الإعلاميون المؤثرون سياسياً يغيّرون مسار الحكومات

براين والدن صحافي ساهم في سقوط المرأة الحديدية في بريطانيا

مقابلة أجراها والدن عام 1989 مع ثاتشر (رئيسة الوزراء آنذاك) على قناة «آي تي في» يجزم البعض بأنها من أسباب سقوطها
مقابلة أجراها والدن عام 1989 مع ثاتشر (رئيسة الوزراء آنذاك) على قناة «آي تي في» يجزم البعض بأنها من أسباب سقوطها
TT

الإعلاميون المؤثرون سياسياً يغيّرون مسار الحكومات

مقابلة أجراها والدن عام 1989 مع ثاتشر (رئيسة الوزراء آنذاك) على قناة «آي تي في» يجزم البعض بأنها من أسباب سقوطها
مقابلة أجراها والدن عام 1989 مع ثاتشر (رئيسة الوزراء آنذاك) على قناة «آي تي في» يجزم البعض بأنها من أسباب سقوطها

هناك نماذج بارزة من الإعلاميين المؤثرين سياسياً الذي ساهموا في تعديل مسار حكومات وإقناع سياسيين بتغيير خططهم وتعديل أخطائهم. منهم كان الصحافي والمحلل السياسي البريطاني براين والدن الذي توفي في شهر مايو (أيار) الماضي. وكان والدن هو أحد أشهر الإعلاميين المؤثرين على الساحة الإعلامية البريطانية خلال عهد رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر.
كانت شهرة والدن سياسياً تماثل شهرة ديفيد أتنبره في الطبيعة وعالم الحيوان. ولكن اهتمام البريطانيين بالسياسة كان دوما أقلّ. تُوفي والدن قبل أسابيع في عمر 86 عاماً تحت وطأة مرض ضيق الشعب الهوائية في الرئة المعروف باسم «امفسيما».
وهو من بين الإعلاميين القلائل التي كانت ثاتشر تخشى مواجهتهم. ولم يكن والدن هو نجم عصره الوحيد فقد كان ينافس عمالقة الصحافة السياسية مثل روبن داي، في سنوات الحكم القوي لثاتشر وتوني بلير. ولكنه كان الوحيد الذي اشتهر بأسلوب الحوار التحليلي بحيث يقنع السياسي بقبول رأي معين ثم يبنى عليه رأياً آخر ثم استنتاجات لا يجد السياسي مناصاً من القبول بها.
من المؤثرين أيضاً في حقبة ثاتشر كان روبن داي في محطة «بي بي سي»، الذي اعتنى بالمظهر العام حيث رابطة العنق الأنيقة والنظارات ذات الحواف السميكة. وكان والدن يظهر بمظهر بسيط في بدلة زرقاء اللون ويعتمد في حواراته على عشرات من القصاصات الصحافية وعلى سجل مجلس العموم الذي يُسمى «هانسارد»، مع الاهتمام بأدق التفاصيل. واهتم والدن بشرح وتبسيط الحقائق للمشاهد عبر 284 حلقة في تلفزيون نهاية الأسبوع قبل أن يحصل على برنامجه الخاص.
في بحث جرى في منتصف الثمانينات حول أفضل محاور سياسي بريطانيا حصل والدن على نسبة 87 في المائة من الأصوات حول مدى الثقة فيه، ولكنه لم يحقق سوى 7 في المائة فقط من حب الجماهير له. وكان سبب هذا التراجع في الأصوات أسلوبه الفلسفي الذي يبدو فيه وكأنه يتعالى به على المشاهد العادي، ونبرة الصوت، وعدم النطق الصحيح لحرف الراء، بالإضافة إلى أسلوبه الذي كان يتمحور حول نفسه.
ولكنه مع ذلك كان بارعاً في حواراته السياسية، وذلك لخبرته في عالم السياسة بحث كان يعرف أسلوب السياسيين جيداً، وكان في حواراته يبدو وكأنه يقرأ عقولهم. وكان والدن يبتعد عن مجتمع لندن المخملي وحفلاته ويفضل مجموعات الأصدقاء من أيام الجامعة وزملاء الإعلام. وعندما أُتيحت له فرصة التقاعد المبكر انتقل على الفور إلى جزيرة غيرنسي التي توفر أسلوب معيشة تقليدياً.
