستوطن وتحكم. في «نوسفيراتو» (الذي هو دراكولا باسم جديد، بعد امتناع أرملة المؤلف برام ستوكر عن منح المخرج حق تصوير الرواية) يتمثل زعيم ذلك الحزب في شكل ذلك المخلوق الذي يبغي الوصول إلى روح الزوجة الشابة والجميلة والآمنة.. ألمانيا. هو مصاص دماء البراءة.
في «كابينة دكتور كاليغاري» هو ذلك المهووس بالقتل الذي شيّد عالمه الذي يحتل فيه دوري الطبيب النفسي والمريض النفسي في الوقت ذاته. تلك اللقطات ذات الزوايا المائلة وتصاميم الديكورات الغريبة أكثر دلالات الفيلم على عالم قلق وغير طبيعي. ومثل «م» لفريتز لانغ (1931) الحكاية غلاف يستر المرامي والأبعاد: حكاية مرعبة في هذين الفيلمين وتشويقية في الفيلم الثالث، وهناك سواها.
يقول لنا المخرج سوشلاند في لقاء بعد عرض الفيلم في تظاهرة «كلاسيكيات السينما التسجيلية»: «لست وحدي الذي يدرك اليوم أن السينما الألمانية في العشرينات أساسا كانت ثرية بالمضامين الخاصة. إنها أضاءت معالم الطريق الذي سيؤدي بألمانيا إلى الحقبة النازية في الثلاثينات. لكن الإلمام بتاريخ السينما الألمانية عموما محدود، خصوصا في ألمانيا نفسها».
* ألا يمكن أن تكون الأفلام التي تتحدث عنها مجرد انعكاسات لمخاوف منفصلة عن النبوءات التي تجدها فيها؟
- تقصد أنها نتيجة مشاعر فردية بالقلق الاجتماعي؟ حتى ولو كانت كذلك، فإن لهذا القلق مصدرا، وفي بحثي لم أجد ما ينفي العلاقة بين هذا المصدر ونشأة النازية مطلقا، لأنه على افتراض أن دكتور كاليغاري مثلا جرى تحقيقه بمعزل عن التفكير بشكل السنوات المقبلة، فإنه سينتهي إلينا كمجرد فيلم مرعب، لكنه فيلم تعبيري متقدم ولكي يكون ذلك لا بد أن «مخرجه» واين كان يفكر في مستقبل الكيان المقبل لألمانيا. حتى مع صعوبة برهان ذلك، إلا أنه بمجرد تحليل الفيلم نقديا تجد نفسك أمام ذلك الوضع كاحتمال وحيد. في نظري، لا يمكن التفريق بين أي من هذه الأفلام والرؤية المستقبلية لألمانيا.

* حياة وموت بازوليني
تظاهرة «كلاسيكيات السينما التسجيلية» التي عرضت هذا الفيلم، وشملت أيضا 9 أفلام أخرى، هي واحدة من ذروات هذه الدورة التي حفلت بسجل من الاهتمامات المتعددة في أفلام المسابقة وخارجها. هذه التظاهرة ذاتها عكست كل تلك الاهتمامات، فقد عرضت أفلاما عن تاريخ السينما عموما مثل الفيلم الإيطالي «بارما والسينما» لفرانشسكو باريللي وأخرى عن مخرجيها، مثل الفيلم الأميركي «التمن» لرون مان، إلى السينما المعاصرة، كما في فيلم «زهور تايباي - السينما التايلاندية اليوم» للمخرجة سيه شينلن، إلى فيلم ماركو سبانوللي عن الممثلة صوفيا لورين وعنوانه «نساء عظيمات: صوفيا عن لورين». وتناول السينما والسينمائيين امتد ليشمل أحد أفلام المسابقة، وهو «بازوليني» للأميركي آبل فيرارا: شريط درامي عن الأيام الأخيرة من حياة المخرج الإيطالي الراحل بيير باولو بازوليني، الذي مات مقتولا سنة 1975، في حادثة يتداولها التاريخ من دون قرار، فبينما صحيح أن الشرطة الإيطالية ألقت القبض على شاب اعترف بأنه هو من قتل بازوليني بدهسه عدة مرات بسيارة بازوليني نفسه على شاطئ قريب من روما، فإنه هو أيضا من أقر لاحقا بأن اعترافه السابق جرى تحت التهديد بقتل أهله، وأن القتلة هم 3 صقليين داهموا بازوليني والشاب الذي كان معه خلال علاقة مثلية على ذلك الشاطئ، وضربوا بازوليني حتى الموت.
