الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

بين أسوار القصر وطموح الدبلوماسية ومناصرة حقوق المرأة

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد
TT

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

لقد تحدثوا من دون مترجم!
عبارة ترددت في العديد من وسائل الإعلام اليابانية لوصف ما حدث خلال استقبال الإمبراطور الياباني ناروهيتو والإمبراطورة ماساكو للرئيس الأميركي دونالد ترمب والأميركية الأولى ميلانيا ترمب في بداية الأسبوع الحالي (الاثنين 27 مايو/ أيار).
العفوية والراحة اللتان سادتا كلاً من اللقاء والمأدبة المقامة في القصر الإمبراطوري على شرف ترمب بصفته أول زعيم أجنبي يلتقي الإمبراطور الجديد، شكلتا صورة غير معهودة للأسرة الإمبراطورية. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي توالت التعليقات الإيجابية من المتابعين اليابانيين، وخصوصاً تلك التي تعبر عن الإعجاب بالإمبراطورة ماساكو وسلوكها الراقي وقدرتها على التحدث بالإنجليزية بطلاقة (وهو أمر يعدّ نادراً حتى بين كبار المسؤولين في بلد يعرف بانعزاليته اللغوية رغم تقدّمه الاقتصادي). حتى صحيفة «النيويورك تايمز» وصفت الإمبراطورة ماساكو بأنها كانت «نجمة» خلال زيارة ترمب، وهي الصحيفة ذاتها التي كانت قد عنونت مقالاً سابقاً عنها بعبارة «إمبراطورة في قفص». فما الذي حدث؟ وهل ستستطيع الإمبراطورة تحقيق تغيير حقيقي في المؤسسة الإمبراطورية التي تُعرف بصرامتها الفائقة؟

انتهى عصر «هيسي» الإمبراطوري في اليابان مع نهاية شهر أبريل (نيسان) المنصرم بعدما استمر 31 سنة. وفي اليوم الأول من شهر مايو 2019 دخلت اليابان عصراً إمبراطورياً جديداً باسم «ريوا». وواكب هذا الانتقال مناخ احتفالي غير مسبوق في اليابان، ذلك أن مراسم تولي إمبراطور جديد لمهامه تترافق عادة مع مراسم الحداد على إمبراطور راحل. ولكن هذا الأمر لم يحدث هذه المرة بفضل تنحي الإمبراطور السابق أكيهيتو رسمياً عن العرش ليصبح بمثابة «الإمبراطور الأب»، مفسحاً المجال أمام ابنه ولي العهد ناروهيتو ليتبوأ عرش أعرق سلالة حاكمة في العالم، وإلى جانبه زوجته الإمبراطورة ماساكو.

مناسبة استثنائية

عاشت اليابان، إذاً، حالة من النشوة تشبه ما يحدث عادة في فترة رأس السنة...
عاشت مختلف أنواع التعبيرات الثقافية والسلوكية المتعلقة بهذا الحدث، بدءاً من إبرام عقود زواج بعد منتصف تلك الليلة ووصولاً إلى التنزيلات في المتاجر والبضائع التي تحمل اسم العهد الجديد. غير أن الحدث الأكثر أهمية على الإطلاق تمثل في إقامة شعائر تكريس الإمبراطور الجديد في منصبه وفق ديانة الشينتو التي تنتمي لها الأسرة الإمبراطورية.
إنها طقوس فريدة تابع العالم تفاصيلها المنفذة بأناقة ودقة شديدتين، تتضمن تسليم الكنوز الثلاثة التي تتوارثها السلالة الإمبراطورية، وهي الجوهرة والسيف والمرآة، ولائحة طويلة من المراسم التي لم تتغير منذ قرون.
ولكن القواعد التي تحكم تلك الطقوس تنصّ أيضاً على تحريم حضور الإناث من الأسرة الإمبراطورية، وهو ما عنى غياب الإمبراطورة ماساكو عن مراسم تكريس الإمبراطور. ويكتسب هذا الغياب بعداً رمزياً بالغ الوضوح هذه المرة، نظراً لصورة الإمبراطورة الحالية ماساكو كامرأة عملت على اقتحام عوالم كان محصورة على الذكور في المجتمع الياباني. فماساكو أوادا، التي تخرّجت في جامعة هارفارد، وعملت في وزارة الخارجية، كانت من الدفعة الأولى من السيدات اللواتي استطعن تلقي معاملة مماثلة إلى حد ما مع نظرائهنّ من الرجال في الوزارة إثر تغييرات كان قد طال انتظارها في قوانين الحكومة اليابانية.
وكانت أقاويل كثيرة انتشرت عن تردّدها في قبول الزواج بولي العهد، وتخوّفها من القواعد التي ستتحكم بتصرفاتها ما إن تدخل القصر الإمبراطوري. وهو ما حدث فعلاً وبشكل ربما فاق تصورها، إذ عانت من عوارض نفسية نشأت عن الضغط الذي واجهته لسنوات، وتأخرت في إنجاب طفلتها الوحيدة آيكو... التي تُعرف باسمها الإمبراطوري الأميرة توشي.

