أفغانستان وجهة مفضلة لـ«الدواعش»

تحذيرات أممية من تحول الأراضي الأفغانية مسرحاً للتنظيم

عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)
عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)
TT

أفغانستان وجهة مفضلة لـ«الدواعش»

عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)
عناصر من «داعش» بعد اعتقالهم في جلال آباد شرق أفغانستان أبريل الماضي (إ.ب.أ)

هل أضحت الأراضي الأفغانية محجاً لـ«الدواعش» بعد اندحارهم في سوريا والعراق، ومع التضييق الذي يلاقونه في ليبيا وعموم أفريقيا؟ قبل بضعة أيام كان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، يدعو لاستخدام «الدرون» (الطائرات من دون طيار) وغيرها من وسائل المراقبة الحديثة لمتابعة حدود ومناطق أفغانستان، تلك التي صارت على حد تعبيره «محجاً لفلول الإرهابيين الفارين من سوريا والعراق»... ماذا وراء تصريح صاحب العسكرية الروسية والخبير بشؤون دولة مجاورة كان للسوفيات اليد العليا فيها لنحو عقد من الزمان؟
وتختمر يوماً تلو الآخر في عقول الكثيرين، وحتى بعد الانهيار الذي جرى لها في الشرق الأوسط، إلا أنها تبحث بجدية عن بطن رخوة حول العالم تصلح لأن تضحى مركزاً جديداً لصولاتها وجولاتها المقبلة، تلك التي لن تعتمد فيها على فكرة التنظيم التراتبي العنقودي، بل التوجيه والإلهام الدوجمائي وربما الآيديولوجي من على البعد البعيد إن جاز التعبير.
في هذا السياق، يمكن القطع بأن ظهور زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي الأخير، إنما كان يقصد منه إبقاء تأثير التنظيم حياً في عقول أتباعه المشتتين حول العالم، ودفع كل منهم إلى الحرية في اختيار أعمال الإرهاب التي يقوم بها، وإيقاع أكبر الأضرار بالأطراف المعتبرة أعداء منذ زمان وزمانين.
يقول الكاتب والصحافي الفرنسي نيكولاس هينين مؤلف كتاب «أكاديمية الجهاد: صعود (داعش)»، الذي قضى 10 أشهر رهينة لدى التنظيم عبر صفحات «الغارديان» البريطانية: «إنه رغم هزيمة (داعش)، فإنه لم يقتصر تأثير التنظيم على الأشخاص العزل، كونه أصبح علامة تجارية عالمية، فقد سعى التسجيل المصور الأخير للبغدادي إلى التأكيد على ضرورة الانتشار لاستمرار القتال، حيث لم يعد الفوز هو الهدف الأسمى لمقاتلي التنظيم، فمع سقوط الخلافة، فإن الغرب انتصر بوضوح في المعركة، لكنه لم يربح الحرب». ويضيف نيكولاس: «هنا يتعين علينا السؤال: هل يقوم (الدواعش) الآن بنقل تنظيمهم إلى أفغانستان التي مزق الاحتلال السوفياتي ولاحقاً الغزو الأميركي نسيجها الاجتماعي، ولهذا باتت أراضيها مغائر للإرهابيين من مشارق الشمس إلى مغاربها، ومن الشمال إلى اليمين، كل تنظيم باسمه، وكل جماعة بتوجهاتها؟».
لم يكن الروس وحدهم في واقع الحال من تحدثوا عن ضراوة نشوء وارتقاء الدواعش من جديد على الأراضي الأفغانية، فقد شاركهم الرأي المدعوم بالمعلومات الاستخبارية الأميركيون هناك، ففي 1 مايو (أيار) الحالي، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مسؤول أميركي كبير قوله إن «عناصر (داعش) اختاروا أفغانستان ملجأ لهم»، مضيفاً: «إننا حال لم نبقِ على الضغوط لمكافحة الإرهاب ضد فرع (داعش) في أفغانستان، فإن هجوماً نوعياً قد يقع على الأرجح على أمتنا خلال هذا العام».