كما لو أن فاريرا لا يريد أن يتبنى رأيا بين أي من هذين الاحتمالين يصور لنا المشهد من جانبيه؛ مداهمة 3 شبان مسلحين بالعصي لبازوليني وضربه بعنف وتركه ينزف، وقيام ذلك الشاب الذي كان معه بدهسه حين هربه من المكان.
قبل الوصول إلى نهاية بازوليني المروِّعة، بصرف عن الرواية الصحيحة، يمضي فيرارا 80 دقيقة يصور فيها بازوليني، كما يقوم به الممثل ويلام دافو، الذي يمتلك ملامح قريبة الشبه بملامح المخرج الراحل، وهو يكتب ويقرأ ويفكر بصوت عالٍ. كشيوعي كان عالي الصوت في نقده حياة المترفين والبرجوازية الإيطالية والأحزاب اليمينية، والبعض يقول إن القتل جرى بسبب مواقفه السياسية، وليس نتيجة ذلك الحادث. خلال تلك الرحلة يدلف المخرج فاريرا في نص أراد بازوليني تصويره فيلما بعدما كتبه كمزج ما بين «المقالة والشعر والنقد والرسائل الشخصية»، كما يكتب لألبرتو مورافيا طالبا منه مساعدته على معرفة ما إذا كان أصاب أو أخطأ في هذا المزج. فيرارا يصور بعض مقاطع ذلك النص كفيلم وارد في مخيلة المخرج الإيطالي، لكنه يقدم مشاهد جنسية من فيلم بازوليني الأخير «سالو أو الأيام الـ120 من سودوم» أيضا. والجنس يلعب دورا هنا، لكن ليس من باب أخلاقي، بل لأنه كان واقعا في حياة بازوليني.
بالنتيجة، هذا فيلم يُقرأ في حياة وأوراق بازوليني من دون أن يتبنى شكل ومهام السيرة ويعاني من تبعثر وصلات الربط في هذه القراءة، متنقلا ما بين حالات لغاياتها، وليس في سبيل سرد حكاية تلك الأيام والساعات الأخيرة لبازوليني.

* ليوباردي معانيا
سيرة حياة أخرى، ولو أنها أكثر اكتمالا من حيث الفترة الزمنية التي يستعرضها الفيلم، متوفرة في فيلم «ليوباردي» للمخرج ماريو مارتوني. جياكومو ليوباردي كان أحد أهم شعراء إيطاليا في القرن الـ19 (والبعض يقول الأهم) والمخرج مارتوني يمنحنا أكثر من مجرد قصة حياة، فهو يقدم صورة واقعية لبطله كما لحياته والأماكن الفعلية التي جرى التصوير فيها، وبذلك يعكس أهم ملامح السينما الأوروبية التي تولت عبر عقود طويلة تناول شخصياتها الأدبية والفنية بالأسلوب والطموحات نفسها.
حسب مراجعة سريعة، هذا أول فيلم روائي طويل عن شخصية الشاعر المذكور التي يقوم بها إليو جرمانو. والمنهج الذي يختاره المخرج مارتوني لعرض تلك السيرة تقليدي، إذ يبدأ من تعريفنا به شابا يافعا في جو أسري مفعم بالطموح صوب الثقافة ويتألف من والده وشقيقه وأخته. هذا التأسيس يستمر لنحو 40 دقيقة ننتقل بعدها إلى مرحلة متقدمة من حياة ذلك الشاعر الذي وقع في الحب وعاني منه. لكن معاناته العاطفية ليست الوحيدة. ليوباردي كان مصابا بمرض في العظام يجعله هشا وحين ننتقل إلى الساعة الثانية من الفيلم نراه بظهر منحنية. هذا ما يجعله، وشعره، يميلان في أواخر عمره إلى الدكانة بعدما خسر حبه لصالح صديق له (ميشيل ريوندينو) وانحدرت آماله وتلقى من المجتمع بسبب عاهته ما لم يستطع تحمله.
في الوقت الذي لم نعد نرى فيه أفلاما إيطالية كبيرة، يعود هذا الفيلم إلى ذلك النمط الإنتاجي وليس من دون مغامرة تقف في نقطة الوسط بين احتمالات النجاح والخسارة.