من المؤثرين أيضاً في الوقت الحاضر من متبعي أسلوب والدن الصحافي أندرو نييل، الذي قال عن والدن إنه كان من أبرع المحاورين السياسيين تلفزيونياً، واخترع أسلوبه الخاص في الحوار. وابتكر والدن هذ الأسلوب بعد خبرته الطويلة في البرلمان وقبله في رئاسة اتحاد طلبة جامعة أكسفورد ومحاضراته الأكاديمية في الجامعة نفسها.
وخلال فترة حكمها ظهرت ثاتشر في برامج والدن 15 مرة، وكان الحوار يبدو وكأنه مباراة في الشطرنج بين عقول فذة. وفي كل الأحوال كان الظهور في برنامج والدن يتطلب استعدادات شاملة وتحضيراً جيداً حتى لا ينقلب الوضع إلى ظهور السياسي في مواقف محرجة.
وكان لبراين والدن ضلع في سقوط ثاتشر عندما واجهها قرب نهاية عصرها بما يُشاع حولها من أعضاء برلمان حزبها الذين لم يجرؤ أحدهم على مواجهتها شخصياً. وقال والدن في أحد حواراته معها: «الانطباع السائد عنك من أعضاء البرلمان المنتمين لحزبك هو أنك قد تعانين من اختلال بسيط، فأنت متسلطة وديكتاتورية وترفضين الاستماع إلى الآخرين، فلماذا؟». وأضاف: «لماذا لا تعكسين بصفة عامة ما تقولين لي في اللقاءات الخاصة؟» وكان رد ثاتشر هو: «براين، إذا كان هناك من شخص متسلط في هذا الحوار فهو أنت!».
وحقّق والدن كثيراً من الجوائز الإعلامية، وكان شخصية العام الإعلامية في عام 1991.
قالت عنه زوجته بعد وفاته إنه كان شخصاً سعيداً وجيد الاختلاط بالآخرين. وأكدت أنه كان يعتقد بضرورة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقال قبيل وفاته إن مسؤولة مثل ثاتشر لم تكن تسمح بالأمور أن تتطور إلى هذا الحد مثلما فعلت تيريزا ماي. وأضافت زوجته أنها تأسف لعدم حضور والدن لحظة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثلما كان يأمل.
من القضايا العامة التي ساهم براين والدن في تغيير الرأي العام بشأنها خلال فترة عضوية البرلمان وبعدها من منصات الإعلام المطالبة بإنهاء عقوبة الإعدام في بريطانيا. كما ساهم في زيادة وعي العامة بنظم المعاشات والتأمين الصحي وحطم المفهوم الخاطئ السائد بأن كل مواطن له حساب خاص لدى الحكومة توضع فيه مساهماته في التأمين الصحي والمعاش. فالواقع أن كل مصروفات التأمين الصحي والمعاشات تأتي من الميزانية العامة.
هذا الأسلوب التحليلي الذكي اختفى الآن من الإعلام البريطاني لعدة أسباب، منها خوف المحطات من فقدان نسب المشاهدة عند تناول موضوعات لا تتمتع بالشعبية، والاتجاه إلى تقديم عدة فقرات في برنامج واحد على غرار المجلات ذات المواضيع المتعددة. بالإضافة إلى خوف السياسيين من قبول المشاركة في برامج حوار طويلة وعميقة. ويعتقد البعض أن حوارات والدن لا يمكن أن تحدث في عصر ماي وكوربن لأن مستشاريهما الإعلاميين لن يقبلوا بها.
