عاد التوتر من جديد إلى ميدان الاعتصام عقب تنفيذ سلطات الأمن السودانية حملة لحسم بعض العناصر المتفلتة في محيط الساحة، الأمر الذي رفع من درجة استعداد المعتصمين تحسباً لأي محاولة لفض الاعتصام.
وفي غضون ذلك، استدعت الخرطوم سفيرها في الدوحة «للتشاور»، فيما دعت الولايات المتحدة المجلس العسكري الانتقالي إلى الإسراع بنقل السلطة إلى حكومة مدنية.
وداهمت قوات نظامية من الجيش السوداني ووحدات الدعم السريع على متن عشرات العربات العسكرية منطقة «كولمبيا»، الواقعة على شارع النيل قبالة جسر النيل الأزرق، والمجاورة لساحة الاعتصام بالخرطوم من جهة الشمال، وهي المنطقة نفسها التي شهدت الأسبوع المنصرم أحداث عنف أدت إلى مقتل فتاة وشاب بالرصاص على أيدي أفراد نظاميين.
ومن ناحيته، اتهم القيادي في «تجمع المهنيين السودانيين»، محمد يوسف المصطفى، من سماهم فلول نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بمحاولة إثارة العنف والفتنة في شارع النيل، وداخل منطقة «كولمبيا»، وذلك بغرض «نشر الفوضى وعدم الاستقرار وتخريب الثورة». وشهدت عمليات المداهمة إطلاق نار كثيف ومطاردات وكر وفر لبعض العناصر أدت إلى وقوع عدد من الإصابات، حسب شهود عيان.
من جانبها، قالت لجنة أطباء السودان المركزية إنها رصدت إصابة 11 شخصاً بإصابات مختلفة، بعضها بالرصاص، إثر إطلاق النار من قبل القوات النظامية في شارع النيل بالقرب من منطقة الاعتصام.
وأغلقت القوات العسكرية شارع النيل تماماً أمام حركة المرور العامة، كما أغلقت عدداً من الشوارع الرئيسية لتطويق ومحاصرة المنطقة، وأطلقت الرصاص الكثيف في الهواء، فيما سارع المعتصمون إلى تمتين المتاريس والحواجز حول محيط الاعتصام، منعاً لأي محاولة اختراق أو عملية فض قد تأتي من قبل السلطات الأمنية. وكانت اللجنة الأمنية التي يشرف عليها المجلس العسكري الانتقالي، المكونة من الجيش وقوات «الدعم السريع» وجهاز الأمن والشرطة، قد أعلنت أنها بصدد اتخاذ إجراءات وتدابير لحسم ما سمته بالمظاهر السالبة والتفلتات في الأماكن المتاخمة لساحة الاعتصام.
من جهته، رفض تجمع المهنيين السودانيين أن تتخذ السلطات من هذه الأحداث في شارع النيل ذريعة لفض الاعتصام، وحذّر القوات العسكرية من القيام بهذه الخطوة. وأضاف المصطفى الذي كان يتحدث في مؤتمر صحافي في الخرطوم أمس أن التجمع سيقاوم أي خطوة لزعزعة ساحة الاعتصام، قائلاً: «لن نسمح بفض الاعتصام إلا على جثثنا». وأكد المصطفى أن تجمع المهنيين وشركاءه في «قوى الحرية والتغيير» يلتزمون بالسلمية في كل خطواتهم، وهذا ما ظهر جلياً أيام المظاهرات، وتيسير المواكب وداخل ساحة الاعتصام منذ دخولها في السادس من أبريل (نيسان) الماضي.
وعلى صعيد آخر، قال تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، إن المجلس العسكري لم يتشكل ليحكم السودان، بل ليشارك في الانتقال إلى حكومة بقيادة مدنية. وأدان المسؤول الأميركي، في تغريدة على «توتير»، عمليات القتل التي حدثت في الخرطوم، وأيضاً طرد ومضايقات الصحافيين في السودان، مضيفاً أن «قمع حرية التعبير والإعلام من سمات النظام السابق»، مطالباً المجلس العسكري بوقف هذه النزعة، وأي محاولة لسلب الشعب حقه في التظاهر سلمياً دون التعرض للعنف. وحث تيبور المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» على العودة إلى طاولة المفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاق عاجل.
وكانت قيادات في «قوى الحرية والتغيير» قد كشفت عن استئنافٍ مرتقب للمفاوضات بعد التقارب الكبير في الاتفاق على مقترح جديد لتجاوز الخلافات حول «المجلس السيادي» المرتقب، مشيرة إلى أن العرض وجد قبولاً مبدئياً من كثير من الأطراف، بينما لا تزال بعض الأحزاب ترفضه. ونشرت «قوى الحرية والتغيير» جدول الفعاليات الأسبوعية الذي يشمل تسيير مواكب إلى ساحات الاعتصام، وحملة إعلامية حول الإضراب السياسي الشامل والعصيان المدني المفتوح المزمع الإعلان عنه، إذا لم يتم الاتفاق مع المجلس العسكري.