بمثل هذه الأفلام يزداد التنوع المنشود من المشاركات التي ضمتها الدورة الـ71 من مهرجان فينيسيا. فالسيرة المتوفرة عبر هذين الفيلمين لا تمنع من ترتيب سير أخرى ولو باعتماد قدر من الخيال الذي يخرج به عن الواقع. في الوقت ذاته هناك نسبة لا بأس بها من الأفلام التي تتيح قدرا من النقد الاجتماعي لجانب تلك التي توفر خامة درامية وميلودرامية واسعة.
الفيلم التركي - الألماني «The Cut» هو واحد من تلك الأفلام التي تريد ممارسة كل هذه الشؤون معا. كما هو معلوم فإن للكلمة عدة معان. إنها «القطع» كما في حال تشكيل قطعة ما، وهي «الجرح» كما «الحصة» و«الاختصار» وعندما تسبق كلمات أخرى تتوسع معانيها أكثر وأكثر. لكن هذا الإنتاج يترك العنوان جانبا بصرف النظر عما يعنيه تحديدا به. المخرج الألماني، التركي الأصل، ينطلق من حكاية تقع في عام 1915 حول عائلة أرمنية تعيش تحت جناح النظام العثماني وتعاني من المعاملة العنصرية التي تتلقاها. رب الأسرة الشاب نزارت مانوجيان (الممثل الفرنسي طاهر رحيم) يُقتلع من بيته وعائلته ويُبعث به إلى بعض الجبال الصخرية المقفرة لكي يعمل مع مواطنيه في كسر الأحجار ونقلها. خلال ذلك يكون النظام العثماني أتى على الأرمن وأباد منهم من أباد (لا نرى ذلك في الفيلم إذ نبقى مع بطله نزارت) وشتت من شتّت. موجة الإبادة سريعا ما تصل إلى المساجين فيُذبحون، لكن تركيا واحدا يؤول إليه أمر ذبح نزارت يكتفي بطعنه قليلا في الرقبة لإبقائه على قيد الحياة. هذه الطعنة لا تقتل نزارت، لكنها تعدمه القدرة على النطق.

* أميركا في دقيقتين
بعد ذلك يفلت نزارت من العسكر ويصل حلب بعدما سمع أن ابنتيه نجتا من الموت وربما كانتا في الجوار. يؤويه حلبي (مكرم خوري) لبعض الوقت، وعندما يتأكد لنزارت أن عائلته ليست في الجوار يمضي إلى بيروت ومنها إلى أثينا حيث سمع أن ابنتيه أصبحتا هناك. لن يجدهما هناك ويأتيه خبر من رجل طيب آخر أنهما في عهدة أرمني يعيش في كوبا. المسافة بين أثينا وكوبا يختصرها الفيلم إلى دقيقتين. في كوبا يبحث عنهما بمساعدة من رجل طيب رابع قبل أن يقف على حقيقة أنهما غادرا الجزيرة إلى فلوريدا بعدما رفض الأرمني الزواج من إحدى ابنتيه. يجمع بعض المال ويسرق البعض الآخر وها هو في عرض البحر مرة ثانية متسللا إلى الولايات المتحدة. لا يجدهما في فلوريدا بل يسمع أنهما في منيابوليس، ويقطع المسافة في بضع دقائق أخرى. في منيابوليس يصل إليه نبأ أنهما في بلدة خارج المدينة. يعمد إليها ويجد إحدى ابنتيه. الأخرى كانت ماتت.
إنها رحلة كبيرة تنطلق من تركيا وصولا إلى منتصف أميركا مرورا بعدد من البلدان الفاصلة. يتجاوز المخرج المصاعب الكثيرة التي لا بد لهذه الرحلة أن صادفتها. ليس لديه الوقت لمنحها وجودا، ويكتفي بالقليل منها، ومعظمه في مطلع الفيلم. هذا ما يجعل بعض مراحل تلك الرحلة غير واقعية على الإطلاق، ففي الولايات المتحدة يلتقي بامرأتين فقط: واحدة من مواطني القارة الأصليين فيذود عنها ضد رجل أراد اغتصابها، ثم - مباشرة بعد ذلك - ابنته. حين يصل إلى البلدة من دون عنوان ويمشي وحيدا هائما في الشارع الرئيس، فإن الباب الوحيد الذي يُفتح والمرأة الوحيدة التي تخرج من البيت هي ابنته.
بمثل هذه الرحلة المعصورة في 133 دقيقة، لا عجب أن الممثل طاهر رحيم لا يمتلك في هذا الفيلم إلا القليل من الوقت ليوفر للشاشة عمقا ما لشخصيته، ولا المخرج أكين لديه الوقت لبلورة درامية تصاحب هذا السرد المطول وتمنحه السبب لتقديمه.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».