الصمت كأداة تعبر بها الشخصية عما تريد

رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي نموذجاً

«سيدات القمر»  -  «سيدات زحل»
«سيدات القمر» - «سيدات زحل»
TT

الصمت كأداة تعبر بها الشخصية عما تريد

«سيدات القمر»  -  «سيدات زحل»
«سيدات القمر» - «سيدات زحل»

الصَّمتُ في رواية ما بعد الحداثة موضوع سردي يقلب موازين الحكي لصالح الجانب الضعيف المغلوب، مرجحاً كفة المستلب والمظلوم، محركاً الأحداث باتجاه ثقافي يناصر الأطراف ضد المراكز. والصَّمت ليس هو اللسان الأبكم الذي لا يحقق للشخصية هويتها فلا يمكنها من بلوغ مبتغاها على أرض الواقع النصي؛ ولا هو الخرس كبتاً وخشية أو الفقدان خسارة وخيبة؛ بل هو الأداة التي بها تعبِّر الشخصية عما تريد، ممتلكة إرادة البوح من دون الحاجة إلى ترددات الكلام وذبذبات صداه، محققة سمواً نفسياً، صامدة أمام الزيف، فلا تنهار ولا تتخاذل.
وهذا ما برهنت عليه رواية «سيدات القمر» للعمانية جوخة الحارثي، وقد احتل فيها الصمت مركز الصدارة، ليكون محوراً تلتف حوله الأحداث والشخصيات، منسوجة في سلاسل سردية تنتفي فيها ظاهرياً الحاجة إلى الكلام، بينما يبزغ البوح داخلياً كمناجاة ومونولوجات، مساهماً في تصاعد دراماتيكية الحكي.
ويهيمن الصمت على أفعال الشخصيات كلها المذكرة والمؤنثة، بدءاً من «ميا» الفتاة البسيطة التي وجدت في ضجيج ماكينة الخياطة وسيلة، معها تبث شجونها، فيظهر أثر صمتها شحوباً على محياها وحملاً ثقيلاً ينوء تحته كاهلها، منتهياً بعبد الله الذي هو صنو ميا، والذي وجد في الصمت مهرباً فيه تتلاقى الأرواح التي انشطرت، وملاذاً به تتعزز هويته «أصرخ بلا صوت وأبكي بلا دموع» ص58. ويظل الصّمت ملازماً له كعلاج به يداوي قلق الوجود، محولاً الأفكار المصمتة إلى كلمات منطوقة.
وبهذا يتقدم فعل الصمت - الكتابة بينما يتضاءل فعل الكلام - المشافهة، خارقاً مواضعات المنظومة الثقافية العربية التي فيها الشفاهية سمة وركيزة جنباً إلى جنب الأبوية والفحولية، اللتين بهما هيمن الشعر على حساب السرد، وصار التلميح مقدماً على التصريح والإيجاز متفوقاً على التفصيل، ومن ثم تراجع الواقعي أمام الوهمي.
وصار المتكلم في الأدب لا يفصح مباشرة؛ بل يداري مستتراً، مستعيراً أو مكنيّاً أو مشبهاً؛ وهذا ما تريده المنظومة الرسمية. ولا مجال البتة لمخالفة ما تريد؛ إلا بالمراوغة التي معها يدسُّ المتكلم مخفيات ينبغي أن تكون متوارية في الظل، ويسرِّب مكاشفات ينبغي أن تظل قابعة في الخفاء، وهذا ما فعله النفزاوي في كتابه «الروض العاطر في نزهة الخاطر» الذي ورد ذكره في الرواية أكثر من مرة لغايات دلالية وفكرية، تكرس الصمت وتؤكد فاعليته.
والكتاب نص خليع غادر مؤلفه المباح ودخل في المستباح، وما كان للمنظومة الثقافية أن تسمح به يدخل إلى مكتبتها؛ لولا أن مؤلفه كشف المستور وهو يتصنع المداراة، وأهمل الكلام بوصفه فتقاً واستباحة، وتمسك بالكتابة بوصفها رتقاً وحجاباً لحرمة الجسد، فمرر بملامح إيروتيكية محارم ارتكبتها النساء وتهتكات أفعال مارسها العبيد والجواري. وبعض من هذا حاولت القيام به رواية «سيدات القمر»، وهي تمرر الصمت وتهمل الصوت كنوع من الإدانة للكلام الذي معه لا بد من المحو والكتمان لتبدل به الكتابة التي معها الإزاحة والأمان. وقد غدت الكتابة بمثابة هذيان ولعب ينتهيان بالمكيدة والتهتك والاستيهام، وهو ما عبرت عنه مصائر شخصيات الرواية التي أصابها الهذيان والثرثرة، بعد أن ثارت على الكلام.
وإذا كانت النساء في رواية «سيدات زحل» للروائية لطفية الدليمي خائبات لأن الرجال خذلوهن بالحرب والموت؛ فإن نساء «سيدات القمر» خائبات بخيبة الرجال أنفسهم الذين هم واقعون أيضاً تحت قمع واقع أبوي متزمت لا يرحم. ليكون المجموع مستلباً بالكلام، ومنفلتاً بالصمت، متحرراً غير مقيدٍ.
وبالمراهنة السردية على الصمت، تنتفي الحاجة إلى الصوت بعد أن نفضت الذات يديها منه بوصفه هو الصخب والتشويش، ولهذا وضعت (ميا) ثقتها في الصمت فلم تكن تسمع ضجيج ماكينة الخياطة؛ بل كانت «تسمع كل الأصوات في العالم وترى كل الألوان» الرواية، ص7.
