حين أعلن وزير الآثار المصري ممدوح الدماطي، أواخر الشهر الماضي، في مؤتمر صحافي، بدء ترميم تمثال أبو الهول الأثري في منطقة أهرامات الجيزة (غرب القاهرة)، بدا أن الخبر مدعاة للارتياح، فالأثر الذي اعتاد علماء المصريات وصفه بـ«أقدم مريض في التاريخ» سيخضع لعملية عاجلة لحمايته، لكن آخرين أزعجهم الخبر بشدة، ومن بين هؤلاء النحات المصري محمود مبروك، ورفيقه عم سعيد.
أنفق مبروك ورفيقه عم سعيد وآخرون، بينهم المثال المصري الكبير آدم حنين، عقدا من الزمان لترميم أقدم المنحوتات الضخمة المعروفة في التاريخ، الذي يُعد واحدا من بين 14 عنصرا تمثل المجموعة الهرمية، على رأسها أهرامات الجيزة الـ3، إحدى معجزات الدنيا السبع.
«الشرق الأوسط» زارت «أبو الهول»، وتحدثت معه عن أوجاعه وأسراره التي تزداد عبر القرون، وذلك بواسطة عدد من حراسه من الخبراء والمرممين الأثريين، بعضهم تابع المظاهر الأولى لمرضه، وكيف اشتدت عليه بحكم عوامل التعرية، وتسرب المياه الجوفية لموقعه في السنوات الأخيرة.
في الغرفة المتواضعة المضيافة والمخصصة لمدير عام منطقة آثار الجيزة كمال وحيد، جلس مبروك وعم سعيد وقد ارتسمت على وجهيهما علامات الرضا والاطمئنان، بعد أن تفقدا بنفسيهما حالة التمثال. يقول مبروك لـ«الشرق الأوسط»: «التمثال بحالة جيدة جدا، كل ما في الأمر أنه سيخضع لعملية صيانة دورية». تثير الرمال التي تحملها رياح الشمال غضب هذا المخلوق الأسطوري الرابض بثبات أسفل أهرامات الجيزة منذ زمن الدولة القديمة بجسد أسد ورأس إنسان. تعمل ذرات الرمال كمبرد يأكل في الجسد الضخم الذي يبلغ طوله 73.5 مترا، وعرضه 6 أمتار، وارتفاعه 20.22 متر، ويظهر الأثر الأكبر لهذه الرياح في منطقة الصدر التي تشكلت من الطبقة الأضعف من بين 3 طبقات صخرية بُنِي منها التمثال.
ويبدو أن الإزعاج المزمن لرياح الشمال أجبر «أبو الهول»، هذا الصامت الأبدي، على التخلي عن وقاره وزيارة تحتمس الرابع في الحلم خلال رحلة صيد لهذا الرجل الطموح، بحسب نصوص فرعونية تعود لعصر الدولة الحديثة. كان أبو الهول يرغب في التخلص من إزعاج الرمال، فعقد صفقة لا يمكن رفضها؛ يقيم تحتمس الرابع جدارا حول التمثال لصد الرمال، مع وعد بوضعه على كرسي الملك ليصبح الفرعون.
لا نعرف اليوم حقيقة الدور الذي لعبه «أبو الهول» في تنصيب الفرعون، لكن ما نعلمه جيدا أن تحتمس الرابع أقام جدارا من الطين اللبن لصد الرياح لا تزال أجزاء منه موجودة حتى يومنا هذا، وأنه حكم مصر بين عامي 1400 و1390 قبل الميلاد. في شتاء عام 1988 كان سقوط حجر من كتف أبو الهول بمثابة الإنذار الأخير الذي أطلقه التمثال ليحظى بالعناية الملائمة، فطوال عقود كان المريض المزمن يحظى برعاية الأحفاد. وقد وجدت رسالته صداها ببدء عمليات الترميم التي بدأت مطلع تسعينات القرن الماضي، واستمرت عقدا من الزمان.
عمل الدكتور مبروك ضمن الفريق العلمي الذي درس مواقع صخور الحجر الجيري الخالي تقريبا من الأملاح، وعمل على اكتشاف الخليط الذي استخدمه القدماء في تثبيت الكتل الصخرية أثناء تشييد أبو الهول، وقد نجحوا في تثبيت 12478 كتلة حجرية حول ثلث أبو الهول الأسفل.
واقعة تنصيب تحتمس الرابع ليست الواقعة الغامضة الوحيدة في حياة هذا التمثال الأسطوري.
يقول عصام شهاب مفتش آثار الهرم لـ«الشرق الأوسط» إننا «لا نستطيع أن نقطع بشأن العهد الذي بُني فيه أبو الهول». يميل شهاب، وهو تلميذ لعالم المصريات الأميركي مارك لينر، الذي أمضى سنوات طويلة في دراسة منطقة الأهرامات، إلى الرأي الذي يقول إن «أبو الهول» يمثل الملك خفرع باني الهرم الثاني. ويدلل شهاب على رأيه بالشبه الواضح بين تمثال الملك خفرع الذي اكتشفه عالم المصريات الفرنسي أوجوست مارييت في معبد الوادي في منطقة الأهرامات في خمسينات القرن الـ19، ووجه «أبو الهول».