أصل الأسرة

ولدت ماساكو أوادا لأسرة يابانية تعود جذورها إلى عشيرة تحمل الاسم ذاته «أوادا» ازدهر نفوذها في مقاطعة نييغاتا بشمال غربي جزيرة هونشو (كبرى جزر الأرخبيل الياباني) منذ أواسط عصر إيدو في القرن السادس عشر وأنجبت عدداً من الشخصيات المعروفة. أما والدها هيساشي أوادا – الذي يحمل درجة الدكتوراه من جامعة كمبريدج البريطانية، فهو من أبرز الدبلوماسيين ورجال القانون في اليابان خلال العقود الأخيرة، حيث كان سفير اليابان لدى الأمم المتحدة من عام 1994 ولمدة أربع سنوات ترأس خلالها مجلس الأمن مرتين، ثم انضم كقاضٍ إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ليصبح بعدها رئيساً للمحكمة من عام 2009 إلى عام 2012. ووالدتها يوميكو إيغاشيرا أيضاً سليلة أسرة معروفة من الصناعيين ورجال الأعمال.
مسيرة الأب الحافلة بالتنقلات والمناصب اقتضت أن ترتحل الأسرة بشكل متكرر من دولة لأخرى. ماساكو، الابنة البكر للعائلة، ولدت في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 1963. وأمضت فترات من طفولتها ومراهقتها في موسكو ونيويورك وبوسطن، ثم انتسبت لكلية رادكليف في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة عام 1981 حيث درست العلوم الاقتصادية. ومنذ تلك الفترة بدأت بإظهار إمكانياتها القيادية إذ ترأسّت الجمعية اليابانية في كليتها وبرزت كناشطة في مجال العلاقات الدولية حيث كان لها دور فعّال في مؤازرة عمل القنصلية اليابانية في بوسطن، وذلك خلال فترة شهدت توتراً في العلاقات اليابانية الأميركية بسبب غزو الشركات اليابانية للمجال الاقتصادي الأميركي بشكل غير مسبوق، وبروز مخاوف على الجانب الأميركي من تزايد النفوذ الاقتصادي لليابان واختلال الميزان التجاري لصالح طوكيو... وهو ما يذكر بالأزمة الحالية بين واشنطن وبكين. كذلك أمضت ماساكو فترة أثناء المرحلة الجامعية في جامعة غرونوبل في فرنسا ما يفسّر إتقانها للغة الفرنسية أيضاً.
بعد تخرّجها في هارفارد عام 1986 عادت ماساكو إلى طوكيو للتحضير لامتحان دخول وزارة الخارجية في وقت كانت حظوظ النساء شحيحة جداً في دخول الوزارة المرموقة. إلا أن إمكانياتها المميزة ساعدتها على أن تكون من ضمن ثلاث نساء نجحن في الامتحان وباشرن عملهنّ إلى جانب خمسة وعشرين رجلاً قُبلوا ضمن تلك الدفعة.
وخلال العامين التاليين أنجزت عدداً من المهمات بأداء متميز وفقاً لزملائها. وبعدها أرسلتها الوزارة في منحة أكاديمية لدراسة العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد في بريطانيا، ولكنها عادت إلى طوكيو عام 1990 من دون إكمال البرنامج الدراسي.