وبالصمت اختزلت (ميا) الكلام فتحول الخرس إلى هوس، والإنصات إلى إنطاق، والسكوت إلى بوح وأنين. فحين ولدت ابنتها صارت «تنظر لطفلتها في حياد صامت»، ولما أرادت أن تعلن حزنها ألجمها الصوت «الصراخ يؤذي الميت»، ورغم أنها تركت الخياطة وحاولت الدراسة وتعلم الإنجليزية وقيادة السيارة؛ فإنها ظلت في مواجهة صمتها، والسبب أنها «تعتبر الصمت أعظم شيء يمكن للإنسان عمله، حين تصمت تستمع بشكل جيد للآخرين، وحين تمل من كلامهم تستمع لنفسها. في الصمت لا تقول شيئاً فلا يؤذيها شيء. في أحيان كثيرة ليس لديها ما تقوله وفي أحيان أخرى تعرف أنها لا تريد أن تقول وحسب» الرواية، ص52.
وبهذا فرضت حضورها الطاغي الذي به رأت العالم من زاوية أخرى، تلاشى فيها القبح والسواد وحلَّ محلهما الجمال والاخضرار، فبدا الوجود ملكوتاً سرمدياً، يضمحل فيه الاستغلال والجشع والاضطهاد.
ولا يقتصر الصمت على ما يخيف الذات وينال من قيمتها، كنظرة المجتمع الدونية للنفساء والحائض والتعامل اللاإنساني مع العبيد والجواري، ومنع الفتيات الباكرات من مجالسة النساء المتزوجات؛ بل يتعداه إلى الرجولة التي كان عليها أن تظل ساكتة عن التصريح والتجرد كي تتواءم مع المجموع ولا تتجاوز الممنوع، مختبئة خلف الاستعارات والكنايات، فلا يبان لها كيان.
وقد عملت الانتقالات الزمانية المفاجئة من الماضي إلى الحاضر وتعدد الأصوات في الرواية والتنوع بين ضميري الغياب والمتكلم، في جعل الشخصيات بمجموعها مناهضة للكلام متحدية الممنوع منزاحة عن المألوف، راغبة في غير المألوف، لعلها تمتلك حريتها، التي بها يتشكل وجودها بالصورة التي تتمناها، وقد احتلت مكانتها المركزية في الحياة، بفاعلية كلية لا جزئية وبانتصار لا خذلان معه. وهو ما فعله الصمت الذي به أصبح للسكوت دلائل وصار للخرس عنوان «الصحافة سكتت حتى عن اغتصاب حنان وزميلاتها المدرسات في الجنوب وسكت الأهالي» الرواية، ص31.
ويكون في ظهور شخصية نجية المسماة القمر ومراهنتها على جذب عزان والد ميا إلى شباكها مراهنة على نوع آخر من الصمت هو الهذيان الذي فيه تغلب الذات الآخر، تاركة إياه صريع سكوته الذي فيه نهايته «أنا نجية وألقب بالقمر وأريدك أنت». ولولا هذه الإرادة الأنثوية ما كان لنجية أن تكون قوية وناجحة في وسط مجتمع ذكوري فـ«اشتغلت بالتجارة وصار بيتها قبلة للضيوف والمحتاجين وهابها الرجال والنساء» الرواية، ص43.
إن المرأة حين تتمرد على العادات وتعلن عن إمكانات ذاتها، لا تعود هي وديعة الرجل، اتباعاً ورضوخاً؛ بل تصير نداً وضداً، فترفض الكلام عن المتوارى في الدواخل ألماً وازدراء وتستبدل به الصمت الذي معه تشعر بالخفة والطيران. وهو الشعور نفسه الذي به وصف عبد الله ميا بالمضيفة اللطيفة المعلقة بين الأرض والسماء، كأن صمتها هو السحب الكثيفة التي تخلصها من الجاذبية.
وهذا هو التحول الذي تعمَّدت سرديات الصمت صنعه والإتيان به إلى عالم الكتابة الروائية، التي فيها المرأة ليست أقل من الرجل؛ كما أنّ الاثنين ليسا أقل قوة من واقع قاسٍ ومرير يعج بالقيود التي تكبل الحيوات فتجبرها على الاستسلام أمام حتمياتها؛ بيد أن المقاومة هي التي سيكون السكوت فيها انتفاضاً والخرس استنهاضاً، وقد صار لكل شخصية لسانٌ آخر، لا يتكلم لكنه يعبر، ولا يتذمر بيد أنه يتحدى. وقد بدت كياناً يبزغ كي يقلب الواقع رأساً على عقب، ويتحرر كي يدشن بالحاضر مستقبلاً أفضل. كأن الشخصية وليدة ما تفعل وليست وليدة ما تقول، كما أنها ليست صنيعة المجتمع الذي يمن عليها، بل هي صنيعة نفسها بمواقفها وتأملاتها ورؤاها.
وفي ذلك إشارة اليغورية إلى أنّ الإنسان مقموع بالعموم. والقامع هي العادات والتقاليد التي بسطوة جبروتها وقسوة مواضعاتها، تضغط على الألسن فتلعثمها، وتضع يديها على الأفواه فتكممها، وعلى الحناجر فتخنقها؛ لكن المبادرة تظل بيد الإنسان نفسه، ومدى إحساسه بالإرادة التي بها يستقل متحدياً الحرمان، رافضاً التلاشي والتهميش، صامتاً من دون صخب، وكاتباً لكن بلا ضجيج، فاضاً كتمانه بالبوح الذي به لا يمسك بالمكان والزمان فحسب؛ بل يحلق بينهما حراً في الفضاء.
- أكاديمية وناقدة عراقية


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!