والمؤسف أن برامج والدن تحولت الآن إلى الأرشيف، ولم يعد لها أهمية باقية، لأنها تتعلق بحوارات الماضي مع زعماء سابقين. ولم يبق من حوارات والدن إلا ذكرى باقية خصوصاً مع مارغريت ثاتشر كدرس مفيد في دورات دراسة الإعلام والتاريخ. فمن ناحية يمكن للسياسيين الجدد تعلم الكثير من 15 ساعة من ثاتشر في حوارات مع والدن، بينما يتعلم طلبة الإعلام من أسلوب الحوار السياسي الذي تميز به والدن. ووصف والدن أسلوبه بأنه يعتمد على قراءة كل شيء والاستماع بدقة إلى الإجابات ثم سؤال المزيد من الأسئلة بحزم وأدب.
ومن بين المحاورين السياسيين الحاليين في بريطانيا يبدو أندرو نييل هو الأقرب في أسلوبه من حوارات والدن. بينما يتبع صحافيو «بي بي سي»، من أمثال جيريمي باكسمان، وجون همفريز، أسلوب روبن داي المسرحي.
من الجيل الجديد على طريق التأثير السياسي في بريطانيا يبرز كثيرون، مثل نك روبنسون وهو يحتل منصب المحرر السياسي في «بي بي سي»، وآدم بولتون المحرر السياسي في «سكاي نيوز»، وبولي توينبي المعلقة السياسية في صحيفة «الغارديان»، وميلاني فيليبس كاتبة أعمدة في صحيفة «ديلي ميل»، وزميلها ريتشارد ليتلجون.
وعربياً، يشتهر في التأثير السياسي من ستينات القرن الماضي صحافيون عرب مثل محمد حسنين هيكل ومصطفى وعلي أمين. ومن لبنان اشتهر في الفترة نفسها سليم اللوزي، والأخير تسببت كتاباته الجريئة في مقتله. ولم يكن الوحيد الذي دفع حياته ثمناً لجرأته الصحافية، فهناك أيضاً ناجي العلي وسمير قصير وكامل مروة، والمصري رضا هلال، والسوداني محمد طه محمد أحمد.
- والدن وثاتشر... علاقة إعجاب وانتقاد
> رغم خلفية براين والدن العمالية، فإنه كان شديد الإعجاب برئيسة الوزراء عن حزب المحافظين، مارغريت ثاتشر. وفي حوار إذاعي على «بي بي سي» جرى في عام 2005 قال والدن إن «ثاتشر غيّرت كل شيء في السياسة البريطانية». وأضاف أن البريطانيين يعيشون في مجتمع اليوم المتحضر بفضل ما حققته ثاتشر في الثمانينات.
وفي تعليقه على زعماء آخرين قال إن رونالد ريغان كان رجلاً مرحاً، لم يعرف الكثير من المعلومات، ولكنه فهم أساسيات السياسة، وشارك بآرائه البسيطة الرأي العام الأميركي الذي أحبه. ولكن والدن لم يكن من المعجبين بجون ميجور الذي جاء بعد ثاتشر، لأنه لم يفتح قلبه في الحوارات الإعلامية وكره الضغوط النفسية المصاحبة للحوارات التلفزيونية ولم يكن الظهور الإعلامي من نقاط القوة لديه.
كان والدن قاسياً على ثاتشر في بعض حواراته وضغط عليها بأسئلته الصعبة، ولكنه في كل الأوقات كان عادلاً ومحايداً في مواقفه منها، رغم اختلافه معها في الآراء السياسية. كان والدن يتوجه للمشاهد الذكي الذي يريد أن يفهم.
ويختلف هذا الأسلوب تماماً عن حوارات اليوم السياسية القصيرة التي لا تهتم كثيراً بالحقائق ولا وجهات النظر المختلفة ولا تصلح إلا للنشر على «يوتيوب» كمقاطع فيديو قصيرة بها كلمات لافتة للنظر، ولكن محتواها لا يوفر أي قيمة للمشاهد.
ويمكن تذكر مدرسة براين والدن في الحوار السياسي وفق ما قاله بنفسه: «ليست وظيفتي أن أكون محققاً بوليسياً لمجرد تعزيز مكانتي وتسجيل النقاط في مواجهة الضيف. إن مهمتي هي استخراج الرأي الصحيح من هؤلاء الذين أحاورهم، وأن أمنحهم الوقت الكافي لكي يردوا».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».