الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

بين أسوار القصر وطموح الدبلوماسية ومناصرة حقوق المرأة

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد
TT

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

الإمبراطورة ماساكو... وجه اليابان الأنثوي الجديد

لقد تحدثوا من دون مترجم!
عبارة ترددت في العديد من وسائل الإعلام اليابانية لوصف ما حدث خلال استقبال الإمبراطور الياباني ناروهيتو والإمبراطورة ماساكو للرئيس الأميركي دونالد ترمب والأميركية الأولى ميلانيا ترمب في بداية الأسبوع الحالي (الاثنين 27 مايو/ أيار).
العفوية والراحة اللتان سادتا كلاً من اللقاء والمأدبة المقامة في القصر الإمبراطوري على شرف ترمب بصفته أول زعيم أجنبي يلتقي الإمبراطور الجديد، شكلتا صورة غير معهودة للأسرة الإمبراطورية. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي توالت التعليقات الإيجابية من المتابعين اليابانيين، وخصوصاً تلك التي تعبر عن الإعجاب بالإمبراطورة ماساكو وسلوكها الراقي وقدرتها على التحدث بالإنجليزية بطلاقة (وهو أمر يعدّ نادراً حتى بين كبار المسؤولين في بلد يعرف بانعزاليته اللغوية رغم تقدّمه الاقتصادي). حتى صحيفة «النيويورك تايمز» وصفت الإمبراطورة ماساكو بأنها كانت «نجمة» خلال زيارة ترمب، وهي الصحيفة ذاتها التي كانت قد عنونت مقالاً سابقاً عنها بعبارة «إمبراطورة في قفص». فما الذي حدث؟ وهل ستستطيع الإمبراطورة تحقيق تغيير حقيقي في المؤسسة الإمبراطورية التي تُعرف بصرامتها الفائقة؟

انتهى عصر «هيسي» الإمبراطوري في اليابان مع نهاية شهر أبريل (نيسان) المنصرم بعدما استمر 31 سنة. وفي اليوم الأول من شهر مايو 2019 دخلت اليابان عصراً إمبراطورياً جديداً باسم «ريوا». وواكب هذا الانتقال مناخ احتفالي غير مسبوق في اليابان، ذلك أن مراسم تولي إمبراطور جديد لمهامه تترافق عادة مع مراسم الحداد على إمبراطور راحل. ولكن هذا الأمر لم يحدث هذه المرة بفضل تنحي الإمبراطور السابق أكيهيتو رسمياً عن العرش ليصبح بمثابة «الإمبراطور الأب»، مفسحاً المجال أمام ابنه ولي العهد ناروهيتو ليتبوأ عرش أعرق سلالة حاكمة في العالم، وإلى جانبه زوجته الإمبراطورة ماساكو.

مناسبة استثنائية

عاشت اليابان، إذاً، حالة من النشوة تشبه ما يحدث عادة في فترة رأس السنة...
عاشت مختلف أنواع التعبيرات الثقافية والسلوكية المتعلقة بهذا الحدث، بدءاً من إبرام عقود زواج بعد منتصف تلك الليلة ووصولاً إلى التنزيلات في المتاجر والبضائع التي تحمل اسم العهد الجديد. غير أن الحدث الأكثر أهمية على الإطلاق تمثل في إقامة شعائر تكريس الإمبراطور الجديد في منصبه وفق ديانة الشينتو التي تنتمي لها الأسرة الإمبراطورية.
إنها طقوس فريدة تابع العالم تفاصيلها المنفذة بأناقة ودقة شديدتين، تتضمن تسليم الكنوز الثلاثة التي تتوارثها السلالة الإمبراطورية، وهي الجوهرة والسيف والمرآة، ولائحة طويلة من المراسم التي لم تتغير منذ قرون.
ولكن القواعد التي تحكم تلك الطقوس تنصّ أيضاً على تحريم حضور الإناث من الأسرة الإمبراطورية، وهو ما عنى غياب الإمبراطورة ماساكو عن مراسم تكريس الإمبراطور. ويكتسب هذا الغياب بعداً رمزياً بالغ الوضوح هذه المرة، نظراً لصورة الإمبراطورة الحالية ماساكو كامرأة عملت على اقتحام عوالم كان محصورة على الذكور في المجتمع الياباني. فماساكو أوادا، التي تخرّجت في جامعة هارفارد، وعملت في وزارة الخارجية، كانت من الدفعة الأولى من السيدات اللواتي استطعن تلقي معاملة مماثلة إلى حد ما مع نظرائهنّ من الرجال في الوزارة إثر تغييرات كان قد طال انتظارها في قوانين الحكومة اليابانية.
وكانت أقاويل كثيرة انتشرت عن تردّدها في قبول الزواج بولي العهد، وتخوّفها من القواعد التي ستتحكم بتصرفاتها ما إن تدخل القصر الإمبراطوري. وهو ما حدث فعلاً وبشكل ربما فاق تصورها، إذ عانت من عوارض نفسية نشأت عن الضغط الذي واجهته لسنوات، وتأخرت في إنجاب طفلتها الوحيدة آيكو... التي تُعرف باسمها الإمبراطوري الأميرة توشي.

أصل الأسرة

ولدت ماساكو أوادا لأسرة يابانية تعود جذورها إلى عشيرة تحمل الاسم ذاته «أوادا» ازدهر نفوذها في مقاطعة نييغاتا بشمال غربي جزيرة هونشو (كبرى جزر الأرخبيل الياباني) منذ أواسط عصر إيدو في القرن السادس عشر وأنجبت عدداً من الشخصيات المعروفة. أما والدها هيساشي أوادا – الذي يحمل درجة الدكتوراه من جامعة كمبريدج البريطانية، فهو من أبرز الدبلوماسيين ورجال القانون في اليابان خلال العقود الأخيرة، حيث كان سفير اليابان لدى الأمم المتحدة من عام 1994 ولمدة أربع سنوات ترأس خلالها مجلس الأمن مرتين، ثم انضم كقاضٍ إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ليصبح بعدها رئيساً للمحكمة من عام 2009 إلى عام 2012. ووالدتها يوميكو إيغاشيرا أيضاً سليلة أسرة معروفة من الصناعيين ورجال الأعمال.
مسيرة الأب الحافلة بالتنقلات والمناصب اقتضت أن ترتحل الأسرة بشكل متكرر من دولة لأخرى. ماساكو، الابنة البكر للعائلة، ولدت في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 1963. وأمضت فترات من طفولتها ومراهقتها في موسكو ونيويورك وبوسطن، ثم انتسبت لكلية رادكليف في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة عام 1981 حيث درست العلوم الاقتصادية. ومنذ تلك الفترة بدأت بإظهار إمكانياتها القيادية إذ ترأسّت الجمعية اليابانية في كليتها وبرزت كناشطة في مجال العلاقات الدولية حيث كان لها دور فعّال في مؤازرة عمل القنصلية اليابانية في بوسطن، وذلك خلال فترة شهدت توتراً في العلاقات اليابانية الأميركية بسبب غزو الشركات اليابانية للمجال الاقتصادي الأميركي بشكل غير مسبوق، وبروز مخاوف على الجانب الأميركي من تزايد النفوذ الاقتصادي لليابان واختلال الميزان التجاري لصالح طوكيو... وهو ما يذكر بالأزمة الحالية بين واشنطن وبكين. كذلك أمضت ماساكو فترة أثناء المرحلة الجامعية في جامعة غرونوبل في فرنسا ما يفسّر إتقانها للغة الفرنسية أيضاً.
بعد تخرّجها في هارفارد عام 1986 عادت ماساكو إلى طوكيو للتحضير لامتحان دخول وزارة الخارجية في وقت كانت حظوظ النساء شحيحة جداً في دخول الوزارة المرموقة. إلا أن إمكانياتها المميزة ساعدتها على أن تكون من ضمن ثلاث نساء نجحن في الامتحان وباشرن عملهنّ إلى جانب خمسة وعشرين رجلاً قُبلوا ضمن تلك الدفعة.
وخلال العامين التاليين أنجزت عدداً من المهمات بأداء متميز وفقاً لزملائها. وبعدها أرسلتها الوزارة في منحة أكاديمية لدراسة العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد في بريطانيا، ولكنها عادت إلى طوكيو عام 1990 من دون إكمال البرنامج الدراسي.

اللقاء الأول مع ناروهيتو

أثناء مرحلة التحضير لامتحان وزارة الخارجية التحقت ماساكو ببرنامج أكاديمي لمدة ستة أشهر في جامعة طوكيو، وخلال تلك الفترة كان اللقاء الأول بينها وبين ولي العهد الأمير ناروهيتو، وذلك في حفل استقبال أقيم على شرف أميرة من العائلة المالكة الإسبانية. أعجب الأمير بماساكو فوراً واستمر في لقائها لعدة مرات مما أثار اهتمام الصحافة في الشهور التي تلت. ورغم مغادرتها اليابان للدراسة في أوكسفورد لم ينقطع اهتمام ولي العهد بها. وبعدما رفضت عرضه للزواج مرتين نظراً لأن ذلك يعني تخليها عن مسيرتها المهنية الواعدة، قبلت في المرة الثالثة، يوم عيد ميلادها التاسع والعشرين في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 1992. وبينما تدور إشاعات رومانسية حول وعد الأمير الشاب بأنه «سيحميها مدى الحياة» من ضغوط الوكالة الإمبراطورية، فإن الرواية القائلة بأنه أقنعها بكون المهام الرسمية التي تقوم بها الإمبراطورة أحد أنواع العمل الدبلوماسي، تبدو أقرب للصحة. ولقد شهدت مزرعة البطّ التابعة للقصر الإمبراطوري في مقاطعة تشيبا (شرقي طوكيو) عرض الزواج الذي تكلل بالنجاح، وتعدّ المزرعة منذ ذلك الوقت موقعاً رومانسياً بالنسبة لعشاق أخبار الأسرة الإمبراطورية.
في مطلع العام التالي 1993 أعلن رسمياً عن الخطوبة التي تمت في أبريل من العام ذاته. وفي التاسع من يونيو (حزيران) 1993 أقيم حفل زفاف تقليدي ياباني لولي العهد الأمير ناروهيتو وماساكو أوادا التي اكتسبت لقب صاحبة السمو الإمبراطوري ولية العهد، كما جرت تسمية زهرة من نوع الأوركيد باسمها، وفقاً للتقاليد. ويعدّ ذلك الزفاف الثالث الذي يجمع عضواً في العائلة الإمبراطورية بسيدة من العامّة، وهو تقليد لم يبدأ إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتخلي الإمبراطور هيروهيتو عن صفة الألوهية.

الضوابط الصارمة

مع حصول ماساكو على منصبها الرسمي داخل الأسرة الإمبراطورية، بدأت الضوابط الصارمة التي تحكم تصرفات العائلة الإمبراطورية تضيّق الخناق على الأميرة الشابة. وبالإضافة إلى القيود السلوكية كان هناك ضغط الحاجة لإنجاب وريث للعرش الإمبراطوري، وهو ما لم يحصل في النهاية. فبعد ثماني سنوات من الزواج وفترات طويلة من العلاج النفسي والجسدي وحمل لم يكتمل عام 1999. أنجبت الأميرة ماساكو فلذة كبدها الوحيدة الأميرة توشي (آيكو) عام 2001. ولم تنتهِ معاناة الأميرة بعد الإنجاب، بل تفاقمت لدرجة دفعت بولي العهد للتصريح علناً للصحافة عام 2004 بأن موظفي الوكالة يتصرّفون بشكل يهدف لإنكار القدرات الشخصية للأميرة، وأن ذلك قد أثر بشكل مباشر على وضعها الصحي. وعقب ذلك الإعلان، وبإصرار من ناروهيتو والأطباء المشرفين على علاج الأميرة خفّض عدد المهام الرسمية التي تشارك بها إلى ما يقارب الصفر لسنوات، وفي الآن ذاته كانت لديها الرغبة في المشاركة في الرحلات الخارجية لزوجها إلا أن وكالة القصر الإمبراطوري منعتها من ذلك أملاً في رفع فرص إنجابها لطفل آخر يؤمل أن يكون ذكراً.
وفي أواسط العقد الحالي بدأت الأميرة ماساكو بالعودة لأداء جزء من الدور المنوط بها كزوجة ولي العهد. ويبدو أن صحتها النفسية في تحسن مستمر، ولكن المقرّبين والاختصاصيين النفسيين يؤكدون أن الأمر لا يعني أنها قد تعافت تماماً، وأن على من حولها أن يتوقّعوا مرورها بموجات من التحسن والانتكاس على طريق الشفاء.

تاريخ يعيد نفسه

كثيرون من اليابانيين يرون أن التاريخ يكرر نفسه من خلال معاناة الإمبراطورة ماساكو، إذ أن الإمبراطورة السابقة ميتشيكو كانت قد مرّت بظروف مشابهة. ذلك أن ميتشيكو شودا، التي ولدت أيضاً في كنف عائلة ميسورة عالية الثقافة، كانت أول امرأة من العامة تدخل القصر الإمبراطوري بعد زواجها بولي العهد (يومذاك) أكيهيتو عام 1959.
السيدة الأنيقة التي مثلت المرأة المعاصرة، في حينه، وجدت نفسها تنهار تحت عبء الحياة الإمبراطورية وقيودها، حتى أنها فقدت القدرة على النطق لعدة أشهر في ستينيات القرن المنصرم، وتعرضت لانهيار الأعصاب عدة مرات. إلا أنها في نهاية المطاف حازت على إعجاب الكثير من اليابانيين من خلال التزامها بأداء مهماتها الرسمية، وخصوصاً، عند زيارة المناطق المنكوبة بعد الكوارث مع زوجها. كذلك عُرفت بحساسيتها الأدبية وإبداعها الشعري في نظم قصائد «واكا» التقليدية وترجمة أدب الأطفال وتأليف الكتب المصورة للناشئة. ثم إنها حققت بعض التغييرات الفعلية في الممارسات المتبعة داخل القصر، ومنها إصرارها على الإشراف الكامل على تربية أولادها بنفسها، رغم أن التقاليد تنص على أن يتولّى مختصون تربويون الإشراف اليومي على تعليم أولاد الإمبراطور.

ملفات المستقبل

قد يكون من الصعب على الإمبراطورة الحالية أن تجري تغييرات جذرية في مؤسسة ترجع تقاليدها لقرون. وربما يكون الملف الأصعب هو ملف التوريث، إذ أن العرش الإمبراطوري سيذهب بعد الإمبراطور الحالي إلى أخيه الأمير أكيشينو إن كان على قيد الحياة، أو إلى ابن أخيه الأمير هيساهيتو، نظراً لأن القواعد الحالية تمنع وصول أنثى للعرش الإمبراطوري. إلا أن ملفات أخرى قد تشهد تطورات كبيرة، وربما يكون العالم قد اطلع على نموذج من ذلك خلال زيارة الرئيس ترمب لطوكيو.
بعض المختصين بشؤون القصر الإمبراطوري يتوقعون أن تتجاوز الإمبراطورة ماساكو ما أنجزته سالفتها الإمبراطورة ميتشيكو، وأن تتبنى عدداً من القضايا بشكل مستقل عن زوجها، على رأسها قضية رفع مساهمة المرأة في المجتمع وسوق العمل الياباني، وهي مسألة تبدو عصيّة على الحل رغم السياسات المعلنة من الحكومات المتعاقبة لدعم مساواة المرأة بالرجل في الشركات والمؤسسات اليابانية.
أيضاً الإمبراطورة قد تلعب دوراً تكاملياً مع زوجها فيما يخص القضايا البيئية، إذ يعرف عن الإمبراطور أنه متخصّص أكاديمياً في شؤون المياه، وخصوصاً في عدد من مناطق العالم الثالث، أما الإمبراطورة ماساكو فقد انخرطت ضمن عملها في وزارة الخارجية في ملفات السياسة البيئية ضمن إطار علاقة اليابان بمنظمة التعاون الدولي والتنمية التي تضم 30 دولة من الأكثر تقدماً في العالم من الناحية الاقتصادية.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.