إلى ذلك، استدعت وزارة الخارجية السودانية، أمس، سفيرها لدى دولة قطر بغرض التشاور، على أن يعود بعدها إلى الدوحة. وقال بابكر الصديق، الناطق باسم الخارجية السودانية، في بيان: «تود وزارة خارجية جمهورية السودان أن تفيد بأن سفير السودان لدى قطر، فتح الرحمن علي، قد استدعي إلى الخرطوم للتشاور»، موضحاً أنه سيعود فوراً بعدها إلى الدوحة. ونقلت وكالة الأنباء السودانية (سونا) عن الناطق الرسمي باسم الخارجية قوله أيضاً إن السفير سيغادر إلى الدوحة، ليكون على رأس عمله قريباً.
من جهتها، أكدت المتحدثة باسم الخارجية القطرية، لولوة راشد الخاطر، في تغريدة على «تويتر»، أن السفير أبلغ أنه في إجازة قصيرة. وأضافت المتحدثة: «يتم حالياً تداول خبر عارٍ من الصحة، متعلق باستدعاء سفير السودان لدى دولة قطر إلى الخرطوم، ولا نعرف مصدر هذا الخبر، ولم تردنا مذكرة رسمية بهذا الخصوص، بل إن سفير جمهورية السودان كان قد أرسل مذكرة لوزارة الخارجية - كما جرت العادة - بأنه سيكون في إجازة قصيرة، وحدد موعد عودته».
وكانت السلطات الأمنية السودانية قد أغلقت يوم الخميس مكتب شبكة «الجزيرة» القطرية في الخرطوم، وسحبت تصاريح عمل مراسليها وموظفيها. وقالت «الجزيرة» التي تبثّ صوراً للمظاهرات على موقعها الإلكتروني إن أجهزة الأمن السودانيّة أبلغت مدير مكتبها «بقرار المجلس العسكري الانتقالي إغلاق مكتب شبكة (الجزيرة) في الخرطوم»، وأشارت إلى أنّ القرار يشمل أيضاً «سحب تراخيص العمل لمراسلي وموظّفي شبكة (الجزيرة)»، ولفتت إلى أنّ أجهزة الأمن السودانيّة «لم تُسلّم مدير مكتب (الجزيرة) أي قرارٍ مكتوب» بهذا الشأن. واستنكرت الشبكة في بيان «قرار إغلاق مكتبها في الخرطوم، واعتبرته غير مبرر».
وكان رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، قد شارك في السعودية في القمتين العربية والإسلامية، وزار قبل ذلك كلاً من مصر والإمارات العربية المتحدة. كما زار نائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) الرياض، في مايو (أيار)، حيث التقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
واعتبر «تحالف قوى الإجماع الوطني»، إحدى الكتل الموقعة على «إعلان الحرية والتغيير»، خطاب رئيس المجلس العسكري في القمة العربية بالسعودية حول عملية انتقال السلطة، «نكوصاً وتسويفاً ينطوي على نيات مبيتة بعدم تسليم السلطة للمدنيين».
ويضم التحالف أحزاب اليسار السوداني، التي ترفض أي وجود مؤثر للعسكريين في السلطة الانتقالية. واتهم المجلس العسكري بالتخطيط لدمغ ميدان الاعتصام السلمي بأنه أصبح وكراً للجريمة، ويشكّل خطراً على الثورة والثوار، وأشار إلى أن توفير الأمن من مسؤولية الشرطة المدربة والمؤهلة التي تسجل غياباً في شوارع العاصمة. وأوضح أن «اللغة المتوعدة للمجلس العسكري تشير إلى احتمال اتجاهه لفض الاعتصام أو اختلاق أي أحداث، ليمرر عبرها مخططه».
وأكد تمسك قوى الحراك بسلميتهم في أحلك الظروف والمواجهات، ولن ينجروا لميدان العنف الذي تبحث عنه جهات كثيرة، وأن أي محاولات تستهدف ميدان الاعتصام والثوار يتحمل تبعاتها من يتبنون التصعيد ضد الثورة أياً كانت منصاتهم.
وناشد الثوار مواصلة الالتزام بالتحرك داخل ميدان الاعتصام وعدم الانتشار بشارع النيل والشوارع الفرعية خارج نطاق الاعتصام. كما دعا «الزملاء في (الحرية والتغيير) إلى مواصلة الدعوات التصاعدية بكل الأشكال السلمية والمجربة لمجابهة دعوات ونيات المجلس العسكري لإجهاض الثورة». وأشار إلى أن قرارات المجلس العسكري بتضييق الحريات الإعلامية عبر إغلاق مكاتب الفضائيات وسحب تراخيص المراسلين تضع مؤشراً جديداً على محاولات تعتيم إعلامي ممنهجة، لا تتماشى ومناخ الحرية ومكتسبات الثورة.