والشاهد أن المسؤول السابق ذكره وهو غالباً مصدر استخباراتي ولهذا لم يكشف عن اسمه، لم يكن الوحيد من الجانب الأميركي الذي تناول القصة، إذ تكلم السيناتور الأميركي الديمقراطي المعروف جاك ريد، الذي يشغل عضوية لجنة القضايا العسكرية في مجلس الشيوخ الأميركي، مشيراً إلى أنه بعد زيارة ميدانية له لأفغانستان تأكد من أن قدرات الفرع المحلي لتنظيم داعش «ولاية خراسان»، قد ازدادت حضوراً ونفوذاً، وأن الأحلام التي رسمتها وزارة الدفاع الأميركية عام 2017 بأن ينتهي حضور هذا التنظيم في 2019 قد تبخرت، فقد تبين له أن الأمر ليس مشكلة صغيرة في جنوب ولاية ننغرهار، حيث معقل «داعش» شرق البلاد، وأن هناك حاجة لوقت أطول لتسوية الإشكالية، لا سيما أن تقريراً أخيراً للأمم المتحدة أشار إلى أن أعداد «داعش» على الأراضي الأفغانية تقترب من 5 آلاف عنصر، ما يصلح لنواة جديدة، ومرحلة أخرى من جولات الخلافة المزعومة.
وتدور التساؤلات حول «هل من عوامل مساعدة تجعل من إعادة (داعش) لتنظيم صفوفه في أفغانستان أمراً وارداً وممكناً؟».
أغلب الظن أن ذلك كذلك وفي المقدمة منها حالة الاضطراب الأهلي والتناحر القبلي المسلح بين القوات الحكومية وقوات «طالبان»، تلك المعارك التي لا تتوقف ولا تنتهي، ولهذا فإن الدواعش يتسربون وبقوة من بين الجانبين، ويرسخون من حضورهم، في غفلة من الطرفين المتطاحنين منذ عقود طوال.
يمكن للمرء أيضاً أن يرصد ملامح ومعالم أخرى تجعل من أفغانستان أرضاً خصبة للدواعش، والسبب هنا هو أن كل الجماعات المتطرفة المناهضة لحركة طالبان الأفغانية، قد صارت منجذبة للانضمام إلى «داعش»، لا سيما أن طروحات التنظيم تتجاوز الحدود الضيقة والجبلية لأفغانستان، وتتيح مجالات أوسع من حرية النضال بحسب المفهوم الحركي لتلك المنظمات التي اعتادت القتال منذ وقت طويل.
والمؤكد أن هناك نقطة في غاية الإثارة وتحوم من حولها شبهات كثيرة، وموصولة بالسياقات الدولية للإرهاب وبالدواعش، وبمن يقف وراءهم أو يتلاعب بهم كعرائس مسرح الموسيقى.
في هذا السياق، تتحتم علينا الإشارة إلى وجود تقارير إخبارية وربما استخباراتية متزايدة، تشير إلى أن دعماً ومدداً عسكريين يصلان إلى عناصر «داعش» على الأراضي الأفغانية من جهات غير معلومة، وليس سراً أن عدة دول مجاورة قد أشارت بأصابع الاتهام تلميحاً تارة وتصريحاً تارة أخرى إلى الولايات المتحدة الأميركية... هل لهذا الكلام من موثوقية أو موضوعية؟
قبل نحو عام تقريباً، توجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بتساؤلات رسمية ومباشرة للقوات الأميركية في أفغانستان ولـ«الناتو» عن هوية الطائرات المجهولة التي تلقي الأسلحة والمساعدات الأخرى إلى الجماعات الإرهابية، في مناطق أفغانية مختلفة، ولم يتلقَ الجانب الروسي رداً حتى الساعة.