اللقاء الأول مع ناروهيتو

أثناء مرحلة التحضير لامتحان وزارة الخارجية التحقت ماساكو ببرنامج أكاديمي لمدة ستة أشهر في جامعة طوكيو، وخلال تلك الفترة كان اللقاء الأول بينها وبين ولي العهد الأمير ناروهيتو، وذلك في حفل استقبال أقيم على شرف أميرة من العائلة المالكة الإسبانية. أعجب الأمير بماساكو فوراً واستمر في لقائها لعدة مرات مما أثار اهتمام الصحافة في الشهور التي تلت. ورغم مغادرتها اليابان للدراسة في أوكسفورد لم ينقطع اهتمام ولي العهد بها. وبعدما رفضت عرضه للزواج مرتين نظراً لأن ذلك يعني تخليها عن مسيرتها المهنية الواعدة، قبلت في المرة الثالثة، يوم عيد ميلادها التاسع والعشرين في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 1992. وبينما تدور إشاعات رومانسية حول وعد الأمير الشاب بأنه «سيحميها مدى الحياة» من ضغوط الوكالة الإمبراطورية، فإن الرواية القائلة بأنه أقنعها بكون المهام الرسمية التي تقوم بها الإمبراطورة أحد أنواع العمل الدبلوماسي، تبدو أقرب للصحة. ولقد شهدت مزرعة البطّ التابعة للقصر الإمبراطوري في مقاطعة تشيبا (شرقي طوكيو) عرض الزواج الذي تكلل بالنجاح، وتعدّ المزرعة منذ ذلك الوقت موقعاً رومانسياً بالنسبة لعشاق أخبار الأسرة الإمبراطورية.
في مطلع العام التالي 1993 أعلن رسمياً عن الخطوبة التي تمت في أبريل من العام ذاته. وفي التاسع من يونيو (حزيران) 1993 أقيم حفل زفاف تقليدي ياباني لولي العهد الأمير ناروهيتو وماساكو أوادا التي اكتسبت لقب صاحبة السمو الإمبراطوري ولية العهد، كما جرت تسمية زهرة من نوع الأوركيد باسمها، وفقاً للتقاليد. ويعدّ ذلك الزفاف الثالث الذي يجمع عضواً في العائلة الإمبراطورية بسيدة من العامّة، وهو تقليد لم يبدأ إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتخلي الإمبراطور هيروهيتو عن صفة الألوهية.

الضوابط الصارمة

مع حصول ماساكو على منصبها الرسمي داخل الأسرة الإمبراطورية، بدأت الضوابط الصارمة التي تحكم تصرفات العائلة الإمبراطورية تضيّق الخناق على الأميرة الشابة. وبالإضافة إلى القيود السلوكية كان هناك ضغط الحاجة لإنجاب وريث للعرش الإمبراطوري، وهو ما لم يحصل في النهاية. فبعد ثماني سنوات من الزواج وفترات طويلة من العلاج النفسي والجسدي وحمل لم يكتمل عام 1999. أنجبت الأميرة ماساكو فلذة كبدها الوحيدة الأميرة توشي (آيكو) عام 2001. ولم تنتهِ معاناة الأميرة بعد الإنجاب، بل تفاقمت لدرجة دفعت بولي العهد للتصريح علناً للصحافة عام 2004 بأن موظفي الوكالة يتصرّفون بشكل يهدف لإنكار القدرات الشخصية للأميرة، وأن ذلك قد أثر بشكل مباشر على وضعها الصحي. وعقب ذلك الإعلان، وبإصرار من ناروهيتو والأطباء المشرفين على علاج الأميرة خفّض عدد المهام الرسمية التي تشارك بها إلى ما يقارب الصفر لسنوات، وفي الآن ذاته كانت لديها الرغبة في المشاركة في الرحلات الخارجية لزوجها إلا أن وكالة القصر الإمبراطوري منعتها من ذلك أملاً في رفع فرص إنجابها لطفل آخر يؤمل أن يكون ذكراً.
وفي أواسط العقد الحالي بدأت الأميرة ماساكو بالعودة لأداء جزء من الدور المنوط بها كزوجة ولي العهد. ويبدو أن صحتها النفسية في تحسن مستمر، ولكن المقرّبين والاختصاصيين النفسيين يؤكدون أن الأمر لا يعني أنها قد تعافت تماماً، وأن على من حولها أن يتوقّعوا مرورها بموجات من التحسن والانتكاس على طريق الشفاء.

تاريخ يعيد نفسه

كثيرون من اليابانيين يرون أن التاريخ يكرر نفسه من خلال معاناة الإمبراطورة ماساكو، إذ أن الإمبراطورة السابقة ميتشيكو كانت قد مرّت بظروف مشابهة. ذلك أن ميتشيكو شودا، التي ولدت أيضاً في كنف عائلة ميسورة عالية الثقافة، كانت أول امرأة من العامة تدخل القصر الإمبراطوري بعد زواجها بولي العهد (يومذاك) أكيهيتو عام 1959.
السيدة الأنيقة التي مثلت المرأة المعاصرة، في حينه، وجدت نفسها تنهار تحت عبء الحياة الإمبراطورية وقيودها، حتى أنها فقدت القدرة على النطق لعدة أشهر في ستينيات القرن المنصرم، وتعرضت لانهيار الأعصاب عدة مرات. إلا أنها في نهاية المطاف حازت على إعجاب الكثير من اليابانيين من خلال التزامها بأداء مهماتها الرسمية، وخصوصاً، عند زيارة المناطق المنكوبة بعد الكوارث مع زوجها. كذلك عُرفت بحساسيتها الأدبية وإبداعها الشعري في نظم قصائد «واكا» التقليدية وترجمة أدب الأطفال وتأليف الكتب المصورة للناشئة. ثم إنها حققت بعض التغييرات الفعلية في الممارسات المتبعة داخل القصر، ومنها إصرارها على الإشراف الكامل على تربية أولادها بنفسها، رغم أن التقاليد تنص على أن يتولّى مختصون تربويون الإشراف اليومي على تعليم أولاد الإمبراطور.

ملفات المستقبل

قد يكون من الصعب على الإمبراطورة الحالية أن تجري تغييرات جذرية في مؤسسة ترجع تقاليدها لقرون. وربما يكون الملف الأصعب هو ملف التوريث، إذ أن العرش الإمبراطوري سيذهب بعد الإمبراطور الحالي إلى أخيه الأمير أكيشينو إن كان على قيد الحياة، أو إلى ابن أخيه الأمير هيساهيتو، نظراً لأن القواعد الحالية تمنع وصول أنثى للعرش الإمبراطوري. إلا أن ملفات أخرى قد تشهد تطورات كبيرة، وربما يكون العالم قد اطلع على نموذج من ذلك خلال زيارة الرئيس ترمب لطوكيو.
بعض المختصين بشؤون القصر الإمبراطوري يتوقعون أن تتجاوز الإمبراطورة ماساكو ما أنجزته سالفتها الإمبراطورة ميتشيكو، وأن تتبنى عدداً من القضايا بشكل مستقل عن زوجها، على رأسها قضية رفع مساهمة المرأة في المجتمع وسوق العمل الياباني، وهي مسألة تبدو عصيّة على الحل رغم السياسات المعلنة من الحكومات المتعاقبة لدعم مساواة المرأة بالرجل في الشركات والمؤسسات اليابانية.
أيضاً الإمبراطورة قد تلعب دوراً تكاملياً مع زوجها فيما يخص القضايا البيئية، إذ يعرف عن الإمبراطور أنه متخصّص أكاديمياً في شؤون المياه، وخصوصاً في عدد من مناطق العالم الثالث، أما الإمبراطورة ماساكو فقد انخرطت ضمن عملها في وزارة الخارجية في ملفات السياسة البيئية ضمن إطار علاقة اليابان بمنظمة التعاون الدولي والتنمية التي تضم 30 دولة من الأكثر تقدماً في العالم من الناحية الاقتصادية.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.