ويذهب فريق آخر من الأثريين إلى أن «أبو الهول» نُحِت في عهد هذا الملك خفرع بالفعل، ولكنه يمثل إله الشمس «حور إم آخت»، ويدللون على ذلك بالمعبد الذي يواجه التمثال، وهو المعبد الذي أقام فيه المصري القديم شعائر إله الشمس. ويعتقد آخرون أن هناك من الحجج ما يرجح نسبة التمثال للأمير «حور - جدف» أحد أبناء خوفو وقد حكم عامين قبل «منكاورع» باني الهرم الثالث، بينما يرده البعض أيضا إلى خوفو نفسه باني الهرم الأكبر.
لا يدور السجال العلمي حول حقيقة الملك الذي يمثله أبو الهول فقط، إنما يمتد أيضا لطبيعة الإلهام الذي أنتج في نهاية الأمر أحد أعظم إبداعات المصري القديم. وفي غرفة بمبنى من طابق واحد محاط بأكمة أشجار على سفح الأهرامات، اطلعت «الشرق الأوسط» على جانب من هذا السجال. يرى الأثريون أن التمثال يُعد معجزة للنحت في عصره، لأنه منحوت في الصخر الطبيعي للهضبة، يقول شهاب إن تلك الصخرة التي نُحِت بها التمثال كانت جزءا من أحد المحاجر التي استُخدمت في عهد «خوفو»، ثم هُجِرت لعدم صلاحيتها.
ولما جاء مهندسو «خفرع»، ووجدوا أن هذه الصخرة ستشوه المكان عند معبد الوادي، فقرروا الاستفادة منها بنحت هذا التمثال، الذي تكفلت رياح الشمال بتشكيله على صورة قريبة من صورته الحالية. وهو أمر يرفضه الدكتور مبروك بشكل قاطع.
يقول مبروك، وهو نحات يدرك لغة الصخر: «علمتنا التجربة أن الفنان المصري لم يقم بشيء إلا وهو يقصده بذاته»، ويوجه مبروك ما يرى أنها ضربة قاضية لرواية الأثريين: «لقد عالج الفنان المصري شقا عرضيا في الصخرة التي تشكل منها التمثال بأسلوب مُعقَّد، وهو ما يشير في تقديري إلى أنه كان يقصد هذا الموقع بالذات».
يتابع مبروك: «دراستك لزوايا التمثال ومساقطه ستجعلك تدرك قدر العبقرية والقصدية في عمل الفنان المصري.. حين تأتي من أي اتجاه لترى سفح الأهرامات يكون أول ما تطالعه رأس أبو الهول الذي يحتفي بشروق الشمس.. كان يمكن للمصري أن يبحث عن صخرة أخرى أكثر قوة وبلا عيوب، لكنه أراد التمثال في هذا الموقع بالذات».
يقرأ شهاب كتاب الرمال، فالشاب الذي درس علم الأركيولوجيا لا يزال يصر على أن الطبيعة هي من ألهم المصري نحت التمثال، ويتساءل: «لماذا لا ينظر أبو الهول بشكل صريح إلى جهة الشرق، إذا كان يحتفي بالشروق؟».
قدر الرعاية التي يحظى بها أبو الهول من جانب الأثريين والفنانين، لم تجنبه سخافات أخرى، حيث طالب أحد شيوخ السلفيين، العام الماضي، بهدم التمثال، وهو أمر سبق أن تعرض له أبو الهول زمن الفاطميين على يد صوفي يُدعى «صائم الدهر»، الذي كسر أنف التمثال، حسب رواية شيخ المؤرخين المصريين تقي الدين المقريزي.
يرجح شهاب رواية المقريزي، ويقول إن آثار كسر الأنف تدل على أنها نتيجة ضربات أزميل، وهو ما يخلي ساحة مدفعي نابليون، أشهر المتهمين في القضية التي تطال أيضا البريطانيين والمماليك.
يقبض شهاب على حفنه من الرمال بين القوائم الأمامية للتمثال، ويقول: «هذه نتاج تآكل الحجر الجيري من صدر التمثال، نقوم بغربلتها وغسلها من الأملاح قبل معالجتها مرة أخرى ووضعها كطبقة رقيقة على التمثال مجددا»، ويرى شهاب أنه ما من شيء يمثل في الوقت الراهن أي خطورة على أبو الهول، خاصة بعد معالجة الآثار السلبية للمياه الجوفية بشكل كامل، مؤكدا وهو يبتسم: «سيبقى أبو الهول إلى آخر الزمان».
«أبو الهول» يتحدث لـ {الشرق الأوسط} عن أوجاعه
أشهر مريض غامض في التاريخ.. والآثار المصرية تعاود صيانته
أبو الهول «أشهر مريض في التاريخ» ونظرة من الأثري عصام شهاب أحد المهتمين بصيانته - معبد «إله الشمس» في فضاء أبو الهول.. حجارته تختزل طبقات من الزمن
«أبو الهول» يتحدث لـ {الشرق الأوسط} عن أوجاعه
أبو الهول «أشهر مريض في التاريخ» ونظرة من الأثري عصام شهاب أحد المهتمين بصيانته - معبد «إله الشمس» في فضاء أبو الهول.. حجارته تختزل طبقات من الزمن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