في التحليل يمكن للمرء أن يربط بين ما يجري على الأراضي الأفغانية ولعبة الشطرنج الإدراكية الدولية، تلك المحتدمة بين روسيا والولايات المتحدة، وإن لم يكن بالضرورة التحليل صائباً بالمطلق، فإن بعضاً منه يقترب بشكل أو بآخر من الحقيقة عينها.
مقطوع أن هناك جولة ثانية من الحرب ما بعد الباردة تستعر مؤخراً بين موسكو وواشنطن، وفيها سباق ضروس على ملء مربعات القوة الجغرافية وربما الديموغرافية حول العالم.
وفيما روسيا تعزز من صداقاتها في الخلفية الجغرافية التاريخية لواشنطن، أي قارة أميركا الجنوبية، وما يجري في فنزويلا خير دليل على ذلك، حيث خبراء روس تم استدعاؤهم رسمياً من قبل نظام مادورو، يضحى من الطبيعي التساؤل: «لماذا لا تلجأ واشنطن إلى أعمال مشابهة بالقرب من روسيا وأيضاً الصين؟ وقد كان للأميركيين خبرة سابقة مع جماعات الإسلام السياسي في مواجهة السوفيات على الأراضي الأفغانية، ذلك يوم كان يتم استقبال أعضاء (طالبان) في البيت الأبيض، في ضيافة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، وفي الوقت نفسه كانت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة تخرج على الأميركيين واصفة إياهم بأنهم (المقاتلون الأحرار)».
هل تكرر واشنطن المشهد من دون اعتبار لدروس التاريخ والخسائر التي لحقت بها من جراء «طالبان» و«القاعدة»؟
ما تقدم في كل الأحوال يبقى داخل دائرة الاحتمالات، غير أن تصريحات شويغو توضح لنا إلى أي حد ومد هناك صحوة روسية هدفها عدم السماح بتكرار الألاعيب الأميركية مرة أخرى.
لم تعد مسألة الحضور الداعشي في أفغانستان إرهاصات أو تسريبات إعلامية، بل حقائق مزعجة للآسيويين، الذين يعلمون تمام العلم أنهم ربما على مقربة من مواجهات بالوكالة، لا سيما بعد مقتل 43 «داعشياً» مسلحاً على الأقل من «الدواعش» في غارتين جويتين منفصلتين شرق أفغانستان، في الأسبوع الأول من مايو الحالي، وقد استهدفت الغارتان معسكرات تدريب تابعة لـ«داعش» في حي شابارا بإقليم كونار بشرق البلاد.
والمفاجأة أنه كان بين القتلى عدد من الباكستانيين والأوزبك وجنسيات آسيوية أخرى، بل الأكثر صدمة أن من بين القتلى كان هناك قيادي «أوزبكي» بارز تم التعرف عليه، كان من الداعمين لتنظيم «القاعدة» على الأراضي الأفغانية، قبل أن ينضم إلى صفوف «داعش»، الأمر الذي يعني أن هناك حركة توجه ارتدادية من قبل المناوئين لـ«طالبان» وعناصر «القاعدة» السابقين، للانجذاب نحو الدواعش ما يجعل مستقبل حضورهم أقوى عوداً وأشد إرهاباً. يوماً تلو الآخر، يتحول المشهد الأفغاني الداخلي إلى مزيد من العبث والتشظي، فالكل يقاتل الكل، فيما عقول «داعش» تستقطب مزيداً من الشباب الذي سئم التناحر الداخلي الأفغاني. تستقطبهم عبر مشاغبات ومشاغلات عقلية، واستغلال للمشاعر والمعتقدات الدينية، وباللعب على الأوتار المتناقضة، لا سيما البطالة المنتشرة هناك، وأدلجة أدمغتهم بزعم أن حروب «داعش» هي دفاع عن شرع الله، وأن الجنة ثمن لمن يموت